حبست أمريكا أنفاسها لساعات، بعد أن تعرض كنيس يهودي في منطقة كوليفيل بولاية تكساس لهجومٍ من قِبل شخص مسلح، احتجز عشرات الرهائن، قبل أن تتمكن قوات الأمن من تحرير كافة الرهائن وانتهت العملية بمقتل المهاجم؛ في البداية، تناقلت وسائل الإعلام خبرًا أن منفذ الهجوم هو شقيق سجينة أمريكية تدعى عافية صديقي، مطالبًا بإطلاق سراحها.
لكن سرعان ما خرج شقيق عافية صديقي ومحاميتها لنفي أي علاقة لها أو لشقيقها بالهجوم؛ إلا أن الحادث أعاد تسليط الضوء على قضية صديقي، لا سيما وأنها ليست المرة الأولى التي يحاول فيها مسلحون محسوبون على تنظيمات «جهادية» الضغط على الولايات المتحدة لإطلاق سراحها؛ فقد سبق أن حاول «تنظيم القاعدة» بقيادة أيمن الظواهري، وتنظيم «داعش»، مبادلة عافية صديقي برهائن أمريكيين، لكن تلك المحاولات لم تنجح؛ فمن هي عافية صديقي؟ ولماذا قد تثير سيدة باكستانية أربعينية كل هذا الجدل؟
عافية صديقي من صفوة المجتمع إلى صفوف «أعداء أمريكا»
في مارس (آذار) 1972، في كراتشي كُبرى مدن باكستان، وُلدت عافية صديقي لأسرة تنتمي للطبقة الوسطى العليا، كان والدها جراح مخ وأعصاب تلقى تدريبه في بريطانيا، كما كانت أمها عصمت معلمة وناشطة في مجال العمل الخيري، وارتبطت الأسرة بعلاقات قوية مع الدولة الباكستانية؛ إذ كانت أمها عصمت على معرفة برئيس وزراء باكستان حينئذٍ الجنرال ضياء الحق.
في عام 1990 انتقلت عافية للعيش في الولايات المتحدة؛ حيث التحقت بـ«معهد ماساتشوستس للتكنولوجيا (MIT)»، ثم جامعة برانديز، حتى حصلت على درجة الدكتوراة في علم الأعصاب، وفي عام 1995 تزوجت من طبيب تخدير شاب من كراتشي هو أمجد خان، الذي انضم للعيش معها في الولايات المتحدة، وأنجبت منه ثلاثة أبناء.
انتمت عافية صديقي إلى ثقافة إسلامية محافظة، ونشطت في البداية في العمل الدعوي والخيري الإسلامي، ودعمت حملات المنظمات الإسلامية لمناصرة قضايا المسلمين في أفغانستان والبوسنة والشيشان، وألقت الخطب الحماسية وجمعت التبرعات لصالح تلك القضايا، وفي عام 1998، كانت توزع نسخًا من المصحف على زملائها في الجامعة.
في عام 2001، وبعد أن قام «تنظيم القاعدة» بتفجير مبنى برج التجارة العالمي في نيويورك، وما تلاه من إعلان الولايات المتحدة «الحرب على الإرهاب» وغزو أفغانستان، وإسقاط حُكم حركة طالبان الإسلامية في كابل، شكَّل ذلك نقطة تحول في حياة عافية؛ إذ ضغطت على زوجها أمجد خان لمغادرة الولايات المتحدة التي عدتها «غير آمنة» بالنسبة للمسلمين، لكن ذلك لم يكن سوى بداية الحكاية.
إلى هُنا ينتهي اليقين في حياة عافية صديقي، ففي كل مرحلة من مراحل حياتها اللاحقة، ستتنازعها الروايات المختلفة، رواية غربية ترسخ صورتها بوصفها امرأة «إرهابية» تمثل مصدر إلهام لعناصر «القاعدة» و«داعش» وكافة منظمات «الجهاد العالمي»، ورواية شرقية تعدها ضحية «ظلم» الولايات المتحدة التي لا تتورع عن كيل الاتهامات بالباطل والتنكيل بامرأة شرقية مسلمة بلا شفقة أو رحمة.
«سيدة القاعدة» و«أم الإرهابيين».. عافية صديقي في الرواية الأمريكية
وفقًا للرواية الأمريكية، ارتبطت عافية صديقي منذ ذلك الحين بتنظيم القاعدة، وفي مايو (أيار) 2002، خضعت هي وزوجها للاستجواب من قِبل «مكتب التحقيقات الفيدرالي (إف بي آي)» حول عمليات شراء «مشبوهة» عبر الإنترنت لنظارات رؤية ليلية وسترات واقية للجسد، لكن الزوجين ذكرا أن تلك المعدات كانت بغرض رحلات الصيد.
عاد الزوجان إلى باكستان بضغطٍ من عافية كما ذكرنا، لكن عقد الأسرة انفرط بعد أن ضاق أمجد خان بتوجهات زوجته وآرائها «الأكثر تشددًا» لينتهي الأمر بالطلاق في أغسطس (آب) عام 2002، قبل أسبوعين فقط من ولادة طفلهما الثالث سليمان، وبحسب الرواية الغربية، فقد تزوجت عافية صديقي – بعد ستة أشهر فقط من طلاقها – من عمار البلوشي، ابن شقيق خالد شيخ محمد، أحد زعماء القاعدة والعقل المدبر لهجمات الحادي عشر من سبتمبر (أيلول).
زارت عافية صديقي الولايات المتحدة عام 2002، وأرسلت دعوة سهلت دخول شخص يُدعى ماجد خان للولايات المتحدة، اعتقل لاحقًا بتهمة محاولة تفجير محطات وقود في منطقة بالتيمور، وفي عام 2003، أصدرت «إف بي آي» تعميمًا عالميًّا يحذر من خطر عافية صديقي، وفي عام 2004، أدرجها المدعى العام الأمريكي ضمن قائمة «المطلوبين» من قادة تنظيم «القاعدة»، ووصفها بأنها «عنصر خطير» تستخدم تعليمها، وتقدم تسهيلات للمنظمات الإرهابية العاملة ضد الولايات المتحدة.
تظل الفترة بين عامي 2003 و2008 هي اللغز الأكبر في حياة عافية صديقي، فقد اختفت تمامًا، ولم يُستدل لها على أثر، وتقول المخابرات الأمريكية بأن صديقي كانت مختفية مع أولادها عن الأنظار طوال تلك السنوات بإرادتها، وهربًا من الملاحقة الأمنية، حتى ألقت قوات الأمن الأفغانية القبض عليها في محافظة غزني عام 2008، ومعها ابنها البكر أحمد الذي كان يبلغ من العمر 11 عامًا.
شملت الأحراز التي وجدت مع عافية صديقي آنذاك خرائط، ومنشورات تتناول تفاصيل حول هجمات كبرى تؤدي إلى «خسائر جماعية» في المجتمع الأمريكي، بعضها بخط يدها، وقرص صلب سعته «1 جيجابايت» يحتوى على مستندات وملفات تتناول تفاصيل بعض «خلايا القاعدة» التي تخطط لهجمات على المصالح الأمريكية، وقد جرى استدعاء فريق تحقيق من الجيش و«إف بي آي» للمشاركة في التحقيقات مع عافية صديقي.
لم تخرج عافية صديقي من التحقيق على قدميها، بل خرجت فاقدةً الوعي وبرصاصة في بطنها، كانت إصابتها بليغة، وقد نقلتها مروحية على الفور إلى قاعدة باجرام الجوية؛ حيث خضعت لجراحة استكشافية ونجت بأعجوبة، وادَّعت السلطات الأمريكية أن عافية قد باغتت فريق التحقيق، والتقطت بندقية أحد الضباط في غفلةٍ منه، محاولة قتل محتجزيها، قبل أن يباغتها أحدهم برصاصة أفقدتها الوعي!
عافية صديقي «بطلة» في عيون أنصارها
كما ذكرنا، فليس كل ما سبق سوى الرواية الأمريكية عن حياة عافية منذ هجمات الحادي عشر من سبتمبر، لكن المرأة الباكستانية وأسرتها يصرون على رواية مغايرة تمامًا؛ إذ تنفي عائلة صديقي ارتباطها بـ«القاعدة»، كما تنفي زواجها من عمار البلوشي ابن شقيق خالد شيخ محمد، أما الاتهام الأكبر الذي تكيله أسرة عافية للسلطات الأمريكية، فيتعلق بـ«لغز السنوات الخمس» التي انقطعت فيها أخبار عافية بن عامي 2003 و2008.
تتهم عافية صديقي وأسرتها، الحكومة الأمريكية باعتقالها وإخفائها قسريًّا في معتقل باجرام طيلة تلك السنوات الخمس، وتصر الأسرة أن ابنتهم قد تعرضت لـ«أهوال لا تُوصف» من التعذيب وسوء المعاملة وهي قيد الاحتجاز، وحتى حادثة إطلاق النار عليها، وتصر عافية أنها لم تبادر بالهجوم على فريق التحقيق، وأنها تعرضت لإطلاق النار وهي عزلاء من السلاح، ولم تلمس مسدس الضابط الأمريكي أبدًا.
بعد استقرار أحوال عافية الصحية، نُقلت إلى نيويورك؛ حيث خضعت لمحاكمة أمام محكمة مانهاتن الفيدرالية، ولم تخل جلسات المحاكمة من الصخب، فقد أصرت عافية على براءتها، وقاطعت المحاكمة أكثر من مرة، كما طالبت بتغيير طاقم محاميها بسبب خلفيتهم اليهودية، وحين أصدر القاضي حكمه عليها بالسجن 86 عامًا، قالت عافية إن هذا الحكم «صادر من إسرائيل، وليس من أمريكا».
رغم مضي أكثر من 10 سنوات على الحكم عليها، لا تزال قضية عافية صديقي تحظى بتفاعلٍ واسعٍ في موطنها الأم باكستان، وتُعد إحدى القضايا «القومية» في البلاد، فقد شهدت البلاد مظاهراتٍ واسعة تطالب بالإفراج عن العالمة الباكستانية وتعدها «ضحية للظلم الأمريكي»، كما طالبت العديد من الدوائر الرسمية الباكستانية مرارًا بإطلاق سراح عافية صديقي، من بينهم مجلس الشيوخ الباكستاني الذي وصفها في بيان له بـ«ابنة الأمة»، وحاول رئيس الوزراء الباكستاني الحالي عمران خان، في أكثر مناسبة حثَّ الأمريكيين على تسوية القضية، وإطلاق سراح العالمة الباكستانية.