في فيلم «A Present from The Past» تقرر كوثر أن تحتفل بعيد ميلاد والدها الـ77 بطريقة مختلفة. منذ 33 عامًا أحب والدها مختار، الأستاذ الجامعي، فتاة إيطالية تدعى باتريزيا، وكان وقتها يحاضر في الأكاديمية المصرية للفنون بروما، في تخصص فنون الأطفال، وهناك تعرف على فتاة أحلامه باتريزيا، وجمعته بها قصة حب عميقة، تبادلا خلالها خواتم الزواج، قبل أن يقرر فجأة العودة إلى القاهرة.
يترك مختار حبيبته باتريزيا، دون أن يحمل معه من أثرها سوى خاتم ومجموعة صور وقطعة ورق صغيرة، مكتوب عليها عنوانها، ولا يترك لها أي شيء من أثره في المقابل.
وقبل يوم عيد ميلاده بشهور قليلة، تحجز كوثر تذاكر طيران، وتدخل غرفة والدها فتجده مستلقيًا على فراشه يقرأ وبجانبه كومة كبيرة من الأوراق والكتب، يسند ساقيه على وسادة مرتفعة ليريح آلامًا مزمنة بظهره، تخبره أنها تحمل مفاجأة وتعطيه التذاكر المطبوعة.
وعلى مدى دقائق نراقب تعبيرات وجه الأب ولغة جسده وحواره مع ابنته، مشاعر عديدة تجيش في صدره عندما فهم أن ابنته تريده أن يسافر معها لروما للعثور على باتريزيا، الذكرى المطمورة بين ضلوعه.
A Present from the Past / ٢٠ سبتمبر – Trailer from Kawthar Younis on Vimeo.
مشاعر متناقضة تفسر لنا تردده في قبول هدية كوثر، فحينًا يبدو متحمسًا للغاية، وأوقاتًا ثانية يشعر بقلق مشوب بخوف، وأحيانًا ثالثة يشعر بغضب.
المفاجأة ليست من نصيب مختار فقط
المفاجأة الحقيقية تنتظر مشاهدي الفيلم، فكوثر ومختار ليسا ممثلين، بل هما ابنة وأبوها فعلًا، وكوثر هي طالبة في معهد السينما، ومختار أستاذ في المعهد نفسه!
تقرر كوثر تسجيل تفاصيل رحلتها مع أبيها إلى روما للبحث عن باتريزيا، لكن بشرط واحد؛ أن يتم كل ذلك بكاميرات خفية طوال الوقت لا يعلم والدها بأمرها، حتى تبدو ردود أفعاله وتصرفاته تلقائية، وهو ما نجحت كوثر في التقاطه بنجاح تام.
تستخدم كوثر كاميرا هاتف آيفون، وكاميرا حاسب نقال، ونظارة تحتوي كاميرا صغيرة، وذلك لتسجيل أحداث الفيلم المثير، ورغم أن كادرات الفيلم مهزوزة طوال الوقت، وليس هناك أي اتزان في تركيب الصور، بل في أحيانٍ كثيرة تسجل الكاميرا تفاصيل خارج الكادر، فتلتقط صورًا للأرض أو الجدران أو أصابع قدم والدها على سبيل المثال، إلا أن ذلك لم يكن مزعجًا للمشاهد، بل ربما أضاف للفيلم واقعية ومصداقية ونكهة تمزج المغامرة بالتشويق والترقب لما ستكشف عنه الكادرات القادمة.
https://www.youtube.com/watch?v=mIP5srCqprU
رغم سنوات عمره الـ77، إلا أن مختار يمتلك روحًا شابة، وتعابير وجه بريئة، ونظرات متحمّسة. يردد أغاني أم كلثوم وعبد الحليم المنبعثة في حاسوب ابنته كوثر.
وتجمع بين مختار وابنته كوثر علاقة تبادلية لصيقة، تشعر خلالها أنها تقوم أحيانًا بدور الأم، ويقوم هو بدور الابن. ومن تفاصيل الفيلم تفهم أن مختار قد أنجب كوثر وشقيقتها وقد ناهز الخمسين من عمره، يبدو أنه قد تأخر كثيرًا في الارتباط، سواء مع حب حياته باتريزيا التي تعرف عليها وقد تجاوز الأربعين، أو مع زوجته الحالية التي يبدو أنه تزوجها بعد الخمسين. قد يكون السبب انشغاله البالغ بمسيرته المهنية، لقد أنشأ الرجل أول مركز عربي للأفلام العربية في السعودية عام 1972، وأنشأ نظيره المصري عام 1975.
تخبر كوثر والدتها بالمغامرة التي هي على وشك خوضها مع والدها، تحتفظ الأم الطيبة ذات الوجه المنير بابتسامتها، لكن يبدو على ملامحها وفي صوتها طيف من غيرة ومن قلق، تقول لكوثر: «خليه يسافر هي أكيد باتريزيا دي عجوزة دلوقتي، مش هاخاف عليه يعمل حاجة غلط، أنا موافقة والله».
«بتاع البطيخ»
تبدأ رحلة كوثر ومختار للحصول على تأشيرة دخول إيطاليا، وأثناء مشاويرهما الطويلة في السيارة لإنهاء الإجراءات بين السفارة والقنصلية ومعهد السينما، نستكشف أكثر عالم «كوثر/ مختار» الخاص، بمفرداته التي لا يعلمها أحد آخر، يعبر دكتور مختار عن غضبه من السيارات والأشخاص الذين يستخدمون الطريق بشكل متهور بطريقة طفولية للغاية، يضم أصابع كفه على هيئة «مسدس» يصوبه إليهم ويخرج من فمه صوتًا شبيهًا بالطلقة «بوف.. بوف». ثم يضحك، وتضحك كوثر معه. تشتهي كوثر المانجو، فيشتري لها مختار ويخبئ المانجو في السيارة ليتناولاها سويًا في هدوء. لا يعلق أبدًا على مظهرها أو ما ترتديه من ملابس، لكنه يسألها في مرة ضاحكًا: «لماذا لا ترتدين الحجاب مثل الأخريات؟»، ويمضي في الحديث عن أشياء أخرى وكأنه لا ينتظر إجابة. تطلب منه كوثر أن يبحث عن صور باتريزيا وعن الخاتم والورقة التي تحتوي على العنوان، فيسوِّف فعل كل ذلك وكأنه غير واثق أنهما سيسافران بالفعل، أو وكأنه غير متخيل قدرة ذلك على الحدوث فعلًا.
يحصلان أخيرًا على التأشيرة بصعوبة بعد أن كادا يفقدان الأمل في السفر، هنا فقط يبدأ مختار في البحث عن الخاتم والصور والورقة، يغرق في أكوام الورق والكتب القديمة والأدراج والصناديق التي تبدو بلا نهاية، لكنه يجد أشياء باتريزيا في النهاية، يبدو سعيدًا وكأنه وجد صندوقًا من «هدايا الماضي»، يمسك خطابات باتريزيا إليه، يقول لكوثر «كانت تطلق علي أميري، أميري المصري». «كنت وقتها أضع دائمًا عباءة على كتفي، كنت فعلًا أبدو كالأمير». تقرأ كوثر خطابًا عاطفيًا بينهما، حيث تختم باتريزيا رسالتها بكلمة مكررة ثلاث مرات وتحمل نغمًا موسيقيًا «تينك.. تينك.. تينك»، تفهم أن ذلك كلام مشفر بين أبيها وبين حبيبته القديمة. يقول لها إنه لم يكن يتكلم الإيطالية جيدًا، لذلك قام بتعليم باتريزيا اللغة الإنجليزية، تضحك كوثر وهي تسمعه يتكلم بإنجليزية مكسرة. وتضحك وهو يقرأ لها كلام باتريزيا المكتوب بإنجليزية مكسرة أيضًا «To Throw Kiss Shoulder سوف أضع قبلة على كتفك».
باتريزيا
يُؤجل مختار موعدًا بينه وبين وزير الثقافة لمناقشة مشروع عمره، «إنشاء معهد عالٍ لفنون الطفل»، ويودع زوجته وابنته الأخرى في المطار، ويتوجه مع كوثر إلى روما. يبدو شديد الحماس والسعادة وهو على متن الطائرة، يغني ويقوم بحركات طفولية بيديه، ويتكلم بالإنجليزية مخاطبًا باتريزيا، «باتريزيا أنا قادم». يقول لكوثر إن البحث عن باتريزيا هو واجب قومي، لأن هناك سمعة سيئة عن المصريين، أنهم يواعدون الإيطاليات ثم يرتكونهن، وهو يريد أن يثبت خطأ ذلك، الآن يعود إلى باتريزيا ليعيد لها خاتمها، وليضع نهاية ملائمة وكريمة لقصتهما.

(المصدر: Al Film)
وبعد أن يستقرا في الفندق تبدأ رحلة البحث عن باتريزيا، وعلى الرغم من سنه وآلام ظهره المزمنة، يبدو مختار نشيطًا خفيفًا، كشاب عصري وهو يرتدي «تي شيرتات» البولو والسراويل القصيرة والأحذية الرياضية. تصطحبه ابنته لزيارة «أكاديمية الفنون» مكان دراسته القديمة، ويبحثان عن زميلة قديمة اسمها «د. فاطمة» ليسألاها عن باتريزيا، يذهبان إلى عنوانها أخيرًا، ويفهمان أنها غيرت مكان إقامتها. يصاب مختار ببعض الإحباط، لكن الإحباط الحقيقي يتمكن منه عندما تعرف كوثر أن باتريزيا لا تقيم في روما، إنها تقيم في رومانيا! تبكي كوثر، ويرجع مختار لمشيته المنحنية، وتتفاقم آلام ظهره، ويبدو وقد أضيف لعمره الحقيقي 20 سنة أخرى.
فقاعة معلقة بخيط الذكريات
تبدو قصة «مختار/ باتريزيا» كقصة خيالية خارج خط الزمن المعتاد، شيء ضبابي غير قابل للتصديق، ويبدو مختار نفسه فاقدًا لنقطة ارتكاز عند تعامله مع مسألة باتريزيا، إنه يحبها، لكنه متزوج، إنه يحبها لكنه لم يعد إليها عندما كان بإمكانه ذلك، إنه يحبها، لكن العمر تقدم به وبها، إنه يحبها لكنها بالتأكيد قد مضت قدمًا في حياتها وربما تزوجت ولديها أولاد ولا محل له في حياتها الحالية، ماذا يريد مختار بالضبط؟ لا يبدو وكأن لديه إجابة واضحة. يبدو وكأنه يسبح وفقط في تيار من الذكريات التي لا يزال يربطها بالواقع خيط، لكنها كفقاعة شفافة تطير في الهواء بلا هدف واضح. وربما كان هذا هدف كوثر الرئيسي؛ أن تخلق لوالدها نقطة ارتكاز، أن يقابل باتريزيا ويفهم أن ما يجمعهما هو ذكريات وفقط، وأن عليهما تكريم تلك الذكريات وكفى، لا أكثر من ذلك ولا أقل، لا يوجد أكثر من ذلك يا دكتور مختار. إذن فلترجع من عالم أحلامك إلى واقع عالم الأرض.
هذه القصة الفاقدة لنقطة الارتكاز عكستها كوثر، مصورة ومخرجة فيلم «هدية من الماضي» من خلال أسلوب تصوير الفيلم، لا يوجد مركز، لا توجد بؤرة، لا يوجد Tri-pod يتم تثبيت الكاميرا عليه، يبدو كل شيء سائلًا. حتى في اللحظات التي تكون فيها كوثر بعيدة عن أبيها، وتعلم أنه لا يلاحظ التصوير، تصر على أن تستكمل التصوير بنفس الطريقة، وتترك الكاميرا تتحرك بحرية لتختار زوايا التصوير بنفسها. حتى بوستر الفيلم الرئيسي، يمثل صورة ضبابية Out-of-Focus لها ولأبيها، مؤكدة أن رحلتهما تنتمي لعالم الفانتازيا أكثر من انتمائها لعالم الواقع، حتى اسم الفيلم اختارت له عنوانًا باللغة الإنجليزية وليس العربية، في فانتازيا «مختار/ باتريزيا» لم يكن للغة العربية مكانٌ، كانت إنجليزيتهما الضبابية أيضًا هي القاسم المشترك الوحيد، فكان من الأنسب اختيار عنوانٍ إنجليزي.

(المصدر: كوثر يونس)
وخلال ما تبقى من 78 دقيقة – مدة عرض «هدية من الماضي» – تمضي باقي أحداث الفيلم الممتع في تتبع عنوان باتريزيا وصولًا إلى روما، يتصاعد التشويق مع كل خطوة تقرب أو تبعد مختار عن لحظة لقاء حبيبته، انفعالات الرجل هي البطل الحقيقي للفيلم، لا يوجد موسيقى ولا توجد إضاءة ولا يوجد مكياج، فقط تعبيرات حقيقية مئة في المئة تعكس مشاعر هذا الرجل شفيف الروح في رحلة شوق لمقابلة الحبيبة. رحلة صوفية بامتياز للبحث عن الحب المطلق والمستحيل.
فيلم «هدية من الماضي» يضع المشاهد في مراجعة حقيقية مع النفس، تجعله يسأل ذاته «هل يا ترى أترك العمر يمضي دون أن أنتبه للأشياء الأكثر أهمية؟ الأشياء التي لا يمكن استرجاعها، حتى لو استطعت العثور عليها فيما بعد، لأن الوقت سيكون قد تأخر جدًّا؟»، الفيلم قد يغير نظرة المشاهد لكل شيء حوله، وليعطي لتلك الأشياء/ الأشخاص المميزة حوله، التقدير والاهتمام والتكريم اللائق في الوقت الحاضر، قبل أن تصبح تلك الأشياء/ الأشخاص ذكريات أو في أفضل الأحوال «هدايا من الماضي».