تعقيبًا على روايتها «حكاية أمة»، التي نُشرت في عام 1985، وحولتها «شبكة هولو» إلى مسلسل تلفزيوني في عام 2016، أبدت الكاتبة الكندية مارجريت آتوود عميق دهشتها من العاصفة النقدية والجدل الواسع اللذين واجهتهما الرواية منذ بداية ظهورها وحتى الآن، إذ أوضحت أنها لم تختلق أي شيء من عندها بخصوص الفاشية الممارسة ضد النساء والأقليات تحت ستار الدين؛ فكل ما ذكرته هذه الرواية يعتبر غيضًا من فيض من الممارسات القمعية باسم الدين التي يذخر بها التاريخ.
ومن هذا المنطلق تخبرنا مارجريت – من خلال روايتها الديستوبية – بحقيقة واضحة كالشمس، وهي أن كون النظام في بلد ما فاشيًا وشموليًا، ذلك أمر سيئ بالطبع، ولكن أن يرتكب هذا النظام جرائمه ويمارس قمعه تحت ستار الدين ويهدد كل من يفكر بالانشقاق أو الاعتراض على هذه الممارسات باتهامات بالكفر والهرطقة؛ فذلك هو حقًا أسوأ شيء.
وعلى مدار التاريخ لم تكن مارجريت هي الكاتبة الوحيدة التي كتبت عملًا أدبيًا يُدين الممارسات القمعية التي ترتكبها الأنظمة الفاشية باسم الدين؛ فقد قام كتاب آخرون بكتابة أعمال أدبية تدين الفاشية؛ يستعرض هذا التقرير بعضًا منها.
1. «الحرف القرمزي».. أن تحمل خطيئتك معك أينما ذهبت
هنا الولايات المتحدة الأمريكية في القرن السابع عشر تحت حكم الطهوريين، حيث توجب على كل من يرتكب خطيئة الزنا أن يحمل على صدره حرفًا قرمزيًا يرمز إلى خطيئته التي ارتكبها في زمان مضى، وأيضًا إلى هويته الجديدة التي سوف يعرفه الناس بها؛ فهو من الآن فصاعدًا لم يعد الشخص نفسه الذي اعتاد أن يكونه، بل أصبح عاصيًا يحمل رمز خطيئته على صدره، تلك الخطيئة التي سوف تظل لعنة تلاحقه ما دام حيًا؛ لأن الناس أبدًا لن ينسوا أو يغفروا له خطيئته، حتى وإن غفر الله له.
تدور رواية «الحرف القرمزي» للكاتب الأمريكي ناثانيال هوثورن حول مفاهيم الفاشية، والحب، والخطيئة، والتطهير، والنفاق، والانتقام في أمريكا الكولونيالية حيث تولى الطهوريون سدة الحكم وعم النفاق الأخلاقي وساد الاستبداد باسم الدين.
تحكي هذه الرواية الفريدة قصة وقوع هيستر برين في حب آرثر ديمزديل، القس الشاب، وانحدارها نحو الخطيئة في ظل غياب زوجها الذي اختفى خلال هجرته من إنجلترا إلى أمريكا. ولأن هيستر – حين ولدت ابنتها – لم ترد أبدًا أن تفصح عن اسم والدها لحقيقي، فقد عاقبها الطهوريون – الذين كانوا يحكمون في ذلك الوقت – عقوبة مشددة بالحبس، وبحمل حرف قرمزي يرمز إلى خطيئتها طوال حياتها.
صورة توضح بطلة الرواية هيستر برين حاملة ابنها في ساحة المدينة وعلى صدرها منقوش حرفا قرمزيًا
من خلال تلك الرواية حاول هوثورن استكشاف العالم الذي ساهم في قيادته جده لأبيه جون هوثورن، ذلك الرجل الذي لعب دورًا بارزًا في محاكمات الساحرات في مدينة سالم. إذ أوضح أن الساحرات لم يكن فقط ضحايا ذلك النظام الطهوري الفاشي، ولكن كان كل من تسول له نفسه الوقوع في الخطيئة في مجتمع يطمح إلى الكمال في كل شيء، والذي ما كان ليغفر الذنوب، ولا يبحث في دوافع من ارتكبها.
وقد نبع ذلك من اعتقاد الطهوريون في أن كل خطيئة لا تقع عواقبها على الفرد وحده، بل يتحمل تلك العواقب المجتمع أيضًا، ولذلك ارتأوا أن العقاب الأبدي للمخطئ يحمل معه تطهير المجتمع كله من آثامه، غير عابئين بكم البشر الذين يدمرون حياتهم وأسرهم بسبب هذه الفاشية التي لا تنتهي، والتي أودت بحياة هيستر وحبيبها وابنتها في نهاية الرواية.
2. «المحنة».. حين يقودك قول الصدق إلى الموت
في خمسينات القرن الماضي وأثناء تفشي المكارثية في أمريكا، كتب المسرحي الأمريكي الشهير آرثر ميللر مسرحية بعنوان «المحنة» ليدين من خلالها ذلك النظام القمعي الذي قام على توجيه الإتهامات بالتآمر والخيانة لكل من يختلف معه دون الاهتمام بالأدلة.
ومن خلال تلك المسرحية، قرر ميللر مقارنة ذلك النظام الشمولي القمعي بنظام حكم التطهريين الذي يُعد واحد من أكثر الأنظمة قسوة ووحشية على مر التاريخ؛ إذ ركز على استخدام كلا النظامين للدين؛ لتبرير الفاشية والقمع ولإرساء قواعد حكمهم.
تحكي «المحنة» عن وقوع مجموعة من الفتيات فجأة ضحية لهلوسات غير مبررة في إحدى قرى ماساتشوستس التابعة لمدينة سالم؛ فيتم تفسير الأمر من قبل الطهوريين المتدينين آنذاك على أنّه مس شيطاني، وتتجه أصابع الاتهام نحو السحرة، وتتردد همهمات أن لهم يدا في هذا الأمر.
سرعان ما تبدأ الفتيات المصروعات في الحديث عن علاقة بعض القرويين بالشيطان وممارستهم للسحر، وتزيد الأحقاد والعداوات القديمة من حالة الهستريا والتخوين، ويبدأ الجميع في إلقاء التُّهم على بعضهم البعض؛ فتقرِّر الحكومة – بدافع الدين – التدخُّل في الأمر، وعقد محاكمات للسحرة والساحرات. وتقوم المحاكمات على مبدأ وحيد، وهو: إمَّا أن تعترف بممارستك للسحر، وبالتالي سيتم انتزاع أملاكك منك، ولكنك ستكون حرًا، وإما أن ترفض التُّهمة الموجهة إليك؛ مما يعني أنك منخرط في أنشطة السحر، وبالتالي تواجه حكمًا بالإعدام شنقًا.
صورة من الفيلم المقتبس عن المسرحية
في مسرحية «المحنة» اعتمدت هيئة المحكمة على ادعاءات فتياتٍ مراهقاتٍ في إثبات التهمة على المتهمين وإرسال عدد منهم إلى الإعدام، دون وجود دليل مادي على انخراطهم في ممارسة السحر، حتى أن المحكمة لم تقبل بالحقيقة، بل كان الكذب هو المنجاة الوحيدة، تاركة خيارًا وحيدًا أمام القرويين الأبرياء، وهو إما أن تكذب أو تموت.
على الجانب الآخر اعتمدت استجوابات لجنة الأنشطة المعادية لأمريكا تحت قيادة السيناتور جوزيف مكارثي على ادعاءاتٍ لا أساس لها من الصحة، ولا دليل عليها، واتخذت منها ذريعة لفصل العديدين من أعمالهم وتشجيعهم على الوشاية بأصدقائهم؛ مما زاد من كراهية أبناء المجتمع لبعضهم البعض.
3. «لا يمكن أن يحدث هنا».. كل شيء يمكن أن يحدث هنا!
في أعقاب فوز الرئيس الأمريكي الحالي دونالد ترامب في انتخابات الرئاسة الأمريكية، تصدرت رواية «لا يمكن أن يحدث هنا» للأديب الأمريكي الحائز على جائزة نوبل، سينكلير لويس، المشهد مرة أخرى ودخلت في قائمة الكتب الأكثر مبيعًا على الرغم من مضي أكثر من 80 عامًا على تاريخ نشرها لأول مرة.
نشر لويس هذه الرواية عام 1935 في ذروة الكساد العظيم الذي عصف بالمجتمع الأمريكي، والذي جعل من الغالبية العظمى للشعب الأمريكي تحت تأثير الفاشية الشعبوية التي سيطرت على أوروبا، وخاصة إيطاليا وألمانيا.
وتحكي الرواية قصة صعود ديكتاتور يميني يُدعى برزيليوس ويندريب، وهو سيناتور شعبوي أمريكي فاحش الثراء، وتوليه سدة الحكم في الولايات المتحدة الأمريكية. وقد فاز برزيليوس عن طريق إثارة الحشود بخطابه العنصري المتطرف الذي يهاجم فيه المهاجرين، والأقليات العرقية والدينية في أمريكا ويلومهم على التسبب في ارتفاع نسب البطالة، وتردي أحوال المجتمع؛ مما أدى إلى حدوث الكساد العظيم، وقد كانت خطة ذلك السيناتور لإعادة أمريكا قوية كما كانت تشمل القضاء على كل الأقليات وتخفيض عدد المهاجرين.
غلاف رواية «لا يمكن أن يحدث هنا»، المصدر: Killercovers
وعلى الرغم من أن النقاد قد صرحوا بأن رواية لويس تلك تعتبر وليدة عصرها بسبب شدة تأثرها بتصاعد الفاشية في أوروبا واحتمالية تأثيرها على المجتمع الأمريكي، إلا أن انتخابات الرئاسة الأمريكية الأخيرة قد أعادتها إلى الأذهان مرة أخرى وشجعت على إعادة النظر في عنوانها الهزلي الذي يصرح بأن في أمريكا لا يمكن أن تحدث الممارسات الفاشية هنا، ولكن انتخاب دونالد ترامب – الذي لا يختلف كثيرًا في سياساته اليمينية أو ثرائه الفاحش عن السيناتور ويندريب – جعل كل شيء وأي شيء من الممكن أن يحدث هنا.
4. «حكاية أمة».. قصة بلدة تكره النساء
من خلال روايتها «حكاية أمة»، انتقلت بنا مارجريت آتوود إلى المستقبل الذي لم تعد فيه دولة أمريكا تحمل اسم الولايات المتحدة الأمريكية، بل أصبحت تُسمى جلعاد.
في جلعاد، تولت مجموعة من المسيحيين الأصوليين، الذين يدعون أنفسهم «جماعة أبناء يعقوب»، سدة الحكم، وأحكموا الخناق على كافة مظاهر الحرية واتهموا كل من تجرأ على مواجهتهم أو الاعتراض على ممارستهم القمعية بالهرطقة وعاقبوه بالشنق إن كان رجلًا أو بالشنق أو الإرسال إلى المستعمرات – حيث النفايات المشعة القاتلة – إن كانت امرأة.
تحدثت «جماعة أبناء يعقوب» باسم الإله الذي ادعوا أنهم مبعوثوه على الأرض لإعادة نشر أحكام دينه التي هجرها الناس فحل بهم عقابه وأصابهم العقم. وعليه، فإن إنجاب الأطفال كان أمرًا في غاية الأهمية بالنسبة للدولة والنظام، وبالطبع كانت النساء وحدهن هن الملامات على العقم.
وقد قررت هذه الجماعة أن النساء كلهن إماء تابعات للرجال، ولكن بدرجات متفاوتة، فزوجات القادة العقيمات كن على قمة هرم التبعية وتليهن عاملات المطبخ اللواتي كن عقيمات أيضًا، بينما تحتل الإماء اللواتي يتمتعن بالخصوبة قاعدة هذا الهرم، إذ كن موكلات بإنجاب أطفالًا لقادة جلعاد – بالإجبار – بدلًا عن زوجاتهم.
الكاتبة الكندية مارجيت آتوود
وعلى الرغم من هذا التفاوت الطبقي بين النساء، إلا أنه كان هناك قوانين عامة تسري عليهن جميعًا دون استثناء، فقد كان يُقطع أصبع المرأة إن قرأت وكان التعليم الوحيد المسموح به للنساء هو تعلم الأعمال المنزلية وأشغال الإبرة والخياطة، أما الإماء الموكلات بالإنجاب فقد حرمن من أسمائهن اللاتي ولدن بها وأصبحن يُعرفن بالاسم الأول للقائد الذين يخدمون تحت إمرته.
وعلى الرغم من أن جماعة أبناء يعقوب كانوا كثيرًا ما يستعينون بنصوص من الكتاب المقدس لتبرير الفاشية ووحشيتهم واغتصابهم الممنهج للنساء، إلا أننا على مدار الرواية نكتشف شيئًا فشيئًا أن هذه الجماعة اتخذت الدين ستارًا لتبرير ممارساتهم القمعية ولإرساء قواعد سلطتهم المطلقة على الدولة. ومن هنا استطاعت الكاتبة أن تكشف للقراء عن وجهة نظرها في أن صعود اليمين المتطرف في الغرب من شأنه أن يجلب معه عصرًا من القمع لا يختلف كثيرًا عن عصر الطهوريين.