الديمقراطية تموت في الظلام. *شعار واشنطن بوست
حين تغيّب الصحافي السعودي جمال خاشقجي لأكثر من ثلاث ساعات داخل القنصلية السعودية، هرعت خطيبته للاتصال بالشرطة، لكنّ أحدًا في هذا التوقيت لم يمكن بمقدوره مساعدتها؛ فمسرح الجريمة الدافئة المُشتبه به، أرضٌ دبلوماسية لا يُمكن اقتحامها إلا بإذن السعوديين الذين نفوا علمهم بوجود خاشقجي، كما أنّ الرئيس التركي لا يُمكنه أن يوّزع الاتهامات علانية ضد حليفة الولايات المتحدة التي تعهّد لها دونالد ترامب بالحماية، في الوقت نفسه الذي فرض فيه عقوبات اقتصادية قاسية على تركيا، وهو ما بدا سببًا كافيًا للبعض للاعتقاد بأن المحققين الأتراك لن ينشروا نتائج تحقيقاتهم إلا بعد تدخّل الولايات المتحدة في القضية، وبتلك الفرضية كاد خطيب السيدة خديجة جنكيز أن يُنسى بسبب الحسابات السياسية.
على جانبٍ آخر من القصة؛ فالمبنى القابع بمدينة إسطنبول والذي تطوّقه الحواجز الحديدية وتعلو أسواره الأسلاك الشائكة كان دومًا مُحاطًا بأنظار جهاز الاستخبارات التركي، ضمن سفارات دولٍ أخرى تعتبرهم تركيا رسميًا متورطين بتمويل محاولة الانقلاب الفاشلة في يوليو (تموز) عام 2016.
كان الأمر يهم الأمريكيين أيضًا، فالصحافي الُمختفي هو أحد كُتّاب صحيفة «واشنطن بوست» التي قادت حملة صحافية كسرت كل الترتيبات المُسبقة بين أطراف الأزمة، وأجبرت البيت الأبيض على التدخل وانتهت بوضع السعودية في قفص الاتهام، وأجبرتها على الاعتراف بمقتله داخل القنصلية.
أسوأ أيام الأمير.. «واشنطن بوست» حشدت الجميع
في نوفمبر (تشرين الثاني) من العام الماضي، كان الأمير محمد بن سلمان الذي فشل في إنهاء حرب اليمن الممتدة منذ ثلاثة أعوام على موعدٍ هام مع الصحافي الأمريكي توماس فريدمان الذي أجرى حوارًا مع ولي العهد حول التغيرات الأخيرة التي شهدتها المملكة، وكتب فريدمان مقالًا في صحيفة «نيويورك تايمز» أشاد فيه بالأمير الشاب الذي اعتبره العقل المُدبر لكل الإصلاحات الاجتماعية والدينية.
وبعد عدة أشهرٍ من اللقاء، حظي ابن سُلمان بفرصة أخرى نادرة بلقاء الكاتب الأمريكي، ديفيد إغناتيوس، الصحافي بصحيفة «واشنطن بوست»، الذي قال إن الجيل الجديد بات متفائلًا بمستقبل المملكة في ظل أميرها الشاب، وتزامن هذا الحوار مع لقاء الأمير السعودي بمالك الصحيفة الجديد، جيف بيزوس، الرئيس التنفيذي لشركة «أمازون» العملاقة، وربما اعتقد ابن سلمان خطأ أن الصفقات التجارية مع مالك «واشنطن بوست» كفيلة بمنع الانتقادات التي تُطلقها الصحيفة ويتبرم منها النظام السعودي عبر أذرعه الإعلامية.

عمود خاشقجي فارغًا على صفحات الجريدة بعد اختفائه
عقب اختفاء خاشقجي منذ دخوله قنصلية بلاده في 2 أكتوبر (تشرين الأول) الجاري، تضامنت صحيفة «واشنطن بوست» مع كاتبها السعودي المُعارض عبر نشر مساحة فارغة للعمود الذي كان يكتب فيه، وعنونت المساحة الفارغة بـ«صوت مفقود». وباعتباره كاتبًا في قسم الآراء العالمية في الصحيفة، فقد عمد الصحافيون العاملون بها إلى الاستعلام عن مكان وجوده عبر سؤال المسؤولين السعوديين والأتراك، وبالرغم أنّ وكالة «رويترز» انفردت بنشر خبر مقتل خاشقجي نقلًا عن مصدر في الشرطة التركية، إلا أنّ الحملة الصحافية التي جمّعت كل خيوط الجريمة انطلقت فعليًا من داخل مبنى «واشنطن بوست».
اتهمت الصحيفة المملكة السعودية بتدبير حادث اغتيال خاشقجي، كما اعتبرت أن الجولة التي قام بها صحافيو وكالة «رويترز» داخل القنصلية السعودية لم تكن دليلًا كافيًا لدحض رواية الشرطة التركية التي أكدت تقطيع الجثة قبل إخراجها من المبنى، وهاجمت أيضًا صمت الإدارة الأمريكية، واعتبرت أنّ قضية اختفاء الصحافي السعودي أظهرت زيف أخلاق السياسة الأمريكية، وحثت في المقابل أعضاء الكونجرس بالضغط على الرئيس الأمريكي لمطالبة السعودية بتقديم أجوبة كاملة حول اختفاء خاشقجي، وفرض عقوبات عليها في حال ثبت تورطها، وإعادة تقييم العلاقات من جديد بين البلدين.
وفي الوقت الذي أعلنت فيه «واشنطن بوست» أنها حصلت على أدلة تفيد بقتل السعودية لخاشقجي، نشر الكاتب ديفيد إغناتيوس الذي سبق وأجرى حوارًا مع الأمير السعودي، مقالًا هاجم فيه ولي العهد الذي وصفه بـ«الزعيم السعودي المتعجرف»، واعتبر أنّ زميله خاشقجي دفع ثمن معارضته وقوله الحقيقة.
ويمكن القول بأن هجوم الصحيفة لم يقتصر فقط على النظام السعودي والإدارة الأمريكية عبر تسريبات الاستخبارات الأمريكية والشرطة التركية؛ فالصحافيون داخل المؤسسة شنّوا حملة ضد زملائهم في المهنة الذين كانت تغطياتهم الإخبارية دون المستوى المطلوب، وهاجموا المؤسسات الإعلامية الأمريكية مثل: وكالة «بلومبرج» وصحيفة «نيويورك تايمز» وشبكة «سي إن إن»، لتي لم تنسحب من مبادرة الاستثمار التي تنظمها المملكة في ظل اتهامها بقتل أحد الصحافيين.
هجوم الصحيفة على منافسيها واتهامها لهم ضمنيًا بارتكاب جريمة أخلاقية تتنافى مع المعايير المهنية، جعل الصحف الأمريكية الكبرى تقوم بمراجعة أوضاعها في ظل الموقف الجديد؛ فالصحافي الأمريكي توماس فريدمان، الذي ساهم في الترويج لإصلاحات ابن سلمان في مقالاته، عاد واتّهم ولي العهد السعودي بالتسبب في اختطاف جمال خاشقجي؛ كما أعلنت صحيفة «نيويورك تايمز» -المنافس الأبرز لـ «واشنطن بوست»- انسحابها من رعاية المشروع السعودي الذي يرأسه الأمير السعودي تزامنًا مع فرد مساحات واسعة للتغطية الإخبارية، وبسبب تلك الأجندة الإعلامية الجديدة تحوّلت قضية اختفاء الصحافي السعودي إلى حدث عالمي بارز بات يُحاصر السعودية.
كيف حاربت «واشنطن بوست» صمت الرئيس الأمريكي؟
لم تكتفِ صحيفة «واشنطن بوست» بفرد مساحات واسعة للقضية على نسختها الورقية، بل يمكن القول بأن حملتها الصُحافية تجاوزت التركيز على الخبر إلى مرحلة صناعة الحدث وفتح أبواب جديدة للقضية عن طريق توسيع دائرة الاتهام؛ فالمقال الافتتاحي للصحيفة ظل أيامًا يُهاجم الرئيس الأمريكي، وزوج ابنته جاريد كوشنر باعتبار أنّ علاقتهما مع السعودية كانت سببًا كافيًا لانتهاك حقوق الإنسان والتعدي على الصُحافيين، ممثلة في ولي العهد الذي قاده جموحه وتهوره إلى حد إخفاء أو قتل أحد أبرز الصحافيين السعوديين داخل مبنى القنصلية السعودية في تركيا، بحسب الصحيفة.
والقنبلة التي فجّرتها الصحيفة وورطت بها البيت الأبيض تمثلت في نشرها خبرًا مفاده أن مسؤولي الاستخبارات الأمريكية اعترضوا اتصالات من مسؤولين سعوديين يناقشون خطة للقبض على جمال خاشقجي، إضافة إلى أنها أكدت أن ولي العهد السعودي أمر باستدراج الكاتب جمال خاشقجي إلى السعودية لاعتقاله، وطرحت الصحيفة في نهاية الخبر الذي تناقلته كل الصحف العالمية سؤالًا عما إذا كانت إدارة الرئيس الأمريكي دونالد ترامب ملزمة بتحذير خاشقجي من هذه المخططات، وأنه كان لديها علمٌ مسبق فلماذا لم تحذره؟
كان الخبر المُسرب كفيلًا بأن تسارع الخارجية الأمريكية بنفي أنها لم تكن على علم مسبق بوجود تهديدات ضد خاشقجي مؤكدة أنها لما تعلم مكان اختفائه، وهو المعنى نفسه الذي خرج به الرئيس الأمريكي مضطرًا إلى الصحافيين لتأكيده، وهو ما بدا انقسامًا داخليًا واختلاف وجهات نظر بين البيت الأبيض الذي يُفضل الصمت وبين الاستخبارات الأمريكية التي تعمّدت تسريب المعلومة.
لينتقل هذا الانقسام إلى الكونجرس الأمريكي الذي طالب على لسان رئيس لجنة العلاقات الخارجية بأنه: «يجب فرض عقوبات كبيرة على أعلى المستويات على الحكومة السعودية إذا كان خاشقجي ضحية قتل برعاية الدولة»، لافتًا بأنه لا ينبغي أن تكون علاقة جاريد كوشنر المستشار في البيت مع الحكومة السعودية، عقبة أمام العواقب المحتملة. وجدير بالذكر أنّ خاشقجي كانت له علاقات واسعة مع سياسيين وإعلاميين أمريكيين نظرًا لعمله السابق مستشارًا إعلاميًا للسفير السعودي في لندن ثم في واشنطن للأمير تركي الفيصل.
تصاعد الأحداث داخل المجتمع الأمريكي دفع الرئيس الأمريكي للتفاعل مع الحادث بما يتناسب مع الحالة المزاجية التي تسببت فيها الحملات الصحافية، ففي مقابلة مع شبكة «سي بي إس» توّعد ترامب بعقاب شديد في حال أثبتت التحقيقات مقتل جمال خاشقجي داخل القنصلية السعودية في إسطنبول بتركيا، وألمح أيضًا بأنّ الاستخبارات الأمريكية على تواصل مع المحققين الأتراك للاطلاع على كافة تفاصيل القضية، وهو ما بدا انتصارًا كبيرًا للصحيفة التي نجحت في توريط الرئيس الأمريكي تزامنًا مع حملتها التي كانت تسير في اتجاه آخر لكشف كافة التسريبات التي أكدت فرضية القتل.
صوت «واشنطن بوست» الذي طارد قتلة خاشقجي
في الوقت الذي تحاشت فيه تركيا نشر مزيد من التفاصيل عبر القنوات الرسمية، واصلت «واشنطن بوست» تغطياتها المُكثفة لمتابعة القضية، سألت فيه الصحيفة القنصل السعودي عن الكاميرات في القنصلية، ولم يتردد في التصريح بأنها لم تكن تسجل وقت دخول خاشقجي؛ نشرت الصحفية بعدها لقطات من إحدى الكاميرات الجانبية لمبنى القنصلية أظهرت فقط دخول خاشقجي مبنى القنصلية، وهو ما جعل الرئيس التركي رجب طيب أردوغان يطلب من السعودية تقديم دليل يثبت مغادرة الصحافي المختفي لقنصليتها.
لم تكتفِ الصحفية بالانفراد بنشر الصورة الأخيرة لخاشقجي، تزامنًا مع تسريب الاستخبارات الأمريكية، بل إنها قدّمت اتهامًا جديدًا – نقلًا عن مسؤولين أمريكيين – بأن خاشقجي ربما تم تشويهه ووضع جثته في صناديق ونقلها إلى خارج البلاد، لتتفق هذه التسريبات مع ما نشره موقع موقع «ميدل إيست آي» بأن الوفد السعودي أحضر آلة للتقطيع على متن الطائرة الخاصة التي أحضرته.
وكشفت أيضًا أن السُلطات التركية تمتلك تسجيلًا صوتيًا رصد لحظات القتل، كما أنها أظهرت خيطًا جديدًا، إذ قالت إن جمال خاشقجي أخبر أصدقاءه في الأشهر التي سبقت اختفاءه بأنّه تلقى مكالمات من سعود قحطاني مستشار ابن سلمان الذي حاول إقناع خاشقجي بالعودة إلى السعودية لكنّ الأخير رفض طلبه، مما استدعى -بحسب الصحيفة- الأمر الملكي بتصفيته في تركيا.
وتأكيدًا على البُعد الإنساني في القصة الصحافية، اهتمت الصحيفة بنشر مقال للسيدة خديجة جنكيز التي روت التفاصيل الأولى لما حدث عقب اختفاء خطيبها: «سألتُ عن جمال داخل القنصلية، لكنني تلقيتُ إجابة زادت من مخاوفي؛ لقد أخبروني بأنه غادر بالفعل»، وبالرغم من اختفائه الذي طال إلا أنها أفصحت أنّ الأمل ما زال يساورها بأنّ خطيبها لم يُقتل، لكنها ما زالت تلتمس الدليل الذي لم يكن موجودًا.
لكن مقالها الثاني المنشور على نفس الصحيفة طلبت فيه من الرئيس الأمريكي دونالد ترامب المساعدة في حل القضية، ليأتي الرد سريعًا من دونالد ترامب الذي أعلن بأنه يُرتب لاستضافتها في البيت الأبيض لكي لا يظهر بأنه ليس متضامنًا مع الصحافي السعودي الذي هز العالم باختفائه.
وبعدما أعلنت الخارجية التركية استدعاء السفير السعودي لإخباره بضرورة التعاون بين البلدين في التحقيقات في قضية اختفاء خاشقجي، جاء الرد السعودي الرسمي على لسان ولي العهد السعودي الذي قال إنه سيرحب بدخول المحققيين الأتراك القنصلية في حال طلبوا ذلك، لكنّ الصحيفة كشفت بعدها أنّ السعودية لا ترغب في دخول فريق التحقيق التركي وأنها تماطل في سبيل منع الأمر، وبينما كان الرئيس الأمريكي يروّج للرواية الرسمية السعودية بأنّ القصر الملكي لم يكن على علم بما حدث لخاشقجي، جاء الرد بعدها بساعاتٍ على صفحات «واشنطن بوست» التي نشرت تسريبات جديدة تضمنت أن الاستخبارات الأمريكية تعتقد أن ولي العهد السعودي كان على علم بحادثة الاغتيال، وهو صدام جديدة ورطت فيه الصحيفة الرئيس الأمريكي مع جهاز استخباراته، مما اضطرته للتراجع بإعلانه بأنه لا يسعى لإخفاء الحقائق، وأنه سيشارك أعضاء الكونجرس القضاء في تحديد القرار العقابي إذا ما ثبت ضلوع السعودية في العملية.