يعتزم الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون تنفيذ زيارة للجزائر في نهاية شهر مايو (أيار) 2022، وذلك بدعوة من الرئيس الجزائري عبد المجيد تبون، إثر فوز ماكرون بالانتخابات الرئاسية الفرنسية الأخيرة في 24 أبريل (نيسان) 2022 في مواجهته منافسته مارين لوبان مُرشَّحة اليمين المتطرف، إذ بعث تبون برسالة تهنئة لنظيره الفرنسي في اليوم التالي لنجاحه، وجاء فيها: «أقرن هذه التهاني والتمنيات بالتعبير عن سروري باستقبالكم عن قريب في الجزائر، لنُطلق سويًّا ديناميكية تدفع إلى التقدم في معالجة الملفات الكبرى، وإلى تكثيف العلاقات الجزائرية الفرنسية وتوسيعها».
وتأتي الزيارة المرتقبة للرئيس الفرنسي تتويجًا لفترة نشاط دبلوماسي جزائري ملحوظ، استقبلت فيها الجزائر مسؤولين في دول ومنظمات دولية عديدة، كان أهمها زيارة وزير الخارجية الإيطالي لويجي دي مايو في شهر فبراير (شباط) 2022 وزيارة وزير الخارجية الأمريكي أنتوني بلينكن في شهر مارس (آذار) 2022، والتي سبقها بأيام زيارة نائبته ويندي شيرمان، وفي أبريل (نيسان) 2022 زار وزير الخارجية الفرنسي جون إيف لودريان الجزائر قبل أيام من إجراء الدور الثاني من الانتخابات الرئاسية الفرنسية.
أيضًا استقبل الرئيس الجزائري يوم الثلاثاء 10 مايو (أيار) 2022 وزير الخارجية الروسي سيرجي لافروف، وبعد يومين من زيارة لافروف، سافر مدير الأركان العسكرية لحلف الناتو هانس وارنر وييرمان إلى الجزائر، حيث استقبله رئيس أركان الجيش الجزائري السعيد شنقريحة.
وحول هذه الزيارات يقول الكاتب والباحث في الشؤون السياسية والأمنية من جامعة أم القرى الجزائرية، عمار سيغة لـ«ساسة بوست» إن «الزيارات المتتالية لوزراء خارجية دول غربية فاعلة للجزائر في هذا الوقت بالذات يعكس مكانة خاصة للجزائر فيما يتعلق بدورها في إدارة الأزمات الدولية والإقليمية، وكذلك موقع الدبلوماسية الوازنة للجزائر في لعب أدوار مهمة فيما يخص حلحلة مختلف التوترات التي شهدتها المنطقة العربية وأفريقيا عمومًا» .
لا شيء يحدث صدفة.. الجزائر وفرنسا ودٌّ بعد جفاء
مرت العلاقات الدبلوماسية الفرنسية الجزائرية بأزمة خلال سنة 2021، بدأت عقب تصريح للرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون وذلك أثناء لقائه شباب من أبناء «الحركيين الجزائريين» نفى فيه وجود أمة جزائرية قبل الاحتلال الفرنسي للجزائر، في إشارة إلى الحقبة العثمانية التي عاشتها الجزائر قبل سنة 1830، تاريخ بداية الاحتلال الفرنسي لها.
الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون
وقوبل هذا الموقف باحتجاج جزائري حاد، إذ اعتبرت السلطة الجزائرية تصريحات ماكرون «غير مسؤولة» وأدلى وزير الخارجية الجزائري رمضان لعمامرة، بتصريحات تليفزيونية، أكد فيها أن «ماكرون يعاني من الإفلاس في الذاكرة» وفق تعبيره، كما استدعت الجزائر سفيرها محمد عنتر داوود من باريس، وأغلقت المجال الجوي الجزائري أمام الطائرات العسكرية الفرنسية العاملة في إطار «عملية برخان» في الساحل الأفريقي.
ودامت حالة التوتر الدبلوماسي بين الطرفين نحو سنة رغم محاولات الفرنسيين احتواء الأزمة، إلى أن استقبلت الجزائر وزير الخارجية الفرنسي، جون إيف لودريان، قبل إجراء الدور الثاني من الانتخابات الفرنسية الذي تنافس فيه كل من إيمانويل ماكرون ومارين لوبان مرشحة اليمين المتطرف، في شهر أبريل (نيسان) 2022.
وقال لودريان خلال الزيارة إنه «لا غنى عن التعاون مع الجزائر»، وقد أثمرت هذه الزيارة عن دعم جزائري للرئيس ماكرون ظهرت آثاره في دعوة إمام الجامع الكبير بباريس التصويت لماكرون، وهو ما ساهم في حصوله على 85% من أصوات المسلمين في الجولة الثانية من الانتخابات.
ويشار إلى أن عدد الجزائريين في فرنسا تجاوز 5.5 ملايين، كما تستأثر الجزائر بأعلى نسبة ولادات للأقليات المهاجرة، بلغت 12.7% وفقًا لأرقام المعهد الوطني للإحصاء والدراسات الاقتصادية في فرنسا، أما الجالية الفرنسية في الجزائر فقد بلغ عددها 41 ألفًا و780 مواطنًا سنة 2017.
كما أثمرت زيارة لودريان الأخيرة في تحسين العلاقات بين الطرفين، وهو ما ظهر في تعبير الرئيس الجزائري عبد المجيد تبون عن سعادته بفوز ماكرون بأسلوب فيه الكثير من الود والرغبة في طي خلافات الماضي القريب.
ومن المنتظر أن تجري انتخابات تشريعية في فرنسا خلال شهر يونيو (حزيران) المقبل، وتؤكد تقارير مخاوف ماكرون من الفشل في الحصول على أغلبية تمكنه من اختيار رئيس الحكومة خاصة في ظل وجود منافسة قوية من طرف تحالف اليسار بقيادة السياسي اليساري جان لوك ميلونشون الذي حظي بثقة أغلبية المسلمين في الجولة الأولى من الانتخابات الرئاسية، الذين ينتقدونه في ملف الاقتصاد بسبب موجة التضخم الناتجة من ارتفاع أسعار الغاز.
مصالح مشتركة زادت بعد اندلاع الحرب في أوكرانيا
تجمع فرنسا بمستعمرتها القديمة مصالح مهمة؛ إذ تعد باريس الوجهة الأولى لصادرات الجزائر سنة 2019، وتحتل المرتبة الثانية في قائمة مورِّديها، بعد الصين، كما بلغت الصادرات الفرنسية إلى الجزائر ما قيمته 4.92 مليار يورو في عام 2019، أمَّا قيمة الواردات الفرنسية من السلع الجزائرية فقد وصلت إلى 4.19 مليار يورو في عام 2019، وتتكون 95% من الواردات الفرنسية من المحروقات أي النفط الخام والغاز الطبيعي والوقود.
وبعد اندلاع الحرب في أوكرانيا أصبحت الجزائر من بين الدول التي تعول عليها أوروبا في تعويض الغاز الروسي، وفي هذا الاتجاه صرح وزير الخارجية الفرنسي خلال زيارته للجزائر بأن النزاع في أوكرانيا كانت له «تداعيات كبرى على صعيد تنويع إمدادات الطاقة للدول الأوروبية، وكذلك لناحية أمن الإمدادات الغذائية».
وتتعرض الجزائر لضغط أوروبي كبير من أجل تعويض إمدادات الغاز الروسي إلى أوروبا، إذ جاءت أغلب الزيارات في هذا الإطار، فصرح وزير الخارجية الإيطالي لويجي دي مايو خلال زيارته للجزائر بأن «الحكومة الإيطالية ملتزمة بزيادة إمدادات الطاقة وخاصة الغاز من مختلف الشركاء الدوليين» بما في ذلك الجزائر «التي لطالما كانت مزودًا موثوقًا».
ويذكر أن الجزائر تحتل المرتبة السابعة عالميًّا في إنتاج الغاز، والمرتبة الرابعة عربيًّا من ناحية احتياطي الغاز الطبيعي بأكثر من 159 ألف قدم مكعب سنة 2021، وتوفر 11% من احتياجات أوروبا من الغاز الطبيعي، وفي هذا السياق شددت السلطات الجزائرية، لأسباب فنية وأخرى سياسية، على أن بلادها غير قادرة على تعويض الغاز الروسي لأوروبا والمقدر بما يقارب 200 مليار متر مكعب.
وكان سيرجي لافروف قد قال خلال زيارة الجزائر في العاشر من مايو 2022 إن «موسكو والجزائر، العضوين في تحالف أوبك، تلتزمان بالوفاء بالتزاماتهما بشأن إمدادات الغاز كما في السابق» في إشارة إلى قلق روسي من إمكانية أن ترفع الجزائر من إمداداتها من الغاز نحو أوروبا.
الرئيس الجزائري عبد المجيد تبون مع وزير الخارجية الروسي سيرجي لافروف
وبصدد هذا يقول الباحث الجزائري في الشؤون السياسية والأمنية عمار سيغة لـ«ساسة بوست» إن «زيارة لافروف محاولة للحيلولة دون إبرام الجزائر لاتفاقيات مع أوروبا في مجال الطاقة بهدف الرفع من إنتاجها من الغاز لتعويض الغاز الروسي نحو أوروبا».
ويشار أنه يجمع الجزائر بروسيا علاقات تاريخية وإستراتيجية كبيرة، إذ كان الاتحاد السوفيتي سبَّاقًا في الاعتراف باستقلال الجزائر في 23 مارس (آذار) 1962، وبدورها سارعت الجزائر في السادس والعشرين من ديسمبر (كانون الأول)1991 إلى الاعتراف بجمهورية روسيا الاتحادية.
ويمثل السلاح الروسي 69% من جملة السلاح الجزائري، ومن ثم تعد الجزائر الدولة الأولى أفريقيًّا من ناحية استيراد السلاح الروسي، كما تحتل الجزائر المرتبة الثالثة عالميًّا في هذا المجال بعد الصين والهند، إذ استحوذت على 15% من صادرات روسيا العسكرية سنة 2016 وحدها.
ويمثل السلاح الروسي أهمية كبرى للجزائر في ظل التحديات الأمنية في المنطقة المحيطة بها، خاصة في حدودها الشرقية مع المغرب، وقد عرفت ميزانية التسليح في الجزائر ارتفاعًا في السنوات الأخيرة لتتصدر نفقات الموازنة العامة للدولة على حساب قطاعات أخرى على غرار التنمية والتعليم والصحة رغم الأزمة الاجتماعية التي تعرفها البلاد.
هل يمكن للجزائر أن تكون وسيطًا بين روسيا والغرب عبر فرنسا؟
ترجح بعض التقارير أن من بين الأدوار التي تريد روسيا من حليفتها الجزائر أن تلعبها هو لعب دور الوساطة بينها وبين الدول الأوروبية فيما يخص الحرب في أوكرانيا، وفي هذا السياق يرى أستاذ العلوم السياسية بالجامعة الجزائرية الدكتور إسماعيل معراف في تصريح لـ«ساسة بوست» أن «عددً من الزيارات التي قامت بها وفود رسمية إلى الجزائر تتنزل في إطار بحث دور متقدم لها في تبليغ وجهة نظر روسيا إلى الغرب عبر فرنسا بالأساس».
ويرى معراف أن «روسيا تورطت في الحرب في أوكرانيا وأصبحت غير قادرة على المواصلة في ظل التداعيات الاقتصادية للعقوبات المفروضة عليها من طرف الولايات المتحدة وحلفائها في أوروبا، لذلك تحاول توظيف حلفائها للوساطة مع أوروبا».
ويرجح أستاذ العلوم السياسية الجزائري بأن تقوم الجزائر بهذا الدور نظرًا إلى علاقاتها المتميزة مع الجهتين – أي روسيا وأوروبا- ويرى أن زيارة سيرجي لافروف الى الجزائر بطريقة فجائية قبل أيام من زيارة ماكرون يمكن قراءتها في هذا الاتجاه.
وفي الاتجاه نفسه يرى مدير موقع «أفريقيا 2050» المختص في شؤون شمال أفريقيا ودول الصحراء، الإعلامي علي اللافي، في تصريح لـ«ساسة بوست» أن «روسيا تعوِّل على استمالة الجزائر، باعتبار أهميتها في المنطقة الجنوبية لأوروبا»، مضيفًا: «لقد عملت الجزائر على أن تنأى بنفسها عن الصراع الحاصل ولكن ذلك لم يمنعها من لعب أدوار وساطة في بعض مربعات الأزمة».
ويرجح اللافي «أن تكون لزيارة تبون لتركيا واستقباله في آخر شهر مايو للرئيس الفرنسي ماكرون ودعوته من طرف بوتين لزيارة موسكو دليلًا على أن الجزائر تتطلع للقيام بدور وساطة بالتنسيق مع روسيا بهدف إنهاء الحرب بأكبر المكاسب الممكنة لموسكو».
ومن جانبه أكد الباحث في العلاقات الجزائرية الفرنسية من جامعة ليون بفرنسا الدكتور مقداد إسعاد، لـ«ساسة بوست» إمكانية قيام الجزائر بهذه الوساطة قائلًا: «نعم يتوقع أن تقوم الجزائر بدور الوساطة بين روسيا والغرب، وبالتحديد بين الرئيس بوتين ونظرائه الغربيين، فالجزائر لها علاقة تاريخية قوية مع الولايات المتحدة الأمريكية منذ ما قبل استعمار فرنسا لها، وعلاقتها الآن مع فرنسا،جيدة وقوية رغم الخطابات المتشنجة ظاهريًّا أحيانًا»، مضيفًا: «ستكون حاجة بوتين للجزائر أكثر بصفتها وسيطًا في حال خسارته للحرب وهذا متوقع» وفق إضافته.
وفي المقابل تحدث الباحث في الشؤون السياسية والأمنية بجامعة أم القرى الجزائرية، عمار سيغة لـ«ساسة بوست» حول إمكانية وجود وساطة مباشرة من الجزائر بين روسيا والدول الغربية قائلًا: «من السابق لأوانه الحديث عن ذلك ونحن لا نزال نراقب تطورات المشهد في أوكرانيا وتداعياتها المتواصلة».
ويضيف سيغة بأن «الجزائر تدرك جيدًا متى تناور ومتى تلعب أدوار الوساطة، وتحرص دومًا على المحافظة على مسافة الأمان مع الجميع»، ويرجح الأستاذ الجزائري بأن موقف بلاده سيكون بالتحفظ على أي محاولة لتوظيفها في ذلك دور الوسيط، لدرء الحرج عنها، لاسيما وأن للجزائر مصالح اقتصادية عميقة مرتبطة بالطاقة في أوروبا، ومصالح إستراتيجية متقاطعة مع روسيا في مجال التسليح على وجه الخصوص.
وفي الاتجاه نفسه استبعد الخبير الدبلوماسي التونسي أحمد بن مصطفى في تصريحٍ لـ«ساسة بوست» قيام الجزائر بدور الوساطة بين روسيا وأوكرانيا، قائلًا: «صحيح أن للجزائر علاقات متميزة مع الغرب لكن انحيازها لروسيا وتبعيتها لها في التسليح يحول دون أن تكون وسيطًا موضوعيًّا».
ويضيف السفير التونسي السابق بأن «الجزائر يمكن أن تكون قناة اتصال بين روسيا وأوروبا لا أكثر، موضحًا أن المقصود هو أن تبلِّغ الجزائر وجهة نظر روسيا لإنهاء الصراع بين روسيا والغرب».