تشهد الجزائر، منذ نجاح الحراك الشعبي في إخضاع الرئيس السابق عبد العزيز بوتفليقة، وإجباره على الاستقالة، موجة اعتقالاتٍ ومحاكماتٍ غير مسبوقة في تاريخ البلاد، إذ يقبع في سجون الجزائر عشرات الشخصيات المحسوبة على نظام بوتفليقة، من أبرزهم الجنرال توفيق، الذي روي عنه أنه قال يومًا «أنا ربّ الجزائر»، والسعيد بوتفليقة شقيق من قال يومًا «أنا الجزائر كلّها»، وجمال ولد عبّاس الذي قال ذات مرّةٍ «أنا هو الدولة»؛ أسماء كانت إلى وقتٍ قريبٍ تشكل رعبًا لدى معظم الجزائريين، ومجرد ذكر أسمائها يبث الخوف في نفوس الجزائريين.
هذه الحملة يقف وراءها أصغر جنرال في البلاد؛ وهو قائد المخابرات الجديد الفريق محمد قايدي، الذي يلقبه جزائريون بـ«المنجل» – نسبةً إلى آلة تقليدية يستعملها المزارعون في الحصاد- كنايةً عن دوره في حصد «رؤوس الفساد» في الجزائر، في هذا التقرير نسلط الضوء على مدير المخابرات الجزائرية الفريق محمد قايدي.
من «أشبال الثورة» إلى« أصغر» جنرال في الجزائر
في إحدى قرى بلدية تابلاط في ولاية المدية (50 كلم جنوب العاصمة)، وفي سنة 1961؛ ولد محمد قايدي لأسرةٍ بسيطة، وكعادة أقرانه في ذلك الوقت؛ زاوج قايدي بين دراسته الابتدائية ودخول الكتّاب لحفظ القرآن، لتكون نشأته نشأةً محافظة، وفي فترة السبعينيات كانت هناك مدرسة «أشبال الثورة» التي أسّسها الرئيس الراحل هواري بومدين، من أجل تزويد الجيش الشعبي الوطني بإطاراتٍ متعلمة وشابة، وقد أغلقها الجنرال خالد نزار بوصفه وزيرًا للدفاع، سنة 1986، وقد كان قايدي من بين أشبال تلك المدرسة، إذ تخرج بشهادة مهندس دولة في الإعلام الآلي تحت تخصص «برمجة».
تقلّد محمد قايدي بعدها عدّة مناصب، بدايةً بقائد «مفرز المغاوير»، ثمّ قائد الوحدة العسكرية العملياتية «1 RAS» (الفوج الأول لمدفعية الإشباع) بسيدي بلعباس، بالناحية العسكرية الثانية، في سنوات العشرية السوداء، ثم إلى رئيس «اللجنة المشتركة الجزائرية- الفرنسية» بين سنتي 2012 و2014، بعد ترقيته إلى درجة عميد، وبعد تعيين بوتفليقة القايد صالح نائبًا لوزير الدفاع؛ رُقي محمد قايدي من عميد إلى جنرال سنة 2014، وسنّه لم يتجاوز 53 سنة، ليكون بذلك أصغر جنرال في تاريخ الجزائر، قبل أن يُعيَّن مديرًا للمديرية المركزية لأمن الجيش.
«قهر» المسلحين في الميدان و«رثاهم» في التصريحات
مع مطلع التسعينيات، دخلت الجزائر في أتون حربٍ أهلية، نتجت من الصراع بين الجيش والإسلاميين على السلطة، على خلفية توقيف الجيش للمسار الانتخابي، الذي أفرز عن فوز الإسلاميين بأغلبية مقاعد البرلمان؛ خلّف ذلك الصراع مقتل أكثر من 200 ألف جزائري، وفقدان عشرات الآلاف.
وفي خضمّ هذا الصراع كان الجنرال محمد قايدي، الذي عرف ببطشه في مواجهة المسلحين، قائدًا لـ«مفرزة المغاوير والمطاردة»، التي كانت تكلّف بالعمليات الخاصة في الغرب الجزائري، والتي كان يطلق عليها اسم «المرسيدس»؛ نسبةً إلى العلامة الألمانية الشهيرة، وقد تمكن الجنرال قايدي من تحقيق انتصاراتٍ كبيرة ضدّ المسلحين، إذ ساهم في القضاء على كبار قادة الجماعات المسلحة، مثل القياديين قادة بن شيحة والعقال في جبال سيدي بلعباس وتلمسان بالغرب الجزائري.
ومن أبرز ما يتناقله العسكريون والإعلام عن بطش الجنرال محمد قايدي بالمسلحين في الجزائر، أنّه في إحدى المرّات كاد القايدي أن يذبح أحد قادة المسلحين، والمسؤول عن ذبح مدرسات جزائريات، لولا تدخّل قوات أمن مرافقة لهذا المسلح.
وفي خلال اليوم البرلماني الذي نظمته وزارة الدفاع الوطني بمعية البرلمان الجزائري، في يونيو (تموز) 2015؛ والذي حمل عنوان «مكافحة الإرهاب الدولي الجديد.. القواعد والآليات» قدّم الجنرال محمد قايدي ورقة بعنوان «هكذا نشأ الإرهاب في الجزائر، وهكذا تم القضاء عليه»، ومن ضمن ما ذكر أن «الجنود الجزائريين في سنوات العشرية السوداء، لمّا كانوا يتقدمون للقتال، كانوا يتساءلون جميعهم، وحتى أنا كنت أتساءل: هل نحن على حق أم على باطل، هم (المسلحين) يقولون الله أكبر ونحن (الجيش) نقول الله أكبر، وقد تبين الحق فيما بعد». وهو التصريح الذي أثار جدلًا، خصوصًا أنه جاء في الوقت الذي احتدم فيه الصراع بين قيادة الأركان الجزائرية وقطاع المخابرات المتهمة بالمسؤولية الكبيرة عن الأزمة التي عاشتها الجزائر في التسعينيات.
كيف قصقص أجنحة المخابرات؟
مع مطلع شهر أبريل (نيسان) الماضي، أعلنت وزارة الدفاع الجزائرية في بيانٍ لها إقالة الجنرال عثمان طرطاق، المدعو بشير، منسق المصالح الأمنية في رئاسة الجمهورية، وإيداعه الحبس المؤقت، بعد اتهامه بـ«الخيانة العظمى» على خلفية مشاركته في اجتماع استهدف «التآمر على الجيش». كما أعلنت قيادة الجيش الجزائري عن إلحاق المديريات الثلاث في جهاز الاستخبارات، التي كانت تحت وصاية رئاسة الجمهورية بوزارة الدفاع، وتعيين الجنرال محمد قايدي – الذي يعده الكثير من المراقبين «الصديق المخلص» لقائد الأركان الفريق أحمد قايد صالح- مديرًا لها.
وبتعيين الجنرال محمد قايدي مديرًا لقطاع الاستخبارات؛ تكون قيادة الأركان قد أنهت صراعها مع القيادة السابقة لهذا القطاع، وهو الصراع الذي بدأ بعد حادثة تيقنتورين، التي استهدفت عمالًا أجانب في المنشآت النفطية بجنوب البلاد، وشهدت تدخلًا عسكريًّا من طرف قوات الجيش أسفر عن مقتل بعض الرهائن، وأشارت أصابع الاتهام في ما بعد إلى وقوف رئيس المخابرات الأسبق الجنرال توفيق وراء العملية. وبلغ هذا الصراع أشدّه سنة 2015، حين بدأت قيادة الأركان ما يعرف بـ«حملة التطهير»، التي أسفرت عن سقوط الفريق محمد مدين من رأس المخابرات، وعرفت إقالة العديد من المسؤولين العسكريين والأمنيين الموالين له.
«حاصد رؤوس الفساد»
منذ تعيين الجنرال محمد قايدي على رأس الاستخبارات، ودعوة قيادة الأركان لفتح ملفات الفساد؛ تعيش الجزائر محاكمات واعتقالات كبيرة نتيجة الحملة التي تشنّها الاستخبارات الجزائرية على رجال بوتفليقة الضالعين في قضايا فساد، إذ تعيش العديد من الشخصيات الجزائرية حالة من الرعب، خصوصًا بعد أن تمكنت القيادة الجديدة للاستخبارات مطلع الشهر الماضي من وضع يدها على جزءٍ من أرشيف دائرة الاستعلام والأمن السابقة، التي كانت تحت إمرة الجنرال توفيق.
وبعد سقوط إحدى أذرع الجنرال توفيق الإدارية، والمتمثل في مدير إقامة الدولة حميد ملزي في قبضة الأمن، أشارت مصادر إعلامية إلى تولي جهاز الاستخبارات – تحت قيادة الجنرال محمد قايدي- إجراء تحقيقاتٍ مكثفة أسفرت عن استيلاء قيادة الأركان على أرشيف من أربعة صناديق، يحتوي على ملفات سريّة لاجتماعات قام بها مسؤولون جزائريون بإقامة الدولة، وكان الجنرال توفيق يستفز بها السياسيين لضمان ولائهم.
ومنذ ذلك الوقت فتحت العدالة الجزائرية عشرات الملفات الخاصة بفساد المسؤولين الذين لهم علاقة بقضية ملزي، كما اعتقلت عدة شخصيات، أبرزها رئيسا الوزراء السابقان أحمد أويحيى، وعبد المالك سلال، والوزراء جمال ولد عباس، وسعيد بركات، وعمارغول وارة بن يونس ،وعشرات من رجال الأعمال المتهمين في قضايا الفساد، كما يتوقع أن تسقط أسماء عديدة في قائمة ضحايا من صار الجزائريون يطلقون عليه بـ«المنجل»، كنايةً عن عملية حصاد رؤوس الفساد.