يظن أغلب قاطني عالمنا الحالي حين يسمعون حديثًا عن العبودية والاسترقاق وتجارة البشر أنهم يشاهدون فيلمًا تاريخيًّا يعود إلى أوائل القرن الماضي، فلا وجود للرِّق على سطح كوكبنا الآن إلا في الأفلام التاريخية التي توثق تلك الأحداث المنكودة التي استرق خلالها الإنسان أخاه وسلبه حريته وحقه في اختيار حياة لائقة.
هكذا كان يعتقد العالم، ولكن تقرير مؤسسة ووك فري بشأن الذي تم إصداره أواخر عام 2013م، حول حالة العبودية حول العالم قد أيقظ حالمى كوكبنا على صدمة قاسية، فوفقًا لأرقام التقرير لا يزال أكثر من 30 مليون إنسان على الكوكب الأزرق يرسفون فى أغلال العبودية سواء العبودية المباشرة أو الاستغلال القسري أو تجارة الفتيات القاصرات.
دراسة مؤسسة ووك فري في لندن والتي أجريت على 162 دولة حول العالم، لم تخل أي منها من إحدى صور الرِّق الثلاثة سالفة الذكر مع تفاوت فى النسب؛ حيث يقع 72% من جملة الرقيق حول العالم في قارة آسيا خصوصًا في الهند ونيبال وباكستان، بينما يقع 16% منهم في دول صحراء إفريقيا خاصة موريتانيا تليها بنين وساحل العاج وجامبيا والجابون.
بينما تتميز دول أوروبا الغربية بوجود أدنى مخاطر للاستعباد حول العالم بواقع 2% من إجمالى عدد المستعبدين، بينما تبلغ النسبة في الأمريكيتين أقل بقليل من 4% يقع أغلبها في هاييتي، في حين تبلغ النسبة 3.5% في دول الاتحاد السوفييتي السابق و2.5% في الشرق الأوسط وشمال إفريقيا.
موريتانيا: أكبر معاقل العبودية
أتت موريتانيا في المرتبة الأولى عالميًّا في مؤشر العبودية بمعدل 150 ألف شخص مهددين بالاستعباد، من أصل 3,8 مليون هم إجمالي السكان بأعلى نسبة تقديرية للمستبدين قياسًا إلى عدد السكان حول العالم “4%”، بينما تشير تقديرات أخرى إلى أنه ما بين 10 إلى 20% من إجمالي سكان موريتانيا هم من العبيد.
في هذا السياق، وفي وقت سابق من عام 2011، كشفت إحدى برقيات السفارة الأميركية في العاصمة الموريتانية، نواكشوط، التي نشرها موقع «ويكيليكس»، النقاب عن فضيحة أخلاقية وقانونية كبيرة، تجري خطوطها بين موريتانيا والسعودية؛ حيث يعود تاريخ البرقية إلى شهر إبريل 2009، وتشير فيها السفارة الأميركية إلى أنّ موريتانيا تعرف ظاهرة من العبوديّة الجنسية، تُحوَّل بموجبها الفتيات الموريتانيات إلى عبيدات جنسيات في قصور رجال سعوديين أثرياء، وتنقل الوثيقة عن رئيسة إحدى منظمات المجتمع المدني التي تُعنى بحقوق المرأة، أمينة بنت المختار، تفاصيل سير عملية العبودية هذه من منازل فقراء موريتانيا إلى قصور أثرياء السعودية.
تبدأ القصة بتولي «تجّار بشر» مهمة زيارة منازل أسر موريتانية تعيش في فقر شديد، شرط أن يكون لدى هؤلاء أطفال إناث تراوح أعمارهنّ بين سنّ الثانية والخامسة عشرة، يقدّم هؤلاء «التجار» عرضًا لذوي الطفلة بتزويجها لرجل سعودي ثري في مقابل مبلغ مالي كبير نسبيًّا بالنسبة إلى الموريتانيين، وهو بين 5 و6 ملايين أقيّة (العملة الموريتانية)، أي ما يعادل نحو 20 ألف دولار، مع وعد ذوي الطفلة بتوفير فرص عمل لطفلتهم في السعودية بهدف إغرائهم للموافقة على العرض.
كما ورد في البرقية الأميركية معلومات مشابهة عن العبودية الجنسية لموريتانيات في السعودية، نقلاً عن ناشطة في منظمة حقوق الإنسان الموريتانية تدعى عائشة، وقد قابلت عائشة فتاة موريتانية أمضت 3 سنوات من عمرها مسجونة في غرفة بمنزل رجل سعودي لم تتعرف إلى سواه في فترة سجنها، كذلك، تحيل برقية السفارة الأميركية إلى 4 تقارير لـ«راديو فرانس إنترناسيونال» عن هذا الموضوع، تضمّنت شهادة طفلة تبلغ 7 سنوات وتُدعى ملهري اشتراها شخص في السعودية، إضافة إلى قصة فتاة أخرى هي أمينة التي اضطرت إلى ترك أطفالها في السعودية بعدما طلقها زوجها.
في ذات السياق، تحدّثت أمينة بنت المختار عن نوع آخر من العبودية الجنسية، تقوم على استقدام نساء موريتانيات بالغات إلى السعودية لتشغيلهنّ كمومسات، وقالت بنت المختار إن وكالات السفريات تعرض على هؤلاء النساء توفير ثمن تذكرة السفر وتكاليف تأشيرة الدخول إلى السعودية، لكن على تلك الفتيات التعهد بأن يسدّدن هذا المال لوكالة السفريات فور عثورهن على فرصة عمل، وبالتالي يُرغمن على العمل في الدعارة ليسدّدن الدين، وللدلالة على ذلك فقد حكم على 30 امرأة موريتانية بتهمة ممارسة الدعارة في السعودية، ووفق أرقام «منظمة ربات المنازل» الموريتانية، فقد وفّرت الدعم في عام 2008 لـ15 طفلة موريتانية كنَّ ضحية للعبودية الجنسية في السعودية.
ورغم إلغاء الرق رسميًّا في موريتانيا عام 1991، وصدور قانون بتجريم استغلال البشر عام 2003 ثم قانون بتغليظ العقوبات على المتورطين والمتسترين على جرائم الرق إلى حد السجن 10 سنوات إضافة إلى غرامات مالية باهظة إلا أن الفوارق الاجتماعية والاقتصادية الكبيرة تلجأ الفقراء والمهمشين إلى القبول باسترقاق أنفسهم للقيام بأعمال شاقة مقابل لقمة العيش إضافة إلى رواج كبير لبعض الفتاوى الدينية التي تبيح استرقاق البشر من أجل المال في مخالفة لجوهر الدين القويم الذي يقدس الحرية ويحمى كرامة الإنسان وهو الأمر الذي تجلى أثره بقيام فاعليات مناهضة للاسترقاق بحرق بعض كتب الفقه المالكي التي يستند إليها من يروجون لفتاوى إباحة استرقاق البشر.
وبالرغم من إعلان الحكومة مع نهاية السنة أنها أنشأت محكمة خاصة للنظر في جرائم الرق، إلا أن العديد من نشطاء حقوق الإنسان لا يعتبرون هذا أمرًا كافيًا في ظل عدم اعتراف الدولة في تصريحاتها الرسمية بحجم المشكلة إضافة إلى تعاملها الأمني مع النشطاء الحقوقيين الفاعلين في القضية وإصرارها على إعادة توصيف الظواهر وتسميتها بأسماء غير واقعية تخالف حجمها الحقيقي؛ حيث تصف الدولة مشكلة الرق في البلاد بحالات الاستغلال الغير قانوني بينما تصف جرائم التوظف الجنسي للأطفال والمراهقات بأنها مجرد جرائم اغتصاب للأطفال.
من جانبها، تقوم غولنارا شاهينيان مقررة الأمم المتحدة الخاصة بشأن الرقّ، بمهمة متابعة إلى موريتانيا لتقييم التطورات الجديدة منذ أول زيارة لها للبلاد عام 2009، والمبادرات التي اتخذتها الحكومة استجابة لتوصياتها.
وتهدف الزيارة التي تبدأ في السابع والعشرين من الشهر الجاري وتستمر لمدة أربعة أيام، إلى مناقشة اعتماد خارطة الطريق لإنهاء الرقّ في موريتانيا، وهي الخارطة التي تم إعدادها بالتعاون مع مكتب المفوض السامي لحقوق الإنسان في الأمم المتحدة.
تجارة الكالاماري في نيبال: سعر الفتاة 25 دولارًا
في نيبال وفي شهر يناير من كل عام تعقد أقلية “ثارو” مهرجانًا يعرف بمهرجان “ماغي” تقوم خلاله العائلات الفقيرة بتوقيع عقود لإيجار بناتهن بسعر 25 دولارًا في العام الواحد أحيانًا، وهي الظاهرة التي تُسمّى في البلاد “كالاماري” وتُحظر بحكم القانون منذ عام 2006 إلا أنها لا زالت مستمرة حتى الآن.
وفي شهر مارس 2013 تُوفيت واحدة من هؤلاء الكالامارى في سن الـ12 من العمر جراء حروق لدى صاحب العمل مما أثار موجة من الاحتجاجات، ووعدت الحكومة بوضع حد لهذه الممارسة، لكن بعد عام على ذلك لم يتغير شيء تقريبًا مما ينذر بعودة الاحتجاجات إلى الظهور من جديد.
مانغيتا شاوداري إحدى هؤلاء الكالاماري تحدثت لوكالة فرانس برس عن ذكريات طفولتها عندما باعها والدها الشرطي النيبالي بسعر 25 دولارًا لمخدوم يقطن قرب الحدود النيبالية الهندية على بعد 200 كم من عائلتها؛ حيث كانت تبدأ يومها فى الرابعة صباحًا بتنظيف المنزل ومن ثم غسل الأواني وترتيب المطبخ ثم تنتقل إلى أقارب مخدومها للقيام بالشيء نفسه قبل أن تخلد إلى النوم منهارة قبيل منتصف الليل.
وتقول شاوداري البالغة من العمر اليوم 22 عامًا: “لم أكن أقوى على كل ذلك، فكانت زوجة مخدومي تضربني بالأواني والقدور وكانت تهدد ببيعي إلى رجل آخر، كنت خائفة إلى درجة أنني لم أكن أبكى أمامهم كنت أبكى بهدوء عندما أكون وحدي في الحمام”.
تتابع شاودارى حكايتها قائلة: “التقيت والدي بعدها بعام، ورجوته أن يعيدني إلى المنزل ولكنه قال لي إنه لا يملك نفقات تربيتي أنا وشقيقتي التي باعها أيضًا”.
هاييتي لا زالت تكافح ضد العبودية:
في عام 1791 أطلق العبيد في جزيرة هسبانيولا شرارة حركة هدفها إلغاء الاسترقاق، وكان أن كسبوا تحررهم من العبودية واستقلت الجزيرة عن الحكم الاستعماري وتم التخلص من تجارة الرقيق، وحاليًا تتقاسم جمهورية هاييتي وجمهورية الدومينيكان جزيرة هسبانيولا الواقعة في البحر الكاريبي.
ورغم توافق اليوم العالمي لإحياء ذكرى تجارة الرقيق 23 أغسطس مع ذكرى الثورة الهاييتية، ورغم مرور أكثر من قرنين وربع قرن من الزمان على نجاح ثورة العبيد في هاييتي، إلا أن البلاد لا زالت تكافح من أجل التخلص التام من العبودية؛ حيث جاءت في المرتبة الثانية عالميًّا في مؤشر العبوبدة خلف موريتانيا، وينتشر في هاييتي بشكل خاص عبودية الأطفال الذي يحرمون من حقهم في الحرية والتعليم من أجل لقمة العيش التي لا زال يستعبدهم بها المستخدمين الأغنياء.