اليوم هو الجمعة من شهر ربيع الأول من عام 507هـ، والجامع الكبير في دمشق يموج بجحافل المصلِّين المتقاطرين إليه من كافة أنحاء المدينة وضواحيها، فإلى جانب الاحتشاد المعتاد لصلاة الجمعة، كان اليوم استثنائيًّا؛ إذ ستشهد الصلاة حضور أمير الموصل، مودود بن التونتكين رفقة أمير دمشق، طغتكين، بعد عودتهما من انتصار كبير مشترك على الصليبيين قرب طبرية في فلسطين.
طوَّقت أنباء هذا الانتصار الآفاق، وجدَّدت الآمال في الشام باقتراب موعد حرب التحرير الشاملة التي ستستعيد القدس والساحل الشامي من قبضة غزاة البلاد البعيدة الذين انتزعوا تلك المناطق الشاسعة قبل سنوات بالسيف والمذابح.
بعد انتهاء الصلاة، وبينما كان مودود يتجوَّل رفقة طغتكين في صحن الجامع الكبير، انقضَّ عليه انقضاضًا مفاجئًا وانتحاريًّا رجل مجهول، وطعنه أربع طعنات، قبل أن يُقتل هذا القاتل على الفور على يد المرافقين المذهولين للأميريْن.
لم يتردد الجميع في الجهة التي سيلقون عليها باللائمة في هذا الاغتيال الآثم، فطريقته الدموية والمتهورة في آنٍ تحمل توقيع طرفٍ واحد لا غير؛ إنهم الحشاشون – الفداوية أو الباطنية كما كانوا يسمون في ذلك الزمان – الذين أثاروا الرعب بسلاسل من الاغتيالات لا يبدو لها نهاية، في كافة أرجاء الشرق الإسلامي من فارس إلى مصر، مرورًا بالعراق والشام.
لكن لماذا يغتال الحشاشون، وهم طائفة محسوبة على الإسلام، أميرًا مسلمًا كان عائدًا للتو من انتصارٍ كبير على الصليبيين، الذين كانوا يمثلون آنذاك العدو الأكبر للأمة الإسلامية، والذي احتلَّ بيت المقدس بعد حمام دمٍ تاريخي؟ تحتاج إجابة هذا السؤال إلى عودةٍ إجبارية إلى التاريخيْن القريب والبعيد.
الحشاشون.. ميراثٌ من الأحقاد المتراكبة
وصف «الحشاشون» من أمثلة التسميات التي لا يتناسب شيوعها مع دقتها، وقد اقتبست من أسطورةٍ ذائعة لا يمكن التثبت من مدى صدقيَّتها، لتفسير ما كان يظهره أفراد تلك الطائفة من طاعة عمياء وفدائيةٍ غريبة في تنفيذ أوامر أئمتهم، لا سيَّما مؤسس الطائفة، الحسن الصباح.
فأُشيعَ أن أفراد تلك الطائفة كانوا يتعاطون جرعاتٍ كبيرة من المخدرات لا سيَّما الحشيش، ليذهلون عما يحيط بهم وبمهمَّاتهم من عوائق وأخطار، فيقتحمون الموت في سبيل أهدافهم بقلوب جامدةٍ كالصخر. وكان للمصادر الأوروبية المعاصرة لهم واللاحقة، الدور الأكبر في ذيوع تلك التسمية، والكثير من المبالغات الأخرى التي تتعلَّق بطائفة الحشاشين، والتي تتناسب مع الأجواء الأسطورية التي طالما نمَّط بها الغربيون كل ما يفِد إليهم من أخبار الشرق.
أما في معظم المصادر العربية والشرقية، فكان الوصفان الشائعان للحشاشين أكثر تعبيرًا عن واقع تلك الطائفة. الوصف الأول هو الباطنية، لأن الكثير من عقائدهم مستترة ومحجوبة، وما يظهر منها لعامة الناس يختلف عما يعرفه ويخفيه عمدًا خواص أئمتهم، حتى عن الكثير من أبناء الطائفة نفسها.
أما الوصف الثاني، فهو الفداوية، وهو اسم مقتبس من الفداء، تعبيرًا عن التضحيات المتهورة التي كان يُقدم عليها أفراد تلك الطائفة أثناء عمليات اغتيال خصومهم، والتي كانت تنتهي غالبًا بقتلِ الضحية والمنفذين على الفور.
أحد أفراد جماعة الحشاشين (يسار) يطعن الوزير نظام الملك
ينتسب الحشاشون عقائديًّا، إلى الشيعة الإسماعيلية، والتي كانت تاريخيًّا من أبرز الطوائف الشيعية، والتي تؤمن عمومًا بأحقية أئمة أهل البيت في السيادتيْن: الدينية والسياسية، على الأمة الإسلامية.
وقد اتفق الإسماعيلية مع الشيعة الإثنا عشرية – المنتشرة حاليًا في إيران والعراق ولبنان – في عصمة ستة أئمة من نسل الإمام علي بن أبي طالب، آخرهم جعفر الصادق، ثم وقع الخلاف الذي ظهر بسببه الإسماعيلية فيما بعد الإمام جعفر، فالإثنا عشرية جعلوا الإمام السابع هو موسى الكاظم بن جعفر، بينما اتخذ الإسماعيلية إسماعيل بن جعفر إمامًا، ومن بعده ابنه محمد بن إسماعيل، والذي يعد لدى بعضهم المهدي المنتظر.
لكن بعد أكثر من قرنٍ من محمد بن إسماعيل، ادَّعى المهدية أحد المنتسبين للإسماعيلية، وهو عبيد الله بن ميمون القداح، مؤسس الدعوة الفاطمية، ونجح عبر الدعوة السرية المستترة لأعوامٍ في أن يستقطب الآلاف من المناصرين، ثم أظهر دعوته في المغرب الإسلامي، وتمكن من تأسيس نواة الدولة التي توسَّعت في عقودٍ قليلة حتى أصبحت الدولة الفاطمية، التي كانت من أضخم الدول الشيعية في التاريخ الإسلامي؛ إذ في ذروة امتدادها هيمنت من الشام والحجاز شرقًا مرورًا بمصر، وحتى المغرب الأقصى غربًا، وكان خلفاؤها لدى غالبية أتباع المذهب الإسماعيلي هم أئمة الدين والحكم.
ثم وقع انشقاقٌ بارز في تاريخ الدعوة الإسماعيلية الفاطمية بعد وفاة المستنصر الفاطمي عام 487هـ؛ إذ دعم وزيره القوي، الأفضل بن بدر الجمالي، ابنَه المستعلي الصغير ليكون الخليفة والإمام، ويسهل على الأفضل أن ينفرد بالنفوذ الفعلي دونَه، بينما التفَّ كثيرون حول أخيه نزار، ومنهم الحسن الصبَّاح، والذي ذاع صيته بالذكاء والإخلاص الشديد للمذهب ولنزار.
تمرَّد نزار وأصحابه في الإسكندرية بمصر، لكنه ما لبث أن هُزم وأُسِر بعد حروبٍ طاحنة مع جيش الأفضل استمرت لعامٍ كامل، وحصارٍ للإسكندرية دامَ شهورًا. أما الحسن الصبَّاح، فقد فرَّ من مصر، وتوجه شرقًا إلى فارس، ليؤسس الدعوة الإسماعيلية النزارية التي ستحمل اسم دعوة الحشاشين.
أمر الأفضل بقتلِ نزار بطريقة وحشية كأنها دفنٌ وهو حي؛ إذ أمر ببناء حائط عليه حتى يموت دون أن ينزف دمًا لحرمة دماء نسل الأئمة!
لم ينسَ النزارية للأفضل ما اقترفَه في حقِّ إمامهم، فاغتالوه عام 515هـ؛ أي بعد أكثر من 27 عامًا من قتل نزار، حين انقضَّ على موكبه في القاهرة أربعة منهم مستغلين اضطرابًا سببه الجو العاصف، وازدحام العامة حول الموكب، وطعنوه ثماني طعنات، قبل أن يُقتَل منهم ثلاثة على الفور بأيدي الحراس الذين انتبهوا لما يحدث، في الوقت الضائع.
كان أمام الحسن الصبَّاح والنزارية قائمة ضخمة من الأعداء، من أقصى اليمين إلى أقصى اليسار. هناك أهل السنة، الخصم التقليدي، وكان يمثلهم آنذاك الخلافة العباسية في بغداد، والدولة السلجوقية التركية المهيمنة على مقدرات دولة العباسيين المتداعية.
ولم يكن غريبًا أن يكون أول الضحايا الكبار للمشروع الانتقامي لفرقة الحسن الصبَّاح، وزير الدولة السلجوقية القوي، نظامُ الملك، والذي قتله أحد الفداوية المتنكرين في هيئة رجل دين صوفي، وكان نظام الملك قد تفطَّن إلى تصاعد دعوة النزارية في فارس، وبدأ في شنِّ حربٍ استباقية لاستئصال وجودهم، والقضاء على مناصريهم في حواضر العراق وفارس.
ومن أشهر الخلفاء العباسيين الذين قتلهم النزارية، المسترشد بالله العباسي عام 529هـ، والذي انقضَّ على موكبه 24 رجلًا منهم، قُتِل أغلبهم. وكان على قائمة الأعداء أيضًا طوائف الشيعة المعارضين للنزارية، وعلى رأسهم الفاطميون المستعلية (نسبة للمستعلي، الخليفة الفاطمي الذي نصَّبه الأفضل مكان نزار).
نظرًا إلى الفارق الهائل في العدد والعدة بين النزارية وخصومهم، فقد لجأ الحسن الصباح للتحصن في بعض القلاع الشاهقة في جبال فارس، وعلى رأسها قلعة ألاموت – عش النسر – شديدة التحصين، والتي اخترقها الحشاشون بالتدريج، وزرعوا أنفسهم بين حاميتها المحلية، حتى تيقَّنوا من قدرتهم على انتزاعها، فأُسقط في يد قائدها، واضطرَّ لإخلائها نجاةً بحياته، ليتمركز فيها الحسن الصبَّاح، ويدير منها حربه المفتوحة على الزمانِ وأهله، ويُظهر مواهبه السياسية والفكرية التي خلبت عقول المئات، لينضموا إلى دعوتهم، ويقبلوا الإذعان إلى طاعته بشكلٍ تام.
الحسن الصبَّاح
نظرًا إلى النقص العددي الذي فرضته الطبيعة الباطنية والسرية للدعوة النزارية، والتحوُّط الشديد في قبول انضمام أفرادٍ جدد، فقد كانت المواجهات المفتوحة مع خصوم الدعوة وجيوشهم خارج حسابات الحسن الصبَّاح، ولذا فقد أصبح الأسلوب الأثير لديه للمواجهة هو تنفيذ الاغتيالات الجريئة ضد خصومه الكبار، بعد أن يزرع جواسيسه في خفاء لجمع الأخبار، ومراقبة الهدف بدقةٍ بالغة لتبين نقاط ضعفه؛ إذ لا يحتاج هذا الأسلوب إلا لعدد محدود من الأفراد، كما أنه يزرع الرهبة والرعب في قلوب الخصوم، ويجعلهم في حالةٍ من التوتر المزمن، والالتفات في هلعٍ في كل اتجاه خوفًا من نصل مسموم ينقض به أحد الفدائيين النزارية عليهم.
بهذا الأسلوب لعبت طائفة الحشاشين النزارية أدوارًا بارزة على مسرح الأحداث في الشرق الإسلامي على مدار ما يقارب قرنيْن من الزمان، لا سيما في العقود الأخيرة من القرن الخامس الهجري والعقود الأولى من القرن السادس الهجري. مما دفع خصومها إلى شن حروبٍ متواصلة ضد معاقلها في بلاد فارس، وقتل المئات من المتعاطفين معها في المدن والحواضر، والأخذ بالشبهة، لا سيَّما مع تزلزل مناطق فارس والعراق من جراء عمليات الاغتيال المتتابعة والتي تحمل بصمات النزارية.
أضعفت تلك الهجمات من قوة النزارية في بلاد فارس، لكنها لم تقضِ عليهم، نظرًا إلى حصانة معاقلهم الرئيسة، وفي مقدمتها قلعة ألاموت، والتي حوصرت غير مرةٍ دون جدوى، نظرًا إلى وعورة الطريق إليها، وحسن استعداد حاميتها بتخزين المواد الأساسية والأسلحة الكافية للصمود لشهور طويلة.
لم يكن مستغربًا إذًا أن يبحث النزارية لأنفسهم عن معاقل أخرى خارج فارس، تجعلهم في مأمن من الأعداء من جهة، وقريبين من أهدافهم المعادية من جهة أخرى.
الحشاشون في الشام.. اغتيالات ومصالح
من أجل الوجود في مسرح الأحداث الأهم في ذلك العصر، الشام، والذي كان يموج بالصراع بين الصليبيين وحلفائهم المحليين من جهة، والأمراء المسلمين المحاربين لهم من جهةٍ أخرى. استولى النزارية على بعض المواقع الحصينة النائية في الشام، وكان من أشهرها قلعة مصياف الجبلية. وبذلك أصبح للنزارية مواقع متقدمة مشرفة على معاقل أعدائهم من السلاجقة والفاطميين على حدٍّ سواء.
وكانوا كثيرًا ما يلجأون إلى أسلوب الاختراق الصامت للاستيلاء على ما يريدون من المواقع والحصون. كما فعلوا عام 502هـ في حصن شيزر بالشام، حيث زرعوا العشرات من رجالهم خفية بين سكانه وحاميته، ثم استغلوا انشغال بني منقذ أصحاب الحصن في حضور احتفالات عيد الفصح المسيحي، وثاروا في الحصن واستولوْا عليه. لكن نجح بنو منقذ في استعادة الحصن بعد برهةٍ قصيرة، وقتلوا ونفوْا كل من شكُّوا في صلته بالحشاشين.
كان الحشاشون يرون في الفوضى وتشرذم الدول إلى دويلات، فرصًا أفضل لتمدد دعوتهم، وللنجاح في تعزيز نفوذهم. ولذا فقد حاربوا بقوة كل من حاولوا توحيد المدن والحواضر الشامية من الأمراء المسلمين، لا سيَّما أصحاب الشعبية الكبيرة بين الناس. فأي دولة قوية في الشام وجواره، لا شكَّ ستحاول القضاء على أي وجودٍ لهم، وحصارهم في قلب معاقلهم للقضاء عليهم. وقد أجاد الحشاشون قراءة الخارطة السياسية المعقدة في الشام، وزرعوا رجالهم في حواضره المختلفة، وذلك لمعرفة مع من يمكنهم التحالف من أجل ضرب الآخرين.
«إنَّ أُمَّةً قَتَلَتْ عَمِيدَهَا، يَوْمَ عِيدِهَا، فِي بَيْتِ مَعْبُودِهَا، لَحَقِيقٌ عَلَى اللَّهِ أَنْ يُبِيدَهَا!»
*جزء من رسالة استهزاء أرسلها ملك بيت المقدس الصليبي إلى حاكم دمشق، بعد اغتيال القائد التركي مودود بن التونتكين على يد الحشاشين في جامع المدينة
من أبرز أمثلة ذلك، الأمير التركي بلك، والذي نجح في إيقاع الهزيمة بالصليبيين في مواقع عديدة، ووسَّع نطاق حكمه في منطقة حلب وجوارها، فانتهى به الحال قتيلًا على يد الحشاشين. وكذلك قاضي حلب الشيعي ابن الخشاب، والذي لعب دورًا بارزًا في تجييش أمراء المدينة وأهلها لحرب الصليبيين، وقاد المدينة بنجاح في أوقات الأزمات والفوضى، فإنه اغتيل أيضًا على أيدي الحشاشين.
كذلك حاول الحشاشون اغتيال أمير دمشق القوي بوري بن طغتكين عام 525هـ، لكنه نجا بأعجوبة بعد أن نال طعنتيْن، لكنه توفي في العام التالي، وأكبر الظن أن لوفاته علاقة بمضاعفاتٍ من جراحاته في محاولة الاغتيال.
كذلك اغتال الحشاشون عام 520هـ أمير الموصل التركي، آقسنقر البرسقي، والذي اشتهر بالعدل والقوة، وكان مناوئًا لهم. نُفِّذَ الاغتيال بالطريقة التقليدية التي تستغل مشهد صلاة الجمعة وازدحام الناس في الجامع الكبير.
في المقابل، كثيرًا ما استخدم الأمراء المتناحرون في الشام وسواها تلك الطائفة من أجل تصفية حساباتهم الشخصية، والوصول لأهدافهم. كما حدث عام 496هـ عندما اغتال ثلاثة من الحشاشين المتنكرين في هيئة صوفية زهاد، الأميرَ جناح الدولة حاكم مدينة حمص بينما كان يصلي الجمعة في جامعها، بإيعازٍ من خصمه وحليفهم الملك رضوان حاكم حلب، والذي كان يطمع في استغلال الفوضى التي سيُحدثها الاغتيال من أجل الاستيلاء على حلب وضمِّها إلى سلطانه، لكن سبقَه والصليبيين إلى حمص خصومُه أمراء دمشق.
كذلك كان من ضحايا التعاون السياسي في الاغتيالات بين الحشاشين والملك رضوان، أمير حصن أفامية شمال الشام، خلف بن ملاعب، والذي تآمر ضده الحشاشون عن طريق زرع بعض رجالهم داخل حصنه، والذين نقبوا جزءًا من السور لعبور فريق الاغتيال.
ولم تقتصر قائمة أهداف اغتيالات الحشاشين على رموز المسلمين وقياداتهم؛ فقد نال بعض الصليبيين نصيبَهم من ذلك. إذ على سبيل المثال يذكر ابن كثير الدمشقي في البداية والنهاية أن ريتشارد قلب الأسد، ملك إنجلترا، وقائد الحملة الصليبية الثالثة، استخدم اثنيْن من الحشاشين – الفداوية – في اغتيال خصمه الصليبي حاكم مدينة صور.
بين صلاح الدين وشيخ الجبل
لا شكَّ أن الاسم الأهم على الساحة السياسية والعسكرية الإسلامية في تلك الفترة الملتهبة كان صلاح الدين الأيوبي، والذي مثَّل للحشاشين – وبالطبع للصليبيين – خطرًا وجوديًّا غيرَ مسبوق، فقد وحَّد مصر والشام وغيرهما لأول مرة منذ عقودٍ طويلة. وقد كان قائد الحشاشين في زمن صلاح الدين الأيوبي، رجل غامض وقوي يسمى شيخ الجبل رشيد الدين سنان، وكان يشبه في قوته ونفوذه وغموضه مؤسس الفرقة الحسن الصباح.
أرسل سنان رجالَه مرتيْن لاغتيال صلاح الدين الأيوبي، وكادوا ينجحون في ذلك في المرة الثانية التي اخترقوا فيها معسكر صلاح الدين وزرعوا أنفسهم بين جنوده، حتى تمكنوا من مباغتته ليلًا لولا تدخل ابن أخيه الأمير تقي الدين عمر في اللحظة المناسبة. قرَّر صلاح الدين الأيوبي استئصال وجود الحشاشين في الشام، فشنَّ عليهم عام 572هـ هجومًا كاسحًا، وفرض حصارًا شديدًا على قلعة مصياف، استمرَّ أشهُرًا.
أمام الخطر القائم، أرسل سنان إلى خال صلاح الدين الأيوبي، الأمير شهاب الدين الحارمي، ليقنع من خلاله صلاح الدين للقبول بصفقةٍ سياسية غير مسبوقة. كان الاتفاق أن يرفع صلاح الدين الأيوبي الحصار عن مصياف وجوارها من معاقل الحشاشين، ويُعقَد السلام بين الجانبيْن، على أن يلتزم سنان بالامتناع تمامًا عن استهداف صلاح الدين الأيوبي ورجاله وأسرته. فإذا رفض صلاح الدين العرضَ، فإن سنان يهدد باغتيال صلاح الدين الأيوبي وكل من تطوله أيدي رجاله من الأمراء الأيوبيين.
وافق صلاح الدين مُكرَهًا على الاتفاق، نظرًا إلى إرهاق جيشه من طول الحصار، ووصول الأنباء إليه باستغلال الصليبيين انشغاله بحرب الحشاشين للهجوم على مواقعه بالشام. جديرٌ بالذكر أن الحشاشين قد التزموا إلى حد ما بما وعدوا به، فلم يمثلوا عائقًا في وجه صلاح الدين الأيوبي في السنوات التالية، وبالطبع لم يحاولوا اغتيالَه وكبار رجاله.
بل وصل الأمر إلى حد أن حاول صلاح الدين الأيوبي استقطاب الحشاشين من خلال زعيمهم سنان ليغتالوا ريتشارد قلب الأسد قائد الحملة الصليبية الثالثة الذي استردَّ عكا وبعض مناطق ساحل فلسطين، وكان يهدد بانتزاع القدس بعد تحريرها.
لكن لم يتحمس سنان لتنفيذ تلك المهمة، لأنه وجد في الخطر الكبير الذي يمثله ريتشارد، وإشغاله لصلاح الدين، مصلحةً له ولطائفته؛ إذ كان يخشى إن فرغ صلاح الدين من هذا الخطر الصليبي المحدق أن يستدير إلى معاقل الحشاشين التي عجز عنها قبل سنوات عديدة.
في العقود التالية لعصر صلاح الدين وسنان، ضعف الحشاشون في الشام تدريجيًّا، وانزووْا جانبًا في مسرح الأحداث، وانكفأوا في حصونهم لا سيَّما مصياف، والتي كانت على موعدٍ مع القدر في عهد أقوى السلاطين المملوكيين الظاهر ركن الدين بيبرس، والذي افتتح قلعة مصياف عام 668هـ= 1270م، ليقضي على وجود الحشاشين في الشام بعد أكثر من قرنٍ ونصف.