مثل لوحة فنية خطها رسام مبدع؛ تتزين الشوارع العربية في رمضان استقبالًا لهذا الشهر الكريم، إذ تُعلق الزينة بألوانها المختلفة في الشوارع والأزقة الضيقة، لتأتي نسمات الهواء جاعلة إياها ترفرف، كما تتصاعد روائح أشهى المأكولات والحلوى الخاصة بهذا الشهر دون غيره، مثل الكنافة والقطائف، وفي خلفية هذا المشهد دائمًا وأبدًا تصدح أصوات بعينها لتنشد وتبتهل وترفع الأذان، تلك الأصوات التي ظلت محفورة بذاكرتنا رغم مرور الكثير من السنوات، والتي ارتبطت في أذهاننا وقلوبنا بشهر رمضان، فمن هم أشهر الأصوات التي ارتبطت بالشهر الفضيل؟
1. الشيخ كامل يوسف البهتيمي.. قارئ القرآن البكّاء
قليلة هي الأصوات التي تقدر على تلاوة آيات القرآن وأداء التواشيح الدينية من أعماق قلوبها؛ لتخترق قلوب المستمعين دون حاجة لإذن مسبق، ومن أهم تلك الأصوات صوت القارئ والمبتهل، الشيخ كامل يوسف البهتيمي، المرتبط في ذاكرتنا بتلاوة قرآن المغرب أثناء شهر رمضان.
في حي بهتيم بشبرا الخيمة في محافظة القليوبية، ولد محمد ذكي يوسف، الشهير بكامل البهتيمي عام 1922، وحين بلغ السادسة من عمره ألحقه والده الذي كان من قراء القرآن بكتاب القرية، وقبل أن يصل إلى سن العاشرة أتم البهتيمي حفظ القرآن كاملًا، وتعلم فنون التلاوة عبر سماعه الشيخين محمد سلامة ومحمد رفعت.
كان البهتيمي شديد الثقة بنفسه؛ إذ كان يذهب إلى مسجد القرية ويبدأ في تلاوة القرآن دون أن يسمح له أحد بذلك، وبعد مدة قصيرة طلب من مؤذن المسجد أن يرفع الآذان بدلًا منه، وهو الأمر الذي رفضه المؤذن في البداية، ولكنه عاد ووافق بسبب إصرار الطفل الصغير.
ومع بداية عام 1952 استمع إليه الشيخ محمد الصيفي وأخذه معه إلى القاهرة، ومن هنا فتحت له الشهرة أبوابها، وتقدم في نوفمبر (تشرين الثاني) 1953 لاختبار إذاعة القرآن الكريم، فاجتاز الاختبار، ونجح بامتياز، وعُين في الإذاعة بأجر قدره أربعة جنيهات.
لمع نجم الشيخ البهتيمي ووصل إلى القمة، وكان على علاقة قوية بجمال عبد الناصر، الذي عينه مقرئًا للقصر الجمهوري، وفي عام 1967 وبحسب رواية نجله عصام البهتيمي، تعرض الشيخ لمحاولة اغتيال في مدينة بورسعيد.
إذ وضع له مجهول مادة مسممة في فنجان القهوة، تعرض بها البهتيمي لشلل نصفي ولكنه سرعان ما تعافى، وبعد هذه الحادثة بعامين أُصيب البهتيمي بنزيف داخلي في المخ عقب إحدى السهرات القرآنية ليفارق بعدها الحياة عن عمر يناهز 47 عامًا.
ورغم أن البهتيمي سجل صوته في إذاعة القرآن الكريم وإذاعة الشرق الأدنى في فلسطين والإذاعة السورية؛ إلا أن أغلب تراثه ضاع وتبدد. ولقد قيل عنه بأن صوته العذب يجمع بين «دقة الشيخ محمد خليل الحصري، وجلال وربانية قيثارة السماء محمد رفعت، وعذوبة وكمال الشيخ محمد صديق المنشاوي».
2. سيد النقشبندي.. ابتهالات الفجر و«مولاي إني ببابك»
بأعين نصف مغمضة واستعدادًا لوجبة السحور في رمضان؛ كنا نستيقظ متثاقلي الخطى، لتخترق أسماعنا ابتهالات النقشبندي وهو يشدو قائلًا: «أقوم بالليل والأسحار ساجية أدعو وهمس دعائي بالدموع ندي، بنور وجهك إني عائد وجل ومن يعذ بك لن يشقى إلى الأبد، مهما لقيت من الدنيا وعارضها فأنت لي شغل عما يرى جسدي، تحلو مرارة عيش في رضاك وما أطيق سخطًا على عيش من الرغد».
وفي الخلفية كان يررد الكورال جملة واحدة «مولاي إني ببابك» في إيقاع منتظم لا يتغير مهما حلّق النقشبندي بصوته بعيدًا عن اللحن والإيقاع والمقامات الموسيقية.
في كنف الطريقة النقشبندية الصوفية الشهيرة ولد سيد محمد النقشبندي عام 1921، في قرية دميرة التابعة لمركز طلخا بمحافظة الدقهلية، كان والده محمد النقشبندي شيخ الطريقة الصوفية، وكان له عدد كبير من المريدين في كل أقطار الوطن العربي، وكلمة نقشبندي هي كلمة ذات أصل فارسي تعني: النقش على الصدر.
بعد أقل من عام على ميلاده انفصل والداه؛ فانتقل مع أمه إلى مدينة طهطا في محافظة سوهاج بصعيد مصر؛ حيث تزوجت والدته من الشيخ المواردي، وهناك أتم النقشبندي حفظ القرآن الكريم، كما تعلم الإنشاد الديني في حلقات الذكر الصوفية.
في عام 1955 اختار النقشبندي الاستقرار في مدينة طنطا بجوار السيد البدوي، ولم يبرحها حتى وفاته رغم جميع محاولات أبنائه في إقناعه بالسكن في القاهرة، بجوار إذاعة القرآن الكريم، ولكنه كان يرد عليهم قائلًا: «زارني السيد البدوي في المنام، وقال لي لا تتركني يا سيد».
وعلى غرار البهتيمي، كان النقشبندي على صلة قوية بالرئيس السادات، ولكنه لم يكن يدري أن حفلة خطبة ابن الرئيس سينتج منها ما نتج؛ فأثناء الحفلة كان من المفترض أن يشدو النقشبندي بتواشيحه الدينية، ولكنه بعد أن أدى فقرته بالعرس طلب منه السادات أن يتعاون مع الملحن بليغ حمدي ليخرجوا عملًا فنيًّا متميزا.
إذ التفت حينها السادات إلى بليغ حمدي قائلًا: «عاوز أسمعك مع النقشبندي»، رفض النقشبندي في البداية لأنه تعود على الابتهال بالمقامات الموسيقية دون حاجة إلى ملحن، وكان يعتقد أن اللحن سيفسد حالة الخشوع المصاحبة للابتهال، ولكن السادات أصرّ على رأيه وتحمس بليغ للفكرة تحمسًا شديدًا حتى بدأت التجهيزات في استوديو الإذاعة. تقول ابنة النقشبندي إن السادات قال حينها: «احبسوا النقشبندي وبليغ مع بعض لحد ما يطلعوا حاجة، فكانت مولاي إني ببابك».
3. الشيخ محمد رفعت.. أذان المغرب بصوت قيثارة السماء
رغم رحيله عن عالمنا منذ قرابة 70 عامًا؛ إلا أن صوته ما زال محفورًا بداخلنا علامة مميزة من علامات شهر رمضان، فبعد يوم طويل من الصيام والإرهاق كان يرفع الشيخ محمد رفعت أذان المغرب لنهرع بعدها إلى الشراب والطعام مع خلفية صوته الذي لم ينته بعد من أذان المغرب.
ولد الشيخ محمد رفعت في حي المغربلين بالقاهرة القديمة عام 1882، وفي الثانية من عمره فقد بصره بسبب مرض أصاب عينيه، وكعادة أطفال تلك الحقبة الزمنية؛ ألحقه والده بكتاب الشيخ فاضل باشا بحي الجماميز في السيدة زينب، ليتم الصغير حفظ القرآن كاملًا وهو في سن الخامسة، بعدها تعلم رفعت علم التفسير وعلم القراءات، ثم درس المقامات الموسيقية.
اختارته الإذاعة المصرية بسبب جمال صوته ليتلو آيات افتتاح الإذاعة للمرة الأولى عام 1934؛ إذ قرأ حينها «إنا فتحنا لك فتحًا مبينًا» وحين سمعت الإذاعة البريطانية «بي بي سي» عربي، صوته طلبت منه تسجيلًا، ولكنه رفض ظنًّا منه أن في الأمر شبهة حرام، واستفتى حينها الإمام المراغي الذي أخبره أن التسجيل للإذاعة البرطانية غير حرام.
فسجل لهم سورة مريم بصوته، وفي عام 1943 توقف الشيخ محمد رفعت عن قراءة القرآن بعد إصابته بسرطان الحنجرة، ورفض عروض العلاج التي تلقاها من ملوك العرب قائلًا عبارته الشهيرة: «إن قارئ القرآن لا يُهان»، وقد فارق رفعت الحياة في عام 1950.
4. الشيخ عبد الرحمن بن ماجد.. مؤذن السعودية الذي ورث جمال الصوت عن أبيه
عبر أثير إذاعة الرياض كان يصدح صوت الشيخ عبد الرحمن بن ماجد ليسمعه الملايين في المملكة العربية السعودية خلال شهر رمضان، إذ ارتبط ابن ماجد في ذاكرة السعوديين بوقت الإفطار، ويعد ابن ماجد أشهر مؤذن عرفته مدينة الرياض على الإطلاق؛ إذ كان يرفع الآذان في أكبر مساجد العاصمة السعودية المعروف باسم جامع الإمام تركي بن عبد الله.
ورث عبد الرحمن صوته الجميل من أبيه عبد العزيز بن ماجد الذي بدأ يؤذن منذ عام 1896 وطوال 85 عامًا؛ حتى وافته المنية في عام 1997، ليكمل بعدها ابنه مسيرته ويظل يؤذن من بعد والده، حتى انتقل هو الآخر إلى جوار ربه في عام 2018، وحتى كتابة هذه السطور ما زال صوت عبد الرحمن بن ماجد يُبث خلال شهر رمضان رافعًا أذان المغرب.
5. نصر الدين طوبار.. المنشد الذي رسب في اختبار الإذاعة المصرية 6 مرات
وصفته الصحافة الألمانية بـ«الصوت الذي يضرب على أوتار القلوب»، واستقر في وجداننا بابتهالاته التي ما تزال حتى اليوم تذكرنا بشهر رمضان، والتي منها: جل المنادي، ومجيب السائلين، ويا بارئ الكون، وإليك خشوعي، ويا مالك الملك، ويا سالكين إليه الدرب.
ولد الشيخ طوبار عام 1920 في قرية المنزلة بمحافظة الدقهلية، وأتم حفظ القرآن الكريم في سن صغيرة، وبعد ذلك ذاع صيته في جميع قرى محافظة الدقهلية ومراكزها؛ حتى ألح عليه أصدقاؤه أن يتقدم لاختبار الإذاعة المصرية، ولكنه فشل في الاختبار ست مرات متتالية، ولم ينجح إلا في المحاولة السابعة.
عكف طوبار بعد نجاحه في الإذاعة على دراسة المقامات الموسيقية، وقدم أكثر من 200 ابتهال، كتب كلماتها كبار الشعراء، مثل: أحمد شوقي، ومرسي جميل عزيز، وصالح جودت.
خلال عام 1980 اختير طوبار قائد فرقة الإنشاد الديني التابعة لـ«أكاديمية الفنون المصرية» ومشرفها، وقد شارك خلالها في العديد من الاحتفالات العالمية؛ إذ أنشد في قاعة «ألبرت هول» بلندن، أثناء حفل المؤتمر الإسلامي العالمي.
6. لطفي بوشناق.. الذي جمع بين الابتهالات والموشحات والأغاني السياسية
لطالما أبدع بوشناق في أداء الغناء الديني والابتهالات خلال شهر رمضان في تونس، مرتديًا الزي التونسي التقليدي، وخلافًا لباقي المبتهلين لا يؤدي بوشناق الأغنية الدينية والابتهالات فقط، ولكنه يصدح كذلك بالموال والموشحات لينشر تراث الأغنية التونسية في جميع أرجاء العالم، وفي الوقت الذي انزوى فيه فن الموشح والموال في الذاكرة الجمعية العربية؛ جاء بوشناق ليعيد الحياة لذلك الفن.
ولد بوشناق في العاصمة التونسية خلال عام 1954، ودرس الموسيقى في المدرسة الرشيدية بتونس، في ما بعد اشتهر بوشناق بأداء ابتهالات رمضانية علاوة على الموشحات والأغاني الصوفية والمألوف التونسي، كما عُرف أيضًا بأغانيه السياسية التي كرسها لقضايا الشعوب مثل القضية الفلسطينية، وفاز بوشناق بالعديد من الجوائز أهمها جائزة «مهرجان الموسيقى العربية».