عبر كافة محطات التاريخ كانت منطقة آسيا الوسطى ساحة مفتوحة للصراعات المحلية والإقليمية والدولية؛ وذلك بحكم موقعها الإستراتيجي في أكبر قارات العالم وأكثرها ازدحامًا بالبشر والحضارات والقوى السياسية والعسكرية، ولذا اكتظَّ تاريخ المنطقة، وتحديدًا أفغانستان، بالحروب والملاحم والتقلبات السياسية والحضارية.

ومن أهم هذه الحروب ذلك الصدام العسكري الذي وقع قبل ثلاثة قرون في تلك المنطقة والذي انتهى بإزاحة إحدى أبرز الدول الآسيوية من التاريخ، وهي الدولة الصفوية التي استمرَّت لقرنيْن وربع لاعبًا سياسيًّا وعسكريًّا وحضاريًّا محوريًّا جنوب آسيا الوسطى، وحدث هذا على يد بعض القبائل الأفغانية المتمردة على الهيمنة الاقتصادية والسياسية والدينية الصفوية.

تاريخ وفلسفة

منذ 3 سنوات
من الإسماعيلية إلى كابول.. كيف تصنع «الصواريخ المضادة للطائرات» التاريخ؟

حينئذٍ، لم تدرِ تلك القبائل الأفغانية المُحاربة أنها وهي تدافع عن مصالحها المحلية عبر كسر عدوها الصفوي الكبير في عقر داره، كانت تُغَيِّر مسار تلك البقعة الملتهبة من التاريخ والجغرافيا، وتفتح الطريق أمام كيان أفغانستان الذي سينشأ لاحقًا ويحمل لقبًا فريدًا ليس به الكثير من المبالغة، وهو الأرض القاهرة للإمبراطوريات الكبرى، وآخرها قطب العالم الحديث، الولايات المتحدة الأمريكية، التي وصف رئيسُها جو بايدن أفغانستان، في خطابه منتصف أغسطس (آب) 2021 بأنها مقبرة للغزاة.

الدولة الصفوية.. إمبراطورية شيعية في آسيا

نشأت الدولة الصفوية في إيران عام 1501م على يد الشاه إسماعيل الأول الصفوي، شديد الطموح والتعصُّب معًا، والذي كان يعد مشروعه السياسي بناءً إمبراطوريًّا على غرار الدولة الفارسية الساسانية التي سحقتها الفتوحات الإسلامية المبكِّرة قبل تسعة قرون.

سيطرَ إسماعيل على مساحةٍ واسعةٍ من أراضي فارس (إيران) وما يجاورها من آسيا الوسطى، والقوقاز، والعراق، وشرقي الأناضول، وفرض التشيع الاثنى عشري في إيران، ليتحقق له التمايز الكامل سياسيًّا ومذهبيًّا عن خصمه الأبرز الدولة العثمانية سنيَّة المذهب.

Embed from Getty Images

 أثر من العصر الصفوي شمال غرب إيران 

يذكر المؤرخ المصري صلاح العامري في كتابه «تاريخ أفغانستان وتطورها السياسي» أن إسماعيل من أجل فرض هيمنته السياسية والدينية بذل ما في وسعه من فنون القمع والمذابح أحيانًا، ليجعل إيران للمرة الأولى في التاريخ الإسلامي ذات أغلبيةٍ شيعية، وتمكَّن كذلك في سنواته الأولى من أن يشكل خطرًا وجوديًّا حقيقيًّا على الدولة العثمانية. مستغلًا الاضطراب الذي عصف بها أواخر عهد السلطان بايزيد الثاني (توفي 1512).

تاريخ

منذ 3 سنوات
السلطان سليم الأول.. الشاب «الصارم» الذي غيّر تاريخ العالم العربي

من هو السلطان سليم الأول الذي غير تاريخ العالم العربي عبر معركة مرج دابق ومعركة الريدانية بعدما قتل السلطان قانصوه الغوري والسلطان طومان باي.

ورغم الانتكاسة الكبرى التي تعرضت لها الدولة الصفوية الناشئة بهزيمتها الساحقة في موقعة جالديران عام 1514 على يد جيش السلطان العثماني سليم الأول، والذي استولى بعدها لفترة قصيرة على العاصمة الصفوية «تبريز»، فإن إسماعيل وابنه طهماسب الأول من بعده، نجحا خلال عقودٍ قليلة في تجاوز تلك الصدمة، وإعادة الهيبة للدولة الصفوية، التي خاضت سلاسل متتابعة من الحروب على مدار عقود تالية ضد الخصم العثماني، تناوب فيها الجانبان على موقع المنتصر والمهزوم.

وفرضَ توازن القوى بينهما عقد جولاتٍ شاقة من المفاوضات انتهت بمعاهدتيْن لتقاسم دوائر المصالح والنفوذ في مناطق التماس، لا سيَّما العراق والقوقاز، وهما معاهدة «أماسيا» عام 1555 واتفاقية «زوهاب» عام 1639م، والأخيرة كانت أشد ثباتًا من «أماسيا»؛ إذ لم يعقبها حروبُ كبرى مُباشرة بين الدولتيْن، واكتفيا بالتنافس السياسي والحضاري، والصراعات عن بُعد، والمناوشات المتكررة هنا وهناك.

تاريخ

منذ 3 سنوات
الصراع العثماني الصفوي.. حرب السنة والشيعة الدموية التي استمرت 100 عام

وصلت الدولة الصفوية أبرز أطوار تمددها الجغرافي وعلوَّها السياسي والعسكري في عصر حاكمها الأبرز الشاه عباس الأول (من عام 1587 حتى 1629) إذ تحولت إلى إمبراطورية ضخمة، تسيطر كليًّا أو جزئيًّا على أراضي كل من: إيران وتركمانستان وأفغانستان وأوزبكستان وآذربيجان وأرمينيا والعراق وغيرها.

لكن منذ النصف الثاني من القرن السابع عشر الميلادي، أصيبت الدولة الصفوية بحالةٍ من التمزق السياسي، ليصبح زوالها من الخارطة مسألة وقت لا أكثر، ولذا فليس من العجب أن يؤدي الصراع الأفغاني-الصفوي في أواخر الربع الأول من القرن الثامن عشر الميلادي إلى انهيار ذلك البناء الشاهق الذي ضربته التشققات والتصدُّعات.

قندهار من الخضوع للصفويين إلى قلب الطاولة عليهم

موقع أفغانستان الوسيط بين حضاراتٍ وممالك ومجموعات قبائل آسيوية متنوعة أسفر عن اختلاط عرقي شديد التنوع بين سكانها، من العناصر القوقازية والتركية والمغولية والتترية، والتي وفدت على البلاد نتيجة موجات لا تكاد تنتهي من الحروب والهجرات.

ولكن على مدار القرون الماضية، كانت المجموعة العرقية الأبرز في أفغانستان هي البشتون الذين يتركزون في جنوبي أفغانستان، وتحديدًا في مدينة قندهار التي تعد عاصمةً للبشتون، وواحدة من أبرز المدن الأفغانية في الماضي والحاضر، ففي عام 1951، عثر علماء الآثار على أدلة تشير إلى وجود حضارة قديمة قرب قندهار، يعود تاريخها إلى ما يقارب 5 آلاف سنة.

الناس والأماكن داخل مدينة قندهار

خضعت أفغانستان أواخر القرن الرابع عشر الميلادي (الثامن الهجري) لحكم القائد المغولي الشهير تيمورلنك، والذي اتخذ من مدينة «هيرات» عاصمةً له في أفغانستان، واستمرَّ حكم التيموريين لأكثر من قرنٍ، حتى هزمتهم القبائل الأوزبكية ذات الأصول التركية، ودخلت «هيرات» عام 1507 بقيادة زعيمها محمد خان الشيباني.

وقد مدَّ الأوزبك سيطرتهم آنذاك على بخارى وسمرقند وغيرها من حواضر آسيا الوسطى، ومثلُّوا خصمًا بارزًا للدولة الصفوية الناشئة آنذاك؛ إذ كان الأوزبك على تواصل وتحالف مع الدولة العثمانية خصمها اللدود، لكن الشاه إسماعيل الصفوي نجح في هزيمة الأوزبك وقتل شيباني في معركة مرو عام 1510، لكن ما لبث الأوزبك أن جمَّعوا صفوفهم في السنوات التالية، ومثَّلوا تحديًا متجددًا للدولة الصفوية.

وهكذا في العقود التالية، كانت أرض أفغانستان ساحةً للتنافس على بسط النفوذ بين قوىً بارزة ثلاث، هي الدولة الصفوية، والقبائل الأوزبكية المعادية لها والمتحالفة مع العثمانيين، ودولة مغول الهند الناشئة التي أسَّسها أحفاد التيموريين، وتصارعت القوى الثلاث للاستيلاء على قندهار جنوبي أفغانستان، نظرًا إلى موقع المدينة الحيوي في منطقة التماس بين القوى المتنافسة.

ومع انشغال الصفويين بالصراع مع العثمانيين حول العراق في منتصف القرن السادس عشر الميلادي، تناوب المغول والأوزبك على الاستيلاء على قندهار، قبل أن ينجح الصفويون في استعادتها مرة أخرى عام 1555 بعد الصلح مع العثمانيين، وانشغال المغول بالصراعات داخل الهند.

شجرة عائلة أمراء أفغانستان (1709-1973)

أدت فترة الاضطراب السياسي في الدولة الصفوية بين عامي 1576 و1588، والتي سبقت حكم الشاه القوي عباس، إلى تصاعد نفوذ القبائل الأفغانية المحلية التي تمركزت في قندهار وجوارها، مثل قبائل «الغلزائيين»، والتي ستكون في العقود التالية منافسًا خطيرًا للنفوذيْن الصفوي والمغولي على أفغانستان على حدٍّ سواء.

آنذاك عادت قندهار إلى الواجهة مرة أخرى في الصراع الصفوي المغولي؛ إذ غزاها ملك المغول الشهير شاه جيهان (باني تاج محل الأثر الهندي) في عهد الشاه الصفوي حدث السن الشاه عباس الثاني الذي تولَّى الحكم عام 1642 وهو في العاشرة من عمره، وخضع في بداية حكمه لنفوذ الوزراء النافذين. 

في عام 1649 أرسل الشاه عباس الثاني حملة عسكرية لاستعادة قندهار في الشتاء، وهو الفصل الذي تُصعِّب فيه الثلوج إرسال المدد من الهند إليها، ونجح الصفويون في دخولها بعد أقل من شهرين من الحصار، وبعد استقرار الجيش الصفوي فيها، لم ينجح جيش مغولي كبير قوامه 60 ألف مقاتل قاده الأمير أورنك-زيب بن شاه جيهان في استعادتها، رغم حصارٍ دام أربعة أشهر، وبعد ثلاث سنوات قاد أورنك-زيب حملة لغزو المدينة مجددًا لكنه فشل بفعل تفوق المدفعية الصفوية على نظيرتها المغولية.

لكن لم يستسلم «شاه جيهان» وأرسل حملةً أكبر عددًا وعدة في العام التالي 1653 بزعامة ابن آخر هو داراشكو، لكنه لم ينجح أيضًا في انتزاع قندهار رغم سبعة أشهر من الحصار المُطبق. وفي عام 1666، اعتلى العرش الصفوي الشاه صفي ميرزا الثاني، والذي كان من أضعف الحكام الصفويين، بفعل انصرافه إلى اللهو والملذات وصراعات القصر، فقد تفاقم في عهده تدخل نساء البلاط في شؤون الحكم، ومثَّلت سنوات حكمه الثمانية والعشرين بداية نهاية العصر الصفوي.

وحين حانت لحظة وفاته عام 1694، لم ينفذ كبار الأمراء النافذين وصية الشاه صفي الثاني بتولية ابنه عباس القوي من بعده، ودفعوا بالصولجان إلى ابنه الضعيف الشاه «حسين»، والذي سيحكم مثل أبيه لما يقارب الثمانية والعشرين عامًا، ليكون آخر حكام الدولة الصفوية؛ إذ ستتعرض إيران في عهده لخطرٍ غير مسبوق تمثَّل في غزو قبائل قندهار القوية والتي كانت تتمتع بحكم شبه مستقل في المدينة منذ عقود تحت الحكم الاسمي للصفويين، مع دفع الضرائب السنوية إلى خزانة الدولة في أصفهان.

كسر حصار قندهار وفرض آخر على أصفهان 

..لتكن واثقًا من أن ساعة الانتقام قد أزفت، وأن الأفغانيين البواسل هم من اختارهم الله لمعاقبة الفرس المارقين! *الزعيم الأفغاني مير أويس في رسالة تهديد إلى الشاه الصفوي حسين

كانت الأسباب المذهبية حاضرة في الصراع الأفغاني الصفوي إلى جانب الأسباب السياسية والاقتصادية، فقد كانت القبائل الأفغانية سنية المذهب، ولا ترضى بحكم الشيعة الاثنى عشرية للدولة الصفوية التي قمعت طويلًا أصحاب المذاهب السنية. 

مع مطلع القرن الثامن عشر الميلادي، ظهر بين قبائل «الغيلزاي» الأفغانية زعيم كاريزمي اسمه مير أويس، وكان حاكمًا محليًّا على قندهار، تحت سلطان الوالي الصفوي كوركين خان على أفغانستان، والذي كان مسيحيًّا، وقد دفعت سياسته المتعسفة بحق سكان قندهار «مير أويس» إلى التمرد عام 1703؛ مما أدى إلى اعتقاله وإرساله إلى أصفهان، وهناك التقى بالشاه حسين، ونجح بدهاء في أن يحصل من الشاه على عفو، وأن يعود إلى قندهار مُكرَّمًا بعد أن استأذن في الحج إلى مكة، والتي حصل فيها سرًّا على فتاوى من علمائها السنة بجواز، بل بوجوب، الخروج على الدولة الصفوية.

بعد ذلك، استغل مير أويس الذي كان حاكمًا اسميًّا تحت سيادة الصفويين، علاقته الناشئة بالشاه حسين في إفساد علاقة الشاه بواليه كوركين خان، مستغلًّا علاقات هذا الأخير بالقيصر الروسي الطموح، بطرس الأكبر، الذي كان يضغط آنذاك من أجل امتيازاتٍ أكثر للروس في إيران، وتفاقم الصراع بين مير أويس وكوركين، لينجح الأول في قتل الحاكم المسيحي بالسم خلال وليمة أعدها له عام 1709، ويتولى حكم ولاية قندهار فعليًّا، ويقره عليها الشاه الضعيف.

بالتزامن مع ذلك، نجحت قبائل «الدوراني» الأفغانية بالتحالف مع الأوزبك أعداء الصفويين التاريخيين في هزيمة جيش الصفويين والاستقلال بمنطقة «هيرات»، لينتج من ذلك صدام عسكري بينهم وبين قبائل «غيلزاي» في قندهار، انتصر فيه القندهاريون انتصارًا ساحقًا باركه الشاه الصفوي حسين، لينتزع المنتصرون بحكم الواقع المزيد من النفوذ والاستقلالية؛ مما أثار حفيظة الشاه الذي طالبهم بالعودة إلى الحظيرة الصفوية فكان ردهم هو الرفض المعلن.

جهز الشاه حملة عسكرية ضخمة قوامها 25 ألف جندي بقيادة والي جورجيا، خسرو خان، وابن أخي كوركين الذي تخلص منه مير أويس وحاصرت الحملة قندهار عام 1712، لكن الأفغان استبسلوا في الدفاع عنها، وسحقوا الحملة وقتلوا قائدها. ثم هزم مير أويس جيشًا صفويًّا آخر بقيادة الأمير محمد رستم، ورسَّخ حكمه لقندهار وجوارها حتى وفاته عام 1715. 

واضطربت الأحوال في قندهار خلال العاميْن التالييْن لوفاة أويس، نتيجة الصراع على السلطة بين أخيه عبد الله، والذي كان يميل للتفاهم مع الصفويين، ومير محمود بن أويس الذي كان معاديًا لهم مثل أبيه، وحسم محمود الصراع بقتل عمه، فأرسل الشاه عام 1717م حملة كبيرة ضد قندهار، لكنه ما لبث أن غير وجهتها إلى البحرين التي استولى عليها العثمانيون للتو، لكنها فشلت في استعادتها لرفض البرتغاليين دعم الصفويين بأسطولهم. 

أدت جولات الفشل المتتابع للدولة الصفوية إلى اضطراب الأحوال في المقاطعات الإيرانية، فاستغل القندهاريون الفرصة واستولوْا على إقليم «سيستان» عام 1719م ثم منطقة كرمان شرقيْ إيران عام 1720م، وأصبحت جيوش «مير محمود» قاب قوسيْن أو أدنى من العاصمة الصفوية أصفهان.

استعد مير محمود لمعركة أصفهان جيدًا، فاستولى على المدن المهمة القريبة منها، ثم فرض عليها حصارًا شديدًا لعدة أشهر عام 1722م، حتى فرغت المدينة من المؤن والذخائر، واضطر الشاه حسين للتفاوض على الاستسلام، فاشترط عليه مير محمود التنازل عن العرش، والزواج من ابنته، ودخل الأفغان العاصمة الصفوية، وحاضرة إيران البديعة أصفهان. 

سقوط أصفهان.. وصعود نادر شاه

يُعد سقوط أصفهان في قبضة القندهاريين عام 1722، هو التاريخ الفعلي لسقوط الدولة الصفوية بعد 221 عامًا من تأسيسها، لكن تأخر السقوط النهائي لها إلى عام 1736. فما الذي حدث في تلك الأعوام الأربعة عشرة التي أعقبت السقوط المدوي لأصفهان على يد الأفغان؟

كان الأمير طهماسب ولي عهد الشاه حسين، قد فرَّ قبل إحكام الأفغان الطوق حول أصفهان، وأعلن نفسه الشاه طهماسب الثاني في منطقة قزوين البعيدة عن أصفهان، بعد تنازل أبيه للأفغان، إلا أن مير محمود طارد طهماسب ففر من قزوين إلى «تبريز» العاصمة الصفوية القديمة، وأخذ يتهيَّأ لمحاربة القندهاريين.

ورغم محاولات مير محمود للقيام بسياساتٍ إصلاحية يكسب بها ودَّ الإيرانيين من العامة والخاصة، فإن الثورات والتمردات المحلية عصفت بالدولة الصفوية المتداعية، وعجز الأفغان عن السيطرة على الأمور، وكذلك فشل الشاه طهماسب في استعادة زمام المبادرة، وتوحيد الأراضي الإيرانية المضطربة، لا سيَّما مع انتهاز القوتيْن العظمييْن روسيا والعثمانيين، فرصة سقوط الحكم المركزي في إيران بعد سقوط أصفهان، والبدء في اقتطاع الأقاليم الإيرانية الشمالية والغربية.

ففي عام 1724، عقد العثمانيون والروس اتفاقية القسطنطينية برعاية فرنسية لتجنب الصدام بينهما في إيران، وتثبيت ما حصل عليه كل طرف من الكعكة الصفوية، في ظل عجز الأفغان عن السيطرة على أصفهان؛ إذ عصفت الاضطرابات بحكم مير محمود، وفشلت الإجراءات التي لجأ إليها في السيطرة على الأوضاع، فانتهت الأحوال بانقلاب ابن عمه مير أشرف عليه عام 1725 بعد أن اتهمه بالجنون ثم أمر بقتله لاحقًا.

فشل مير أشرف في إقناع العثمانيين بالانسحاب من إيران وتسليم ما بحوزتهم له، ووقعت الحرب بين الطرفين عندما حاول والي بغداد العثماني الاستيلاء على أصفهان، فهزمه جيش مير أشرف عام 1726، لكن الهزيمة لم تمنع من تقدم المفاوضات بين الأفغان والعثمانيين للوصول إلى تسوية ملائمة للطرفين.

توصل الطرفان عام 1727 إلى اتفاقية «همذان» التي أقر فيها مير أشرف بالسيادة العثمانية مقابل تثبيته حاكمًا لإيران في إصفهان، على أن تظل الأقاليم الغربية من إيران تحت السيطرة العثمانية المباشرة، وكان الروس قد انكفأوا قليلًا بعد وفاة بطرس الأكبر عام 1725، فأتاح هذا للأفعان وللعثمانيين مناخًا أفضل للاتفاق.

Embed from Getty Images

خنجر مصنوع بأوامر من السلطان محمود الأول مُهدى للحاكم الإيراني نادر شاه 

في تلك الأثناء ظهر على مسرح الأحداث شخصية محورية ستلعب أدوارًا كبرى في العقديْن التالييْن، وهو القائد العسكري نادر شاه الأفشاري، والذي وُلد عام 1688، منتسبًا لقبائل الأفشار التركمانية الرعوية المقاتلة، والتي كان الصفويون قد أوكلوا إليها حماية بعض مناطق خراسان الشمالية لا سيَّما مدينة مشهد.

بوصفه زعيمًا محليًّا طموحًا وذا قدراتٍ سياسية وعسكرية ميدانية، استغل نادر شاه الفوضى الضاربة في أركان الدولة الصفوية، واستقل بحكم العديد من المناطق الشمالية والغربية مثل «مشهد» و«هيرات»، ولكي يُحصِّن انتصاراته المحلية بنوعٍ من الشرعية السياسية، حصل على مباركة الشاه طهماسب الثاني المتحصِّن آنذاك في مدينة «مازندران».

نجح نادر شاه عام 1729 في إيقاع الهزيمة بالأفغان قرب هيرات، ثم ألحقها بانتصارٍ آخر على مير أشرف  الذي انكفأ بعد انكساره إلى قندهار، فانتزع القائد المنتصر أصفهان من يد الأفغان، وقرر إعادة طهماسب الثاني إليها، لكن بغير سلطةٍ حقيقية؛ إذ احتكر نادر شاه الصلاحيات السياسية والعسكرية والاقتصادية الفعلية، وطبَّقت شهرة نادر شاه الآفاق، حتى وصلت إلى ألمانيا وفرنسا التي وصفته بعض صحفهما آنذاك بالمُنقذ المُلهَم، الذي يحاول انتشال إمبراطورية متداعية من السقوط.

ثمَّ اصطدم نادر شاه بالعثمانيين، واستعاد معظم المناطق الإيرانية منهم، لكنهم عادوا بهجوم مضاد ناجح عام 1731 استغلوا خلاله انشغال نادر شاه بالاضطرابات في المناطق الشرقية في «هيرات» وجوارها، وحققوا انتصارات مهمة، أجبروا على إثرها الشاه طهماسب الثاني على توقيع اتفاقية تضمَّنت تنازلات كبيرة، فاستغلَّها نادر شاه في تبرير عزل طهماسب عام 1732 وسجنه.

نصَّب نادر شاه الطفل الرضيع عباس الثالث حاكمًا صفويًّا بعد أبيه المسجون، وأصبح هو الوصي على عرشه، وخلال الأعوام الثلاثة التالية، نجح عبر حملات عسكرية وسياسية تجمع بين القوة والدهاء في استعادة كافة الأقاليم الإيرانية التي استولى عليها العثمانيون والروس في العقد السابق، وكذلك مناطق النفوذ الصفوي السابق في آذربيجان وجورجيا وسواها من المناطق القوقازية، وكاد أن ينتزع بغداد من العثمانيين، وأن يتوغل في شرقي الأناضول، لولا أن تصدت له جيوش عثمانية كثيفة، فانتهى الصدام مع العثمانيين بصلح ثبَّت مكاسب نادر شاه.

عام 1736، وفي منطقة موقان الإيرانية، عقد نادر شاه اجتماعًا موسعًا حضره أبرز وجوه النخب السياسية والعسكرية والدينية الإيرانية، وبعض السفراء الأجانب مثل المبعوث العثماني، ليبحث مستقبل الدولة، ونجح بدهاءٍ كبير في أن ينتزع من الحاضرين موافقة على عزل الشاه الصغير عباس الثالث (والذي سيُقتل بعد ذلك عام 1740 هو وأبوه طهماسب) وتنصيب نفسه مكانه، لينتهي اسميًّا وفعليًّا حكم الدولة الصفوية ويبدأ عصر جديد في إيران، هو عصر الدولة «الأفشارية»، وسيكون لنادر شاه صولات وجولات سياسية وعسكرية لاحقة.

المصادر

عرض التعليقات
تحميل المزيد