صعد عبد الله حمدوك، رئيس الوزراء السوداني، لرأس السلطة بعد توافق مدني وعسكري على شخصه؛ ليصبح الرجل الوافد من ولايات الجنوب الفقير، وجه بلاده الأبرز في المؤتمرات الدولية، والشخص المفوض للتواصل مع رؤساء العالم، الباحث عن حلول لأزمات بلاده التي تراكمت طيلة عقود حُكم الرئيس السابق عُمر البشير.
تثير خلفية الرجل السياسية، عضوًا سابقًا في الحزب الشيوعي السوداني، أسئلة حول التناقضات بين ما كان يعتنقه في سنوات الصبا، وما ينفذه من سياسة اقتصادية ليبرالية يحرر فيها بلاده من هيمنة الدولة، ويدفع بها نحو تحالفات خارجية مع القوى الدولية التي رآها قبل عقود «دولًا إمبرالية»، غير عابئ بالانتقادات التي طالته.
يحاول التقرير التالي التعرف على المحطات والتحديات التي واجهت حمدوك في عامي الحُكم، وخلفيات الاندفاع نحو سياسات تخالف معتقداته السياسية في سنوات الشباب، التي رآها البعض استجابة للواقع ومعطيات بلاده، التي حالت العقوبات الدولية الموقعة عليها بينها وبين الكثير من فرص التنمية والحياة الأفضل للملايين من سكانها.
وجه حمدوك الآخر.. الشيوعي القادم من ولايات الجنوب الفقيرة
يمتلك حمدوك، رئيس حكومة الثورة في السودان، وجهًا آخرًا يتمايز عن صورته وأفكاره التي يدافع عنها حاليًّا؛ فهو الشاب الوافد من ولايات الجنوب، المُهمشة سياسيًا وخدميًا خلال عقود حُكم البشير، إلى الشمال، للدراسة في جامعة الخرطوم، مدفوعًا بأفكار الثورة والمساواة ومناهضة القوى الإمبريالية.
في الشمال، إذ تضج العاصمة بالحياة والنشاط السياسي، وجد حمدوك في الحزب الشيوعي السوداني ضالته التي احتضنت أفكاره وثورته وشعوره بغبن السلطة الحاكمة، وانجذب لرؤية الحزب في معالجة قضايا الفقر السياسي الذي يعيشه أبناء مدنه، لينضم للحزب عضوًا فاعلًا وناشطًا طلابيًّا.
خلال سنوات الدراسة الجامعية بكلية الزراعة في جامعة الخرطوم، نشط ابن مدينة الدبيبات في ولاية جنوب كردفان في الحزب الشيوعي، مروجًا لمعتقداته وأفكار الحزب الشيوعي في العدالة الاجتماعية وحق مُمارسة السياسة بين أسوار جامعته، ومناهضة الدول الإمبريالية، رافعًا شعار الحزب «حتى الموت شيوعيين، وحياة أمنا الخرطوم، أشيل شيلي وأشد حيلي، وأموت واقف على حيلي، وأقولك يا أعز الناس على الوعد القديم جايين وبين الثورة والسكين شيوعيين حتى الموت شيوعيين».
كانت أفكار ورؤية الحزب التي صاغها عدد من المنظرين الشيوعيين السودانيين، مثل عبد الخالق محجوب الذي أعدمه جعفر النميري، جاذبة لحمدوك، وحاول شيوعو السودان التمايز عن تجارب الاتحاد السوفيتي والصين كي تتماشي أفكارهم مع سياسة بلادهم. وأنتجت هذه الرؤى مواقف للحزب تجاه قضايا أساسية مثل «الاستعمار الأجنبي»؛ الذي يراه الحزب «العدو الحقيقي في البلاد».
وحول السياسة الاقتصادية، وقضايا الفقر، والعدالة الاجتماعية، صاغ الحزب فكرته الأساسية حول تطبيق الاشتراكية كي «يمحو استغلال الإنسان لأخيه الإنسان».
ألهمت أفكار الحزب حمدوك لينخرط في الجامعة مروجًا ومبشرًا بها، سواء في المجموعات التابعة للحزب في الجامعة، أو خلال عضويته في «الجبهة الديمقراطية»، وهي تحالف طلابي بين الشيوعيين والطلاب الديمقراطيين في كلية الزراعة في جامعة الخرطوم.
ظل حمدوك مُلتزمًا بعضويته في الحزب حتى بعد تخرجه وانخراطه في المسار المهني في وزارة المالية السودانية، الذي ترقى داخلها حتى أصبح كبير مسؤولي الوزارة، التي ابتعثته للدراسة في الخارج، قبل أن يكتب عام 1988 نهاية مسيرة حمدوك داخل التنظيم الحزبي بسفره للخارج، قبل أن يعلن استقالته عام 1991 جراء خلافات سياسية كبيرة وانشقاقات داخلية.
أعقب قرار استقالة حمدوك من الحزب الشيوعي صعود البشير للحكم، عقب انقلاب عسكري نفذه رفقة مجموعة من الضباط السودانيين عام 1989، وصدر قرار بفصله آنذاك من عمله بوزارة المالية خلال دراسته بالخارج، بحسب رواية صديق له تحدث لـ«ساسة بوست».
في الخارج، خلافًا للتوقعات، هدأث ثورة حمدوك تجاه سياسات النظام التي وقف لها بالمرصاد وهو طالب، مُفضلًا سياسة الصمت تجاه انتهاكات نظام البشير لمواطني بلده، دون الالتحاق بالمجموعات السودانية المعارضة التي تأسست في أوروبا، مكتفيًا في الوقت ذاته بمسيرته الدراسية بجامعة مانشستر، التي صعدت به لمناصب كُبرى في العديد من المنظمات الدولية، وحرص على عدم مهاجمة نظام حُكم بلاده خلال تقلده هذه المناصب.
مقابل صمت حمدوك حيال سياسات البشير خلال سنواته في الخارج، سمح له النظام الحُاكم بدخول السودان دون موانع قانونية كحال الكثيرين غيره ممن منعهم البشير، والاحتفاء به وجهًا سودانيًّا دوليًّا، فضلًا عن دعم النظام الحاكم آنذاك له عبر حشد أصوات دول أفريقية لاختياره في منصب مساعد الأمين العام للأمم المتحدة للشؤون الاقتصادية في أفريقيا.
المؤشر الهام في ذلك هو ما صدر آنذاك عن إبراهيم الغندور، وزير خارجية نظام البشير، من التأكيد على أن «الحكومة تدعم بشدة ترشيح حمدوك للمنصب الرفيع»، وإن الرئيس البشير «أجرى اتصالات، ببعض القادة الأفارقة لحثهم على الوقوف مع ترشيح عبد الله حمدوك، الذي يحظى بدعم الإثيوبيين».
يُفسر عبد الفتاح عرمان، الصحفي السوداني المُقيم في واشنطن وأحد من تقاطعت مسيرته مع حمدوك في الخارج، موقف حمدوك المهادن من نظام الشير، قائلًا: «رئيس الوزرء السوداني كان في منصب أممي، والسودان جزء من لجنة الاتحاد الأفريقي الاقتصادية في أديس أبابا؛ مما يتطلب منه الابتعاد عن المواقف السياسية؛ لأنه لا يمثل نفسه، وأي موقف سيفسر موقفًا للجنة الأمم المتحدة الاقتصادية في الاتحاد الأفريقي».
ويُضيف عرمان في تصريحات خاصة لـ«ساسة بوست» أن الحكومة ابتعثت حمدوك لإكمال دراسة الدكتوارة، وكان يعمل حينها موظفا في الحكومة، وفُصل بعد انقلاب البشير، وفي تلك الفترة ترك الحزب الشيوعي، وصار أكثر براجماتية عما كان عليه في فترة صباه.
حمدوك في السُلطة.. وداعًا للشيوعية
كان اختيار حمدوك لمنصب رئيس الوزراء السوداني محطة جديدة له، ونقلة نوعية في مساره المهني، واختبار أيضًا لقدرته على العبور بالسودان التي أثقلتها الديون والأزمات والانقلابات العسكرية لبر النجاة.
أيضًا كان صعوده لهذا المنصب اختبارًا لدرجة تمسكه بأفكار الشباب الذي دافع عنها، ودعا السلطات آنذاك لتطبيقها، اعتقادًا منه أنها الخيار الوحيد لمستقبل أفضل.
غير أن الواقع كشف تخلي حمدوك عن أفكار سنواته الأولى، والتي كان أبرز دلالاتها السياسات التي شرع في إطلاقها، سواء كانت اقتصادية أو على مستوى إدارته للعلاقات الدبلوماسية.
مضى حمدوك قدمًا في سياسة اقتصادية تنزع من هيمنة الدولة على الاقتصاد، وتفضل الاستدانة من المؤسسات الدولية وتنفيذ برامجها المجحفة، كما فعل حين تفاوض مع صندوق النقد والبنك الدولي على قروض بمليارات الدولارات مقابل برنامج إصلاح يشمل رفع الدعم وتحرير سعر الصرف، وهو ما شرعت حكومة حمدوك في التمهيد له.
أيضًا، أطلقت حكومة حمدوك خطة للإصلاح الحكومي شملت تصفية عدد من الشركات الـ650 المملوكة للحكومة، وخصخصة أخرى، وفتح تجارة الذهب أمام المستثمرين من القطاع الخاص، لتسمح لهم بمناولة جميع الصادرات وتولي النشاط بدلًا عن الدولة.
دبلوماسيًا، لم يبد حمدوك اعتراضًا على أولى خطوات التطبيع مع إسرائيل، عبر دعمه لإعادة العلاقات مع الأخيرة، وترحيبه باللقاء الذي جمع رئيس المجلس السيادي السوداني عبد الفتاح البرهان ورئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو في أوغندا، ليظهر حمدوك مُرحبًا بالتطبيع مع إسرائيل، الذي رفضه حزبه السابق في بيان رسمي.
أما في نمط العلاقات مع أمريكا، التي زارها حمدوك بعد صعوده لمنصب رئيس الوزراء ليكون أول مسؤول سوداني يزور واشنطن منذ عام 1985، ورأى في خطوة تبادل السفراء بين بلاده وواشنطن «خطوة مهمة نحو إعادة بناء السودان».
بعد تلك الزيارة التاريخية لواشنطن، استجابت حكومة حمدوك لكافة مطالب الأخيرة من أجل رفع اسم السودان من لائحة الدول الداعمة للإرهاب، والتي شملت الالتزام بدفع تعويضات ضحايا تفجيري السفارتين الأمريكيتين في كينيا وتنزانيا في عام 1998، إلى جانب التنسيق معها في قضايا غسيل الأموال ومكافحة الإرهاب.
وبلغ الترحيب والتنسيق مع أمريكا حد قبول حمدوك بمشاركة واشنطن في تحقيقات اغتياله في مارس (أذار) الماضي، عبر مشاركة خبراء أمريكيين من مكتب المباحث الفيدرالية.
أمام هذه السياسة الخارجية والاقتصادية، تحول الحزب الشيوعي السوداني من داعم ومبارك لاختياره بعد الثورة لأول المحتجين على سياسة عضوه السابق، فهاجمت بياناته سياسته الاقتصادية والخارجية، معتبرًا أنها ستخلق «نظامًا طفيليًّا فاسدًا»، وذكر أن سياسة حكومته في التحرير المالي وتحجيم دور الدولة، والتفاوض مع مؤسسات التمويل الدولية على قروض سينتهي بالسودان إلى «وبال إقتصادي ومالي وإجتماعي وصحي وتعليمي وبيئي».
وخلافًا لموقف الحزب الشيوعي من الوثيقة الدستورية التي «كرست هيمنة العسكر على كل مفاصل السلطة»، قبلها حمدوك وشرع في تنسيق المهام، وتوزيع السلطات مع الجيش، حتى أنهم تغولوا على الكثير من سلطاته في كثير من الصلاحيات الداخلية والخارجية، بحسب ما قاله قياديين ثوريين في السودان.
حول هذه التحولات بين أفكار الشباب وسياسته بعد صعوده للمنصب، يقول عرمان إن حمدوك تغير قبل صعوده للسلطة، فبعد احتكاكه بتجارب عديدة، لم يعد يرى في الاشتراكية حلًا لمشاكل بلاده، وصار أكثر واقعية.
مؤكدًا أن حمدوك، اليوم، صار أقرب لمؤسسات التمويل الدولية، مثل البنك الدولي وصندوق النقد، ولديه علاقات مع الدول الأوروبية وأمريكا بصورة تقربه أكثر للمعسكر الرأسمالي.
يُضيف عرمان أن خلفية حمدوك الأممية جعلته في وجه عاصفة من النقد الذي وجهه له رفاقه القدامى في الحزب الشيوعي، متهمين إياه بموالاة «الإمبريالية العالمية»، وسيره في طريق تحرير السوق وتعويم سعر صرف الجنيه مقابل العملات الصعبة، وهي شروط فرضها البنك الدولي حتى يتم الموافقة على منح قرض للسودان.
«لم ينجح ولم يفشل»، هكذا يُقيم عرمان فترة حمدوك في منصب رئيس الوزراء؛ لأنه نجح في كسر حاجز العزلة عن السودان، لكنه لم يستطع خلق علاقة متوزانة مع العسكريين، وأدى ذلك لوجود فجوة بينه وبين تجمع المهنيين، واستحواذ قادة المجلس العسكري على الكثير من سلطاته، بحسب رأيه.
ويوضح الصحافي السوداني المُقيم في أمريكا أن حمدوك عين وزراء لم ينجح معظمهم، وأنه ترك معظم ملفات السلطة التي مفترض أن تكون في يده بصفته رئيس مجلس الوزراء لمجلس السيادة، مع سيطرة واضحة للشق العسكري فيه مثل ملف السلام والاقتصاد. وأوضح عرمان أن حمدوك لا زال لديه بعض الوقت لخلق علاقة قوية ومتوازنة مع المكون العسكري كي لا يتعدى أي منهما على صلاحيات الآخر، وأن يخلق مناخًا صحيًّا مليئا بالثقة بين الطرفين، وهو المناخ غير الموجود الآن.