لا خلاف على أن القراءة هي أساس التعلم، أداتها الوعي الصوتي بين الحرف وصوته، وجوهرها هو التكامل بين المهارات اللغوية المختلفة وبين المهارات البصرية، وبامتلاك هذه المهارات يمتلك الطفل شفرة الدخول إلى عالم القراءة والمعرفة. لكن ماذا إذا كان الطفل يمتلك مهارات لغوية متطورة ويتمتع بقدرة بصرية حادة لكنه لا يرى الكلمات، وتبدو الحروف أمامه وكأنها تتحرك، ولا يستطيع تقدير المسافات والأبعاد والأحجام، كما أن الإضاءة تُشكل مصدر إزعاج له؟
متلازمة إرلن السبب!
عام 1980 لاحظ أوليف ميريس، مدرس نيوزيلندي وأخصائي قراءة، اختلافًا في مهارات القراءة عند بعض الأطفال الذين عانوا من صعوبات تعلم في القراءة، فهم قادرون على القراءة بشكل أفضل عند قراءة مواد مطبوعة على ورق ملون، في حين تتداخل الحروف وتصبح الرؤية مشوشة عند قراءة مواد مطبوعة على ورق أبيض اللون، فسر ميريس هذه الظاهرة بأن التناقض بين لون الورق الأبيض ولون حبر الطباعة الأسود يُصيب الطفل بحالة من التشوش والاضطراب البصري تجعله غير قادر على القراءة.
إلا أنه في عام 1983 وفي أحد فصول القراءة العلاجية التي تشرف عليها عالمة النفس تربوي الأمريكية، هيلين إرلن، حدثت صدفة أزالت الكثير من الغموض حول هذه الظاهرة، عندما مرر أحد الطلاب شريحة ملونة وشفافة على أحد النصوص المطبوعة فاستطاع الرؤية بشكل أفضل والقراءة دون تعسر.
أثارت هذه الحادثة فضول إرلن للبحث عن السبب فجربت عدة شرائح بألوان مختلفة لمعرفة السبب وراء تحسن الرؤية، وبعد عدة محاولات اكتشفت الأمر الذي تغير معه مستقبل الكثير من الأطفال الذين يعانون اضطراب الرؤية، فقد وجدت إرلن أن استخدام الشرائح الملونة يؤثر في الطريقة التي يُعالج بها المخ الضوء، ويحد من اضطراب الرؤية الذي يؤثر في قدرة الطفل على القراءة والذي أُطلق عليه فيما بعد اسم «متلازمة إرلن».
اضطراب في الإدراك البصري: هكذا تحدث «متلازمة إرلن»
متلازمة إرلن أو متلازمة الحساسية الأسكتلندية والإجهاد البصري بحسب تعريف الباحثة عنود راشد العنزي، في دراسة تجريبية أجرتها على عينة من طلاب المرحلة الابتدائية بدولة الكويت، هي قصور في الإدراك البصري يؤثر في مهارات القراءة والكتابة، بسبب اختلاف طريقة معالجة المخ للمعلومات البصرية على الرغم من عدم وجود مشكلات حسية في الرؤية.
وتُشير العنزي إلى أن أعراض هذه المتلازمة عادة ما تظهر عند وجود إضاءة معينة، وتتأثر الرؤية باختلاف الموجة الضوئية واللونين الأبيض والأسود، الأمر الذي يفسر لماذا تضطرب الرؤية عندما يقرأ الطفل موادًّا مطبوعة باللون الأسود على ورق أبيض اللون.
ما هو الإدراك البصري إذن؟
يُشير اضطراب الإدراك البصري بحسب موقع «مايند ويل» المعني بالصحة النفسية للأطفال، إلى عدم القدرة على ترجمة وفهم المثيرات البصرية التي يستقبلها المخ، ومن ثم عدم القدرة على إصدار الاستجابة المناسبة لها وفقًا لمعناها.
اضطراب في الإدراك البصري
ويوضح الدكتور السيد عبد الحميد سليمان في كتابه «صعوبات التعلم والإدراك البصري»، أن اضطراب الإدراك البصري لا يُشير إلى مشكلات في حدة الإبصار، وإنما يُشير إلى مشكلات في التعامل مع المثيرات البصرية المختلفة عند التعلم والقراءة، فلا يستطيع الطفل إدراك حجم أو شكل المثيرات التي يتعلمها داخل الصف الدراسي، ولا طبيعة المسافات بينها، مما يؤدى إلى مشكلات في فهم أشكال الحروف والأرقام والكلمات ويؤثر في قدرته على تعلم القراءة والكتابة.
متلازمة إرلن والقراءة
توضح عنود العنزي في دراستها كيف تؤثر متلازمة إرلن في قدرة الطفل على القراءة، مشيرة إلى أن عملية القراءة تجري وفقًا لتكنيك معين، تقوم العين خلاله بحركات متتابعة مفصولة بوقفات، لتثبيت شكل الحروف وإدراكها؛ وكل وقفة تثبيت تستمر 25 جزءًا من الثانية، يجري خلال هذه الفترة تجميع ستة أحرف وتشكيل صورة لها داخل الدماغ ويحدث الإدراك، ثم تقوم العين بحركة تتابعية لبقية الحروف، ثم تتلاشى فترة التثبيت لتبدأ الدماغ من جديد في تشكيل مجموعة أخرى من الحروف وإدراكها.
تحدث هذه العملية عن طريق مجموعة من الخلايا العصبية، وتتسبب متلازمة إرلن في خلل في هذه الخلايا؛ ما يؤدي بالضرورة إلى اضطراب في الإدراك البصري وتداخل في الكلمات، ومن ثم صعوبة في القراءة والكتابة.
طفل يعاني من متلازمة إرلن مصاحبة لعسر القراءة
متلازمة إرلن vs عُسر القراءة
تختلف متلازمة إرلن عن عُسر القراءة «الديسلكسيا»، يقول دكتور أحمد عبد الكريم حمزة في كتابه «سيكولوجية عُسر القراءة» إن الديسلكسيا هي أحد الاضطرابات النمائية التي تؤثر في العمليات العقلية المعرفية المختلفة من انتباه وإدراك وتذكر، وتنعكس بشكل كبير على مهارات الطفل اللغوية من اكتساب اللغة، وتعلم الكتابة والقراءة، والتهجي، والتواصل بشكل عام نتيجة لاضطراب في الجهاز العصبي المركزي.
وبالرغم من ذلك، من الممكن أن يعاني الطفل من متلازمة إرلن بالإضافة إلى اضطراب عُسر القراءة، وتقدر نسبة الأطفال المصابين بمتلازمة إرلن المصاحبة لاضطراب عُسر القراءة بنحو 30% وفقًا لدراسة وصفية للدكتورة نيفين نشأت، أستاذ مساعد أمراض التخاطب والسمعيات وصعوبات التعلم بجامعة عين شمس.
لكن.. كيف يبدو الطفل المصاب بمتلازمة إرلن؟
تقول الباحثة رشا أنور مؤسسة مركز إرلن مصر، في بحث بعنوان «التأثير الإيجابي لاكتشاف وعلاج متلازمة إرلن على تعلم اللغة العربية»، أن أعراض متلازمة إرلن تظهر على شكل متوالية تتأثر وفقًا لدرجة الحدة والوقت المستغرق في القراءة حتى تبدأ الأعراض في الظهور تدريجيًّا؛ وقد قسمت هيلين إرلن أعراض متلازمة إرلن إلى خمس مجموعات أساسية هي:
1- الحساسية الضوئية: تظهر أعراض الحساسية الضوئية على شكل رغبة في الغثيان ودوخة، وعدم القدرة على تحمل مصدر الضوء، خاصة الإضاءة الفلورسنت.
2- عدم توافق الخلفية: يجد الطفل صعوبة في القراءة عند الطباعة باللون الأبيض والأسود نتيجة عدم قدرة العين على التعامل مع التباين الشديد بين اللون الأبيض واللون الأسود عند القراءة، فيجذب اللون الأبيض انتباه الطفل للحد الذي يجعل الحروف المكتوبة باللون الأسود مشوشة وغير مقروءة، ويظهر اللون الأبيض على شكل إشعاعات تجعله يبرز فتصبح الحروف وكأنها تتحرك وترقص.
3- مشكلات سوء الطباعة: تتمثل في حجم الحرف المطبوع وشكله، والمسافات بين الكلمات وبعضها، وعدد الكلمات المطبوعة في الصفحة، فكلما ازدادت عدد الكلمات المطبوعة وتنوعت أحجام الحروف وأشكالها في الصفحة ظهرت مشكلات القراءة.
4- القراءة عبر نفق: يصعب على الطفل قراءة الأرقام أو الحروف أو الكلمات في الوقت نفسه، كأنه يرى الكلمات من خلال نفق ضيق يحجب عنه باقي الكلمات والحروف، وتعرف هذه الظاهرة باسم «نفق القراءة (reading-Tunnel)»، الأمر الذي يحد من قدرة الطفل على الانتقال من سطر إلى آخر؛ لذلك من الأفضل تقسيم الكلام على شكل أعمدة تشبه أعمدة الجرائد حتى تَسهل عملية القراءة.
5- نقص التركيز المتواصل: عدم القدرة على مواصلة التركيز أثناء القيام بالقراءة أو الكتابة لفترات طويلة.
هل للوراثة دور في متلازمة إرلن؟
تحدث متلازمة إرلن بسبب خلل في الجينات ينتج منه خلل في أحد المسارات البصرية التي تنقل الرسائل من العين إلى الدماغ ما يؤدي إلى اضطراب الإدراك البصري، ووفقًا لموقع مؤسسة إرلن أظهرت نتائج إحدى الدراسات التي أجريت على 751 طفلًا مصابًا بمتلازمة إرلن أن 84% من الأطفال المصابين بها ورثوا هذا الاضطراب من أحد الوالدين على الأقل.
وكيف يجري التعامل مع المصابين بهذه المتلازمة؟
وفقًا للباحثة عنود العنزي فلا يمكن التعرف إلى وجود متلازمة إرلن من خلال الاختبارات التحصيلية، والاختبارات الطبية؛ ولكن من خلال مجموعة من المهام الاختبارية التي تعتمد على تحديد أعراض المتلازمة نفسها أثناء قراءة الطفل.
ويستخدم لعلاج متلازمة إرلن بحسب دراسة نشرت ضمن مشروع أبحاث فحص متلازمة إرلن التابع لوزارة الصحة بنيوزيلندا، مرشحات ملونة تسمي «مرشحات إرلن»، تمنع الموجات الضوئية التي تتسبب في حدوث اضطراب الإدراك البصري فيحدث نوع من المعالجة البصرية للمعلومات، ويسهل على الطفل تفسير المعلومات البصرية التي يتلقاها بشكل دقيق.
نظارات إرلن – مصدر الصورة معهد إرلن
5 نصائح للتعامل مع الطفل المصاب بمتلازمة إرلن
- وعي الطفل بحالته والمشكلة التي يعاني منها أمر ضروري لتسهيل عملية العلاج والتغلب عليها.
- ضرورة طباعة المحتوى المراد تعليمه للطفل على ورق ملون حتى نقلل من الإجهاد البصري الذي يتعرض له الطفل.
- القراءة على فترات ثم التوقف وأخذ استراحة بين كل فترة حتى نحدَّ من ظهور أعراض المتلازمة.
- إيجاد بدائل تساعد الطفل على التعلم عند ظهور أعراض المتلازمة، مثل القراءة له بصوت عالٍ أو تسجيل المواد المراد تعلمها والاستماع إليها عند الحاجة.
- وأخيرًا، لا بد من مساعدة الطفل على فهم حالته وتقبلها، وأنه طفل سليم لديه اختلاف في الرؤية عن الآخرين، وعليه أن يطلب المساعدة دون خجل إذا شعر بأن هناك شيئًا يؤثر في قدرته على الرؤية والإدراك.