في طفولتنا؛ يكون آباؤنا هم المثال الوحيد والأكثر تأثيرًا في أذهاننا عن طبيعة العلاقة بين الرجل والمرأة، وعن شكل العاطفة التي يجب أن تجمعهم، ثم نكبر ونصل إلى المراهقة ويبدأ تعرفنا إلى الحب والعلاقات العاطفية عن طريق الأغنيات، والأفلام الرومانسية، والروايات.
كل ما نعرفه عن الحب حتى نصل لسن الشباب – سن الارتباط والزواج – نستمده كليًّا من تجارب الآخرين، تلك التجارب التي استخلصت بعض المفاهيم على مدار أجيال متتالية، وعممتها في منتجات فنية وأدبية صدرتها للأجيال القادمة، ولكن بعض هذه المفاهيم التي نتوارثها ونمررها للأجيال القادمة عن الحب والعلاقات؛ يؤكد لنا علم النفس والاجتماع أنها أفكار مغلوطة. في هذا التقرير نستعرض بعضها.
1- صدق أو لا تصدق بإمكاننا اختيار من نحب!
هناك مفهوم عام بأن الشعور بالحب شيء غير عقلاني وخارج عن إرادتنا، وهو الأمر الذي لا يتفق عليه علماء النفس والفلسفة، ففي كتابها «On Romantic Love: Simple Truths about a Complex Emotion» توضح أستاذ الفلسفة، بيريت بورجراد، أن هناك فرقًا جوهريًّا بين الانجذاب والوقوع في الحب، فما يحدث من النظرة الأولى هو مجرد إعجاب وانجذاب جسدي، وهذا يحدث تلقائيًّا دون عناء أو اختيار، أما إذا كنت ستمارس الجنس مع هذا الشخص أو لا فهو يحدث نتيجة اختيارك، كما أن الوقوع في غرام هذا الشخص أيضًا يكون ناتجًا من عملية عقلية تمامًا في ذهنك.
كما أكدت في كتابها أن الأمر يمكن أن يحدث عكسيًّا أيضًا، فمن الممكن أن تقابل شخصًا لا تنجذب إليه للمرة الأولى جسديًّا أو جنسيًّا، لكن بعد التعامل الدائم معه وملاحظته عن قرب، تقرر – حتى لو بشكل غير واعٍ – أن تقع في غرامه لأنه الأنسب لك، موضحة أن في كلا الحالتين، يحدث الوقوع في الحب نتيجة عملية عقلية تجري في مخ الإنسان سواء كان واعيًا بها، أو غير واعٍ.
من جانبه أكد أستاذ علم النفس، مارك وايت، أنه كما يمكن للإنسان أن يتحكم في اختيار من يقع في حبه؛ فلديه القدرة أيضًا على تجنب الوقوع في حب شخص ما، حتى لو كان منجذبًا له، وهو عن طريق اختيار تجنب المواقف التي قد تدفعه للوقوع في غرام هذا الشخص، إذا كان هذا الشخص غير مناسب.
على سبيل المثال إذا أعجبت بشخص أنت تعلم جيدًا أن علاقتك به ستكون علاقة سامة ومضرة لك، فأنت من تختار إذا كنت ستصل بتلك العلاقة إلى مرحلة الحب أم لا، وهذا من خلال الاختيار الحر في منح المساحة الكافية للطرف الآخر ليقوم بالتصرفات التي تُدرك جيدًا أنها ستدفعك إلى الوقوع في غرامه.
تخبرك خبيرة العلاقات الأمريكية، إيمي هارتستين، بأنك لن تقع في الحب قبل أن يمنح عقلك الإشارة الخضراء لمشاعرك، بعد أن تتوفر معطيات معينة في الشخص الذي نويت الوقوع في حبه، سواء كانت تلك المعطيات سلبية؛ لأنك ما زلت تجذب العلاقات الضارة، أو كانت معطيات إيجابية؛ فالأمر يحدث بكامل إرادتك.
فإذا كنت في علاقة مؤذية؛ وهذا نمط يتكرر معك في أكثر من علاقة، فعلم النفس يخبرك بأن الأمر من اختيارك أنت، وليس أمرًا خارجًا عن إرادتك، وأن هذا نمط مؤذٍ يجب أن تتخلص منه في حياتك حتى تحصل على علاقة عاطفية ناجحة.
2- الرغبة الجنسية لا تعني الحب وانعدامها لا يعني غيابه!
في كتابها «The Relationship Fix» تؤكد الطبيبة النفسية، جين مان، أن هناك فرقًا كبيرًا بين التعلق بالشريك، والوقوع في حبه، مؤكدة أن مفهوم أن الحب يتلخص في الانجذاب والمرح والجنس مجرد أسطورة، فالوقوع في الحب أكثر تعقيدًا ونضجًا من كل ذلك، وكل الأشياء السابق ذكرها هي مجرد جزء صغير جدًّا من صورة الحب الكبيرة.
في دراسة نفسية نُشرت عام 2007 تحت عنوان «الحب ليس رغبة جنسية»؛ وضح مؤلفو الدراسة أن مفهوم أن الرغبة الجنسية والحب شيء واحد، هو من أكثر المفاهيم الخاطئة لدى البشر فيما يخص العلاقات العاطفية، وجاء في هذه الدراسة ما يوضح أن الجنس يعد نمطًا سلوكيًّا له دور في ازدهار الحب الرومانسي لدى البالغين، ولكنه لا يكون أساس وجود هذا الحب من عدمه.
وعلى الرغم من أن الكثيرين يظنون أن الانجذاب الجنسي هو الشرارة اللازمة لإشعال فتيل الحب؛ فإن تلك الدراسة أكدت غير ذلك، مستشهدة بعلاقات عاطفية بين نساء مثليات ورجال غير مثليين، حيث طوَّرت المرأة المثلية مشاعر عاطفية تجاه هذا الرجل، وبناءً عليه بدأت للمرة الأولى تشعر بانجذاب جنسي تجاه رجل، أي إن الرغبة الجنسية ليست بالضرورة زر تشغيل العلاقة العاطفية، بل العكس تمامًا هو ما يحدث في كثير من الأحيان.
3- وعلى عكس ما تعتقد.. «حلاوة البدايات» مضرة بالصحة!
نظن دائمًا أن الحب عذاب، وأن الحب الذي لا يصاحبه معاناة فهو حب سطحي وليس عميقًا، وطالما ما تحدث الإنسان عن مشاعر التوتر والقلق التي يشعر بها قبل مقابلة الحبيب، مثل ضعف في الركبة، أو توتر في المعدة، أو التعرق، ولكن دعني أخبرك – عزيزي القارئ – بأن كل تلك المشاعر ليس لها علاقة بالحب.
«حلاوة البدايات» التي نتحدث عنها دائمًا على أنها أفضل ما في علاقة الحب، أثبت الطب النفسي بما لا يدع مجالًا للشك أنها الفترة الأسوأ «صحيًّا» على الإنسان.
ففي دراسة نُشرت بالعام 2003 أكدت أن في الستة أشهر الأولى من العلاقة العاطفية يزيد مستوى هرمون الكورتيزول، وهو ما يطلق عليه الأطباء اسم «هرمون التوتر»، أما العلاقات العاطفية التي مر عليها سنة وأكثر، فاكتشف القائمون على الدراسة أن أصحاب تلك العلاقات من المتزوجين تتميز أجسادهم بإفراز أكبر لهرمون الأوكسيتوسين، وهو ما يطلق عليه هرمون الحب.
الهرمون الأول الخاص بـ«حلاوة البدايات» يتسبب في ارتفاع ضغط الدم، وتوتر حركة الأمعاء، والتعرق الشديد، أما الهرمون الثاني الخاص بالعلاقات الطويلة التي قد يصفها البعض بالمملة أو الروتينية، فهو يساعد الجسم على الاسترخاء والشعور بالهدوء والسلام النفسي.
وللتأكد من نتائج الدراسة، اختبر القائمون عليها أصحاب العلاقات ذات الستة أشهر فقط، بعد أن استمر بعضها لسنوات، واكتشفوا أن طول مدة العلاقة قد ساهم في انخفاض معدل إفراز الكورتيزول، ما يخبرك بأن «حلاوة البدايات» التي قد تراها هي الأفضل في العلاقات العاطفية؛ مضرة حرفيًّا لصحتك الجسدية والنفسية، وهي مرحلة يجب أن تتخطاها لتصل إلى الراحة والسعادة الحقيقية في الحب.
4- «إنما للحب حدود».. التضحية المطلقة تعني علاقة سامة
الحب احتراق، والإنسان يجب أن «يفنى» في الحب حتى يكون مخلصًا لشريكه، وأن يضحي بكل شيء حتى يكون شريكه سعيدًا راضيًا؛ كل تلك المفاهيم عن الحب صدرتها الكثير من الأغنيات والدراما للبشر، وجعلت من الحب وكأنه حالة من حالات الانتحار إذا وقعت فيها فإن حياتك الشخصية وسعادتك الخاصة قد انتهت؛ وهو مفهوم خاطئ.
تحدث الكثير من الأطباء النفسيين وعلماء النفس عن أهمية عدم خسارة الهوية الشخصية حين يدخل الفرد في علاقة عاطفية، وأوضحوا أن حبك للشخص لا يجعلك مطالبًا بأن تتخلى عن مساحتك الشخصية، وآرائك الخاصة، وأحلامك خوفًا من خسارته، فالشخص الذي لا يحترم كل تلك الأبعاد المتفردة في شخصيتك؛ ربما لا يكون الشخص المناسب لك.
ويخبرك علم النفس بأنه حتى التضحية لهذا الشخص يجب أن يكون لها حدود، فلا يجب أن تضحي بنفسك وهويتك حتى تستمر العلاقة، فإذا خسرت نفسك؛ يصبح فشل العلاقة نتيجة حتمية حتى لو استمرت ظاهريًّا؛ لأنك ستفقد جزءًا كبيرًا من سعادتك الحقيقية، وتعيش سعادة وهمية مستمدة من سعادة الطرف الآخر التي وفرتها له دون أن تولي سعادتك الشخصية اهتمامًا، ولذلك فإن الدخول في العلاقة العاطفية والتضحية من أجل إنجاحها لا يعني أن «يضيع في الهوى عمرك» بل بالعكس، يجب أن يكون هذا الحب هو الداعم لك لاستغلال كل يوم في حياتك للوصول إلى أحلامك وتحقيقها.
وفي النهاية؛ يجب الإشارة إلى أن لكل علاقة ظروفها الخاصة بكل تأكيد، ولكن تلك المفاهيم العامة التي حاولنا حصرها، والتي شغلت فكر الفلاسفة وأطباء النفس وأطباء المخ والأعصاب؛ قد تكون مؤثرة بشكل كبير في تشكيل وجهة نظرنا عن الحب، فربما تظن أن علاقتك في طريقها للفشل إذا تخلص جسدك من هذا التوتر والقلق قبل ملاقاة حبيبك، ظنًّا منك أن «نار الحب» قد هدأت، والأمر على النقيض تمامًا، أنت لا تشعر بهذا التوتر ليس لأنك قد مللت شريكك، بل لأنك أصبحت تشعر معه بالأمان.