أفردت كتب التاريخ الإسلامي صفحات طوال لمئات الملوك والأمراء والقادة والدعاة الذين رصَّعوا بالمجد سيرهم، ولربما راح أغلب هؤلاء الشخصيات يقطفون ثمار المجد والجاه بشكل تقليدي: القوة والفتح والتشييد، لكنَّ جزءًا آخر من تلك الشخصيات اختار طريقًا آخر للمجد، طريق الزهد الممزوج بعاطفة دينية قوية والعلم والقتال.
أحد هؤلاء كان الفقيه عبد الله بن ياسين الجزولي، مؤسس وداعية دولة المرابطين، الذي نتعرف إليه معًا في هذا التقرير الذي يتناول سيرة «مهدي المرابطين» كما أطلق عليه أنصاره؛ الداعية الذي أسَّس دولة حكمت المغرب والأندلس لسنوات طوال.
عبد الله بن ياسين.. الداعية الذي جمع علوم الدين والدنيا
تكتنف المراحل الأولى لحياة داعية المرابطين وفقيههم، عبد الله بن ياسين الجزولي، الكثير من الغموض، ولا تُسلِّط المصادر التاريخية المتوفرة الضوء سوى على بعض الصور الشحيحة عن طفولته وشبابه؛ مقارنةً بدعوته وجهاده.
فقد وُلد عبد الله بن ياسين الجزولي من أب صنهاجي يُدعى ياسين بن مكوك بن سير علي؛ أمَّا أمه فتدعى تين يزامارن من أهل جزولة، ولا يُعرف بالتحديد تاريخ ميلاده، لكن تاريخ وفاته معروف بدقة ومحفور في ذاكرة الغرب الإسلامي؛ إذ نقل ابن عذارى في كتابه «البيان المغرب في أخبار الأندلس والمغرب» أنَّ رماح الموت تخطفته في 24 جمادى الأولى عام 451 هجرية الموافق لسنة 1059 الميلادية؛ على يد جماعة عرفت بإمارة «برغواطة»، والتي يصفها أعداؤها بـ«الهرطقة والضلال».
ويرجح الباحث حسن أحمد محمود في كتابه «قيام دولة المرابطين.. صفحة مشرقة من تاريخ المغرب في العصور الوسطى» أنَّ عبد الله بن ياسين ينحدر من القبائل الملثمة التي تضرب في تلك النواحي من بلاد السودان الغربي، ويعتقد أيضًا أنَّه ينتسب لقبيلة «جدالة» التي تقع مضاربها قرب منطقة السنغال.
ومثل يوم ميلاده؛ لم تذكر كتب التَّاريخ شيئًا عن طفولته، بل اكتفت بذكر تحصيله للعلم عند فقيه السُّوس «وجاج بن زلو اللَّمطي» الذي أنشأ في مدينة نفيس في السوس الأقصى رِباطًا للتعبد وتلقين العلوم لمريديه، فكان عبد الله بن ياسين من أكثر مريديه.
وتذكر بعض المصادر التَّاريخيَّة مثل ابن عذارى المراكشي أنَّ ابن ياسين ومثل سائر أقرانه من طلبة العلم؛ شدَّ الرحال إلى بلاد الأندلس في عهد ملوك الطَّوائف، فأقام بها سبع سنين، وحصل فيها على علوم كثيرة فأصبح بذلك فقيهًا في أمور الدِّين والدنيا؛جمع الفضل والتقى والورع والفقه والأدب والسِّياسة، كما كان عبد الله بن ياسين مجاهدًا مرابطًا وورعًا زاهدًا صوامًا قوامًا، كما ذكر ابن أبي زرع في كتاب «الأنيس المطرب».
ومهما يكن من أمر، فقد أجمع الرواة على أنَّ عبد الله بن ياسين كان من الفقهاء النابهين، وكان شهمًا قوي النفس حازمًا ذا رأي وخير وتدبير حسن، فقال عنه المُحدِّث شمس الدين الذهبي: «كان عالمًا قوي النفس، ذا رأي وتدبير».
من رِباط عبادة إلى دولة مترامية الأطراف
على تلك الأرض المجدِبة وفي ظل الحرِّ الشديد بين مفازات الصحراء المناجية للشمس؛ انطلق عبد الله بن ياسين في رحلة نشاطه الدعوي صحبة أمير جدالة يحيى بن إبراهيم، وكانت «لمتونة» (قبيلة بربرية) أولى القبائل التي استقر بها، ثم جدالة وغيرها من بطون صنهاجة البربرية.
كانت الشدة والصرامة والانتقاد اللاذع السمة البارزة في خطاب وعبد الله بن ياسين ودعوته، الأمر الذي جعل قبائل لمتونة وجدالة تضيق به، وجعل البعض منهم يتعرضون لعبد الله بن ياسين ويهددونه، فما كان منه إلَّا أن خرج من القبيلتين وانعزل للعبادة في مكان ناءٍ بإحدى جُزر مصب نهر السنغال؛ وذلك عبر تأسيس رِبَاط عبادة؛ متبعًا في ذلك سُنة معلمه «وجاج بن زلو اللَّمطي» مؤسِّس رِبَاط نفيس.
وفي كتابه «المغرب الكبير في العصر الإسلامي» يذكر الباحث عبد العزيز السالم أن الأمر بدأ بسبعة أفراد، منهم يحيى بن إبراهيم نفسه، ثم أخذت كرة الثلج تكبر؛ حتَّى بلغ عدد رواد الرِبَاط نحو ألف رجل من أشراف صنهاجة.
واستمر عبد الله بن ياسين في تهيئتهم روحيًّا، وخلقيًّا، واجتماعيًّا، وسياسيًّا وعسكريًّا، وأخلص له هؤلاء الرِّجال فأطاعوه طاعة عمياء؛ فخاطبهم قائلًا: «يا معشر المرابطين أنتم جمعٌ كثيرٌ، وأنتم وجوه قبائلكم ورؤساء عشائركم، وقد أصلحكم الله تعالى وهداكم إلى صراطه المستقيم، فوجب عليكم أن تشكروا نعمته عليكم وتأمروا بالمعروف، وتتناهوا عن المنكر، وتجاهدوا في سبيل الله حق جهاده» فاستجاب القوم لندائه حيث قالوا له: «أيها الشَّيخ المبارك مُرنا بما شئت تجدنا سامعين مُطيعين ولو أمرتنا بقتل آبائنا لفعلنا».
وقد سُمي الداعية عبد الله بن ياسين ورجاله بـ«المرابطين» نسبة إلى الرِبَاط الذي انطلقوا منه، كما سموا أيضًا بـ«الملثمين» بسبب اللثام الذي اشتهروا بوضعه على وجوههم في الصحراء الكبرى التي جمعت شملهم.

حدود دولة المرابطين التي أسسها الداعية والفقيه عبد الله بن ياسين
وقد انطلقوا في حماسةٍ شديدة في البعثات التي أرسلها عبد الله بن ياسين إلى مختلف الجهات، فكانت طريقهم بـ«الدعوة والإنذار» أولًا، ثم بالسيف؛ ولم تمض سوى بضع سنوات حتى اكتسح مدُّ المرابطين المغرب الأقصى وأجزاءٍ واسعة غرب القارة السمراء؛ ووصولًا، إلى بلاد الأندلس فيما بعد.
فقه الدعوة والدولة.. كيف نجح ابن ياسين في تأسيس «المرابطين»؟
بالرغم من قدرته على الحكم السياسي؛ فقد التزم عبد الله بن ياسين بشكل القيادة الدينية التقليدي حتى لُقِّب بـ«مهدي المرابطين»، وآثر إسناد القيادة السياسية والحربية إلى قائد آخر يختاره من بين أكثر المخلصين للدعوة من المرابطين الأوائل، فكان أولهم يحيى بن إبراهيم الكُدالي، فلما مات خلفه يحيى بن عمر اللمتوني، والذي شهد عهده توسعات ضخمة لدولة المرابطين، ثم توفِّي، وخلفه أخوه أبو بكر بن عمر.
ولمعرفة كيفية نجاح الداعية ابن ياسين في تأسيس اللبنة القوية لدولة المرابطين؛ لا يمكن أن نغفل نشاطه التربوي والدعوي الذي بثَّه في صفوف أتباعه؛ فقد سعى عبد الله بن ياسين، وفقًا للناصري صاحب كتاب «الاستقصا لأخبار المغرب الأقصى» إلى القضاء على ما يراه من «المكروهات أو ما يناقض مرتبة الإحسان بين أتباعه».
فكان يعاقب من فاتته ركعة واحدة بالضرب عشرين سوطًا، كما كان «يستتيب» المنضمين الجدد إلى دعوته؛ وذلك بضربهم بالسياط تطهيرًا لهم من ذنوبهم السابقة، حسب تصوره، وأخذ ثلث أموالهم لإنفاقه على الدعوة بحجة تطهير المال؛ كما كان يعتقد، ولمَّا أحسَّ أن النفوس قد مالت إلى نهجه وبدأ الرباط يستقطب التائبين القادمين من مختلف القبائل الصحراوية، أسرج الخيل ودعا أنصاره إلى إعادة «الفتح»؛ حتى حكمت دولته من نهر السنغال إلى بلاد الأندلس.
ولم تمنع الزعامة الدينية لابن ياسين أن يكون قائدًا عسكريًّا ويخوض المعارك في بطون الصحراء، فقد قاد بنفسه بعض الحروب وشارك فيها، وكان من بدايات فتوحه، بعد إخضاع القبائل الصحراوية، غزو مدينة «سجلماسة» التي كانت تمثل بوابة أساسية في المسالك التجارية لغرب أفريقيا حتى استشهاده في معركة ضدَّ قبائل إمارة «برغواطة».
واستطاعت دولة المرابطين المكوث نحو 90 سنة؛ سطرت خلالها ملاحم كبيرة؛ فحكمت من نهر السنغال حتى المغرب الإسلامي؛ كما استطاعت أن تُبقي الأندلس في حكم بلاد الإسلام عبر القائد الشهير يوسف بن تاشفين الذي تمكن من العبور في واقعة «الزلاقة» وإنقاذ الأندلس، وبذلك رصَّع المرابطون تاريخهم إحدى أهم الدول في تاريخ المسلمين.
«إني ميت من يومي لا محالة».. سيرة الجهاد
كان عبد الله بن ياسين من الدعاة المحاربين لما رآه ملوثًا لصفاء الإسلام؛ فبينما كان جنده يتوغلون وينتشرون في أقصاع أفريقيا الغربية والمغرب العربي الإسلامي؛ كانت غير بعيد عنه إمارة «برغواطة» التي أنشأها طريف أبو صالح وأقام بها ديانة غريبة وصفها خصومها بـ«الهرطقة».
ووفقًا للسان الدين بن الخطيب في كتابه «أعمال الأعلام» فقد ضاق ابن ياسين ذرعًا بأفكار أهل إمارة «برغواطة» وممارساتهم؛ فأرسل إليهم خطبة مكتوبة يحثهم فيها على ترك ما أسماه بـ«الفتنة» والقبول بسلطة المرابطين عليهم قائلًا «ألا تعرفون أنَّه من مات منكم في هذه الحروب الجاهلية فإنَّه من أهل النار، اتقوا الله وارتدعوا عما أنتم عليه من فتنتكم وقدموا على أنفسكم من يؤلفكم».
فقالوا له «ما هو فينا ولا في قبائلنا إلَّا كل قبيلة منا ترى أن يكون الأمير منها» فقال لهم «إن أنتم سمعتم مني أدلكم على رأي صالح يصلح به أحوالكم، هذا أمير لمتونة الصحراء أبو بكر بن عمر أهل الزهد والورع فأنعموا له»، وفق رواية الخطيب.
ولم تذعن إمارة «برغواطة» وأهلها لدعوة ابن ياسين؛ الأمر الذي دفعه بالزحف بأنصاره رفقة الأمير أبي بكر بن عمر اللمتوني إلى إقليم تامسنا وصمَّم على الفتك بهم والقضاء عليهم؛ فاشتعلت الحرب بين الفريقين، وهلك فيها ما لا يُحصى من الخلق، وفي ميدانها أصيب الداعية عبد الله بن ياسين بجروح.
وهو قريب من الموت، كانت آخر وصايا عبد الله بن ياسين -كما جاء في كتاب «الاستقصا» – لمشائخ قبيلة صنهاجة وأتباعه: «يا معشر المرابطين إني ميت من يومي لا محالة، وإنكم في بلاط عدوكم فإياكم أن تجبنوا أو تنازعوا فتفشلوا وتذهب ريحكم، وكونوا أعوانًا على الحق وإخوانًا في ذات الله، وإياكم والتحاسد على الرياسة فإن الله يؤتي ملكه من يشاء من خلقه، ويستخلف في أرضه من أراد من عباده».
وتوفي بعدها عبد الله بن ياسين متأثرًا بجراحه؛ يوم الأحد 24 جمادى الأولى سنة 451 هـ/1059م ودفن بموضع يطل على وادي «كريفلة» على مقربة من مدينة الرِّباط حاليًّا، وبُني على قبره مسجدٍ لا يزال قائمًا حتى الآن.