اليوم هو الجمعة الموافق 16 رمضان 414هـ، يومٌ مشهود في مدينة قرطبة، عاصمة الأندلس الإسلامية، والتي مزّقتْها الفتنة العارمة لأكثر من 15 عامًا. ضاقت جنبات جامع قرطبة الكبير بالآلاف المؤلفة من عامة أهل قرطبة، ومن خاصتها: القضاة، والفقهاء، والوزراء السابقين، والأعيان، والزعماء المحليين، الذين اجتمعوا بعد صلاة الجمعة للبت في مصير قرطبة، والأندلس جمعاء، التي ترنّحت كثيرًا في حلقة مفرغة من الفوضى، والاضطراب، والحروب المخربة.
استبشر الكثيرون خيرًا بهذا الاجتماع غير المسبوق، الذي رتّب نُخَب قرطبة أن يتم فيه اختيار خليفة جديدًا الأندلس، ينتقيه أهل الحل والعقد من بين ثلاثة مرشحين ينتسبون للبيت الأموي، الذي حكم أبناؤه الأندلس زهاء ثلاثة قرون، شهدت رغم تقلباتها، أزهى عصور الأندلس خاصة عهود الداخل والناصر والحكم المستنصر.
حضر اثنان من المرشحين الثلاثة، بينما تأخر الثالث عن الموعد، فبدأت المداولات، وانحصرتْ مساحة الاختيار في الاثنيْن الحاضريْن. بعد برهة من الوقت والنقاش، قُضي الأمر – أو هكذا كان الظن – بدأ الكاتب في خط كتاب البيعة لمن وقع عليه الاختيار، حتى يوقع عليه النخب الحاضرة، ويقسمون الأيمان المغلظّة، فتبدأ بعدها البيعة العامة من جميع أهل العاصمة.
فجأة شق الأجواء هدير عاصف من جلبة الخطوات الثقيلة، واصطكاك المعادن، وصيحات وشهقات اختلط فيها التعجب بالاستنكار بالصدمة بالرهبة، صفوف من مذات الجنود حاملي السلاح،، تشق طريقها وسط المجتمعين بالمسجد حتى وصلت إلى صدر المجلس. يقود هؤلاء الجند عبد الرحمن بن محمد بن هشام بن عبد الجبار، من أمراء البيت الأموي الأندلسي. كانت المفارقة الكبرى أن عبد الرحمن هذا هو المرشح الثالث، والذي تأخّر في الحضور، فتجاوزه المجتمعون، لكن يبدو أنهم لن يستطيعوا تجاوزَه الآن، وقد ألقى بورقة السيف على المنضدة.. وهي كورقة الولد الشهيرة في لعبة «الكوتشينة».
جذور الفتنة الأندلسية
الدولة الأموية الأندلسية التي أسسها عبد الرحمن بن معاوية بن هشام، الملقَّب بصقر قريش عام 138هـ،، والتي حكمت كامل الأندلس الإسلامية حوالي قرنيْن ونصف من فوق صهوة عرش قرطبة القوي، أخذت دورتها في الزمان، وآلت إلى الهِرَم بعد وفاة آخر حكامها الأقوياء، الحكم المستنصر العجوز عام 366هـ، والذي ترك طفلًا صغيرًا – هشام المؤيد بالله – في ولاية العهد، فتصارعت حوله مراكز القوى.
حسم الصراعَ الحاجبُ القوي المنصور محمد بن أبي عامر، والذي انفرد بصلاحيات الحكم، وترك للطفل الاسم دون الرسم. استمرَّت الدولة العامرية زهاء 30 عامًا، هي زمن حجابة المنصور – توفي 392هـ – ثم ابنه عبد الملك – توفي 399 هـ – وصلت فيها الأندلس أيام المنصور إلى ذروة القوة العسكرية والسياسية والاقتصادية، رغم استبداد المنصور وطغيانه، وفتكه بكلِّ من يشتبه في طمعِهِ في السلطة.
لكن سقطت الدولة العامرية من عليائها عام 399هـ بعد أشهرٍ قليلة من تولي عبد الرحمن بن المنصور الحجابة بعد أخيه عبد الملك. و لم يكن عبد الرحمن هذا يمتلك من مؤهلات الحكم سوى الطمع فيه، فكانت تصرفاته السياسة الرعناء في أسابيعه الأولى في الحكم، كمحاولته انتزاع ولاية العهد من هشام المؤيد، واستسلامه للمجون، بمثابة القشة التي قسمت ظهر البعير.
اندلعت في منتصف العام ثورة عنيفة في قرطبة ضد العامريين، تزعَّمَها محمد المهدي، أحد أمراء البيت الأموي، وراح ضحيتها عبد الرحمن العامري، كما تم إحراق ونهب مدينة الزاهرة التي اختطَّها المنصور لتكون بمثابة عاصمة إدارية لحكومته، وسُكنى لكبار رجال دولته.
وهكذا بدأت أحداث «الفتنة الأندلسية الكبرى» 399هـ – 422هـ، والتي انفجرت فيها كافة التناقضات الأندلسية، السياسية والعِرقية والمناطقية، وآلت تلك الأحداث المؤسفة إلى انهيارُ السلطة المركزية في الأندلس، وتمزق الدولة الأندلسية الكبرى إلى أكثر من 20 دُويلة، فيما عُرِفَ بعصر ملوك الطوائف.
لا تعذِلُوا ملكاً تذلَّلَ للهوى – ذلُّ الهوى عزٌّ ومُلْكٌ ثاني!
ما ضرَّ أنِّي عبدهُنَّ صبابةً – وبنو الزمانِ وهُنَّ مِن عِبداني
إنْ لم أُطِعْ فيهنَّ سلطانَ الهوى – كَلِفًا بهنَّ فلستُ من مروانِ
من شعر سليمان المستعين، خليفة الأندلس 403هـ – 407هـ
تمَّ مبايعة المهدي خليفةً للأندلس، إلا أنه لم يمتلكْ المؤهلات الكافية لقيادة الأندلس في ذلك المنعطف الخطير، فزادت الأمور سوءًا، وثار عليهِ بعض أمراء بيته الأموي، واستنصر كل فريق بإحدى الممالك المسيحية الشمالية ضد الآخر في سابقة خطيرة لم تشهدها الأندلس من قبل، إلى أن قُتَل المهدي أواخر عام 400هـ على يد بعض رجاله الحانقين من رعونته وتخبُّطه. نصَّب هؤلاء هشام المؤيد خليفةً كامل الصلاحيات للمرة الأولى في تاريخه، لكن نجح خصمه سليمان المستعين الأموي عام 403هـ في انتزاع الخلافة بسيوف حلفائه من البربر بعد حصار طويل، ومعارك حربية، استغرقتْ حواليْ عامين. استباح البربر عاصمة الأندلس، ونكَّلوا بأهلها انتقامًا مما فعله القرطبيون أيام ثورة المهدي من اضطهاد للبربر، إذ كانوا يعتبرونهم حلفاء العامريين الذين أسقطت ثورة قرطبة دولتهم.
حاول المستعين إخراج البربر من قرطبة، بتوزيع قادتهم كولاةٍ على مختلف الولايات الأندلسية الخاضعة له، فكان هذا مقدمة لسيطرة البربر لعشرات السنين على الكثير من قواعد الأندلس الجنوبية والوسطى. ما لبثَ البربر أن انقلبوا على المستعين، مستغلين ضعفه، وعجزه عن فرض سيطرته على البلاد، وأطاح به زعيمهم علي بن حمود عام 407 هـ، وقتله، وانتزع الخلافة لنفسه، متذرِّعا بنسبه الذي يمتد إلى الأدارسة أحفاد الحسن بن علي بن أبي طالب، الذين أسسوا دولة في المغرب قبل أكثر من قرنيْن. لكن ما لبث علي بن حمود أن قُتِل بخيانةٍ من بعض خدمه أواخر عام 408هـ، وخلفه أخوه القاسم.
بين البربر وقرطبة
ليس لأحدهم في الخلافة إرث، ولا في الإمارة سبب، ولا في الفروسية نسب، ولا في شروط الإمامة مُكتَسَب. اقتطعوا الأقطار، واقتسموا المدائن الكبار، وجَبَوُا العمالات والأمصار، وجنَّدوا الجنود، وانتحلوا الألقاب… وكتبت عنهم الكتاب الأعلام، وأنشدهم الشعراء، ووقفت بأبوابهم العلماء، وتوسلت إليهم الفضلاء. وهم ما بين بربريٍّ مجلوب، ومجندٍ غيرِ محبوب * أديب الأندلس وشاعرها لسان الدين بن الخطيب في نقدٍ لاذع لملوك الطوائف.
كان من أبرز محاور الصراع في عصر الفتنة الأندلسية الكبرى 399-422هـ، تلك الفصول من الصراع الدامي بين أهالي قرطبة، وبين البربر. كان الغالبية العظمى من أهل قرطبة من غير الأصول البربرية (عرب – مولَّدين وهم من أصحاب الأصول المختلطة)، وكان هناك جفوة بينهم وبين البربر القادمين من المغرب، إذ كانوا يعتبرونهم أجلافًا، لغلبة الطبيعة الخشنة والعسكرية على هؤلاء، كما كانوا يعتبرونهم طارئين على الجزيرة، وربما كان في هذا الكثير جانبًا كبيرًا من عدم الإنصاف، إذ كان البربر في طليعة جيوش الفتح، وعلى رأسهم القائد الشهير طارق بن زياد.
استكثر المنصور بن أبي عامر من جلب البربر من المغرب، وتسكينهم في الأندلس، وذلك ليدعم بهم جيوشه في حروبه المتوالية ضد الدويلات المسيحية شمال الأندلس، وكذلك لتثبيت دعائم ملكه الذي حصَّله في فصول من الصراع السياسي والدموي على مدار سنوات. أضاف هذا المزيد من التوتر لعلاقة البربر بأهل قرطبة، تجلّت بعد انهيار الدولة العامرية؛ إذ حُسبوا على النظام البائد، فزادت الاعتداءات عليهم من قبل القرطبيين، خاصة في أيام المهدي، والذي كان يحرض عليها.
رسم زيتي لمقاتلين من البربر في العصور الوسطي – المصدر
في فترات هيمنة البربر على قرطبة (غير المباشرة أيام المستعين 403-407هـ، ثم المباشرة أيام الحموديين 407هـ – 413هـ)، لم يُحسن البربر عمومًا التعامل مع أهالي العاصمة؛ مما أذكى المزيد من النيران تحت الرماد. حاول علي بن حمود في أوائل خلافته أن يتقرَّب من القرطبيين، ويكسب ودهم، لكنه ما لبث أن جنح للشدة معهم عندما تجمَّع تحالف كبير من الأندلسيين والفتيان العامريين في شرق الأندلس، وبدأ جيوشهم الزحفَ تجاه قرطبة ملتفين حول خليفة أموي اسمه المرتضي. بعد أشهر من اغتيال علي بن حمود، اصطدم جيش خصومه الأندلسيين، بجيش بربري قوي بقيادة أحد أكبر زعماء البربر في الأندلس، وهو زاويّ بن زيري، خارج غرناطة جنوب الأندلس، وانتصر البربر انتصارًا ساحقًا، وقُتِل المرتضى.
لم يكد القاسم بن حمود يكمل عامه الرابع خليفةً لأخيه، حتى أطاح به انقلاب دبَّره ابن أخيه يحيى بن علي بن حمود، والذي نصَّب نفسه خليفة عام 412هـ. لكن عاد العم فأطاح بابن أخيه من الحكم أواخر العام التالي 413هـ، وعاد إلى قرطبة التي عانت من الكثير من الفوضى والاضطراب، وزادت صدور أهلها احتقانا.
قام القرطبيون في العام التالي 414هـ بثورةٍ مسلَّحة ضد البربر وخليفتهم القاسم بن حمود، أسفر عن طردهم من قرطبة. حاول البربر حصار قرطبة كما حدث أيام المستعين قبل 13 عامًا، لكن انتصر عليهم القرطبيون في معركة فاصلة خارجها، وفكُّوا الحصار. عندئذٍ قرر أعيان قرطبة ردَّ الخلافة إلى من يختارونه بالشورى من البيت الأموي الذي حكم الأندلس منذ أيام الداخل قبل ثلاثة قرون، وهكذا جاء الاجتماع الكبير في جامع قرطبة الذي صدَّرنا به هذا التقرير.
أيام المستظهر.. «كان صرحًا من خيالٍ فهوى»
انتهتِ اللحظة الاستثنائية في قرطبة كبارقٍ خاطف لاح في سماءٍ عاصفة. بايعَ الغالبيةُ العظمى من الموجودين – رغبًا ورهبًا – الأميرَ الأموي الذي جاء متأخرًا يستظلُّ بالسيوف. لم ينسَ المستظهر – هكذا تلقَّب – بالطبع أن يأخذ ابن عميْه المرشَّحيْن الآخريْن معه من الجامع إلى القصر، تحديدًا إلى سجن القصر.
قنطرة قرطبة التاريخية الشهيرة … المصدر
حاول المستظهر الشاب – 23 عامًا – أن يمنح حكمه بعضَ الروْنق، فحاول ضمَّ العديد من أعيان قرطبة ورموزها إلى حكومته، واستحدث العديد من المناصب الوزارية الجديدة، والوظائف الشكلية ليعطيَهم صفةً، وكان من أشهر وزرائه إمام المستقبل ابن حزم.
ومع سلطان فقير، لا يقع بيده درهم إلا من صبابة، أو نهب مغلول ممن تقلقل عنها، يقيم منها رمقه، ويفرق جملته على من تكنَّفه من جنده ودائرته، ويتطرق إلى ما يقبح من ظلم رعيته، فلم يلبث الأمر أن تفرَّى به فسُفك دمه، وانحسم الأمل من دولته * مؤرخ الأندلس ابن حيان منتقدًا المستظهر الأموي والمناصب الشكلية التي استحدثها في دولته، وكان معاصرًا لأيامه.
أرسل المستظهر رسله إلى كافة المدن الأندلسية الهامة يدعوها للدخول في طاعته، فرفضت غالبيتها دعوته. حاول الرجل تعزيز مكانه، وترسيخ حكمه، فاعتقل العديد من أعيان قرطبة، ووزرائها السابقين، وبعض أمراء أسرته الأموية، وصادر أموالهم؛ مما زاد احتقان العديد من النُّخَب تجاهه.
أما القشة التي قصمت ظهر البعير، فكانت البربر. حاول المستظهر إمساك العصا من المنتصف، فأراد أن يفتح بابًا خلفيًا للتواصل مع البربر، فاستقبل بعض فرسانهم ومقدَّميهم في قصره، وأظهر نيَّته عقد ما يشبه المصالحة بينهم وبين القرطبيين. استغلَّ خصوم المستظهر هذا الأمر، وألبوا عامة أهل قرطبة ضد المستظهر، معتبرين تواصله مع البربر خيانة للمدينة، ولتضحيات أهلها في نضالهم ضد البربر على مدار سنوات.
لم يكد يمر 47 يومًا على جلوس المستظهر على العرش الملتهب، حتى اندلعت ثورة كبيرة في قرطبة ضده، اقتحم خلالها الدهماء قصرَه، وسلبوه، ونهبوه، وسبوْا حريمه، واعتقلوه من حمام القصر في حالٍ مُزرية، ثمَّ طارت عنقه تحت أقدام خليفته الذي بايعه الثائرون، وهو ابن عمه المستكفي الأموي.
كان تمكين المستكفي من العرش، كحال المستجير من الرمضاء بالنار. انصرف المستكفي – والد شاعرة الأندلس الشهيرة ولّادة، التي اشتهرت بدلالها وبروزها بين الرجال – إلى اللهو والشراب والمجون، وأساء التصرف في إدارة الدولة، واضطهد بعض زعماء قرطبة، حتى فرَّ بعضهم إلى بلاط يحيى بن علي الحمودي زعيم بربر الأندلس. بعد عام ونصف من خلافته الفاشلة، أجبر كبراء قرطبة المستكفى على التنحي، فوافق خوفًا على حياته، وفرَّ من قرطبة، لكنه ما لبِثَ أن قُتل.
ظلّت قرطبة بلا قيادة لأشهر، حتى دخلها يحيى الحمودي، صحبة فرقة عسكرية من البربر أواسط عام 416هـ، ثم غادرها بعد أشهر خوفًا من ثورة أهلها، وترك بها حامية من البربر، واثنيْن من الوزراء لإدارة المدينة. ما لبث القرطبيون أن ثاروا مجدَّدا وفتكوا بالحامية عام 417هـ، وقرر أعيان قرطبة بعد فترة، اختيار خليفة أموي، ولقبوه بالمعتد بالله. لم يتمكن المعتد من دخول قرطبة حتى عام 420هـ، وخلال عاميْن تالييْن، لم يختلفْ أداؤه كثيرًا عن المستكفي.
أواخر عام 422هـ، تم اغتيال وزير المعتد، ثم قام كبراء قرطبة، بعزل المعتد، وطرده من قرطبة، ثم أصدروا مرسومًا بقيام حكومة الجماعة بزعامة أبي الحزم بن جَهْوَر – الذي أصبح بعد حين الحاكم المطلق لقرطبة – وأعلنوا إلغاء الخلافة الأموية، بل طرد الأمويين كافةً من قرطبة. كانت هذه الأحداث هي الشرارة الرسمية لعصر ملوك الطوائف، الذي تشرذمت فيه الأندلس إلى أكثر من 20 دويْلة.
إسماعيل بن نغرالة.. عندما أصبح «اليهودي الحكيم» وزيرًا لغرناطة