في إشبيلية عام 484هـ الموافق 1091م، انتشر الجُندُ الملثمون في أرجاء حاضرة الجنوب الأندلسي لبسط الأمن ولكبح جماح أعمال السلب والنهب التي اندلعت طوال اليوم، خاصة ما تعرَّضت له قصور ابن عباد ملك إشبيلية، والذي أصبح الآن أسيرًا لدى المرابطين الذين استدعاهم بنفسه من المغرب إلى الأندلس؛ لكي ينقذوا مُلكَهُ، وينقذوها من براثن ممالك إسبانيا المسيحية الشمالية التي كانت تهدد باجتياح كامل الأندلس الإسلامية في غمرة الفورة الدينية والسياسية والحربية العارمة في الشمال.
بدأت تلك الفورة المسيحية أوائل ذلك القرن على يد فرناندو الأول، ثم بعد حين، ابنه ألفونسو السادس، الذي نجح في انتزاع مدينة طليطلة، حاضرة وسط الأندلس، وعاصمة إسبانيا قبل الفتح، قبل أن تتمكن الجيوش الأندلسية المرابطية المشتركة بقيادة زعيم المرابطين يوسف بن تاشفين، من إيقاع هزيمة ساحقة بجيوش إسبانيا المسيحية بقيادة ألفونسو السادس في موقعة الزلاقة عام 479هـ الموافق 1086م.
كانت محنة آل عباد – وسواهم من البيوت الحاكمة لمختلف الدويلات الأندلسية – على يد المرابطين فصلًا قاسيًا، لكنه كان متوقعًا. كانت الأندلس عشية الفتح المرابطي أنقاضَ دولةٍ عظيمة، فاحشة الثراء، ولا محدودة الخيرات والنعيم، يحكم مدنها ملوكٌ في أكثرهم ضعفاء منتفخون، بينما كان المرابطون على اتساع دولتهم، وقوتهم، بني الصحاري والقفار، والحياة الخشنة. فلم يكُن مستغربًا أن يسحرهم نعيم الأندلس، حتى يكاد زخرفها يذهب بأبصارهم وبصائرهم. لكن الحق أن المرابطين لم يكونوا بحاجةٍ لاصطناع حجج شرعية ومنطقية لتكون جسرًا لأطماعِهِم، فقد منحهم كلَّ الحُجَجْ؛ الأداءُ المخزي لملوك الأندلس على مدار 70 عامًا قبل المرابطين، وانشغالُهم بأطماعهم وملذاتهم، وإشعالُهم الحروب الأهلية العبثية ضد بعضهم البعض، واستنصارهم فيها بمسيحيي الشمال؛ ما أضعف الجبهة الإسلامية في الأندلس، ووضع مسلمي الأندلس تحت رحمة المد الصليبي المتصاعد.
والآن عودة إجبارية إلى بداية كل هذا.
المرابطون.. من شرارة البداية إلى وهج النصر الأكبر
في النصف الأول من القرن الخامس الهجري، وفي بقعة نائية في غرب أفريقيا، وضع بضعة أفراد ينتسبون بالأساس إلى قبيلة لمتونة البربرية، نواة واحدة من أضخم الدول في تاريخ المغرب الإسلامي. بدأت قصة لمتونة مع الإسلام في القرن الثاني الهجري، لكن بحلول القرن الخامس الهجري كانت تلك المنطقة قد عصف بها التفرق والحروب والاضطرابات والفوضى، وشاع فيها التخلي عن الكثير من أحكام الإسلام، وامتزجت العبادات بالكثير من الطقوس والعادات الوثنية.
خريطة لتمدد دولة المرابطين، المصدر: المعرفة
خرج يحيى الكُدالي – زعيم قبيلة صنهاجة، القبيلة الأم للمتونة – لأداء فريضة الحج، وعاد متحمسًا لتغيير الواقع الديني والسياسي لبلاده، فعاد مصطحبًا معه فقيها ورعًا من القيروان، سيتغيَّر على يديه تاريخ المغرب الإسلامي إلى حد بعيد، إنه عبد الله بن ياسين.
سيبدأ ابن ياسين نشاطًا دعويًا مكثفًا في لمتونة وكُدالة وغيرها من بطون صنهاجة، متسِّمًا بالكثير من الشدة والصرامة والانتقاد اللاذع، حتى ضاق به الكثيرون ذرعًا، وتعرَّض له البعض وهدَّدوه. فما كان من ابن ياسين إلا أن اختار لنفسه منفىً اختياريًا في بقعة بعيدة قرب ضفاف نهر النيجر؛ لينقطع فيها للعبادة، وليلتحق به فيها المخلصون ممن استجابوا لدعوته، وتلقَّبوا بالمرابطين. بدأ الأمر بسبعة أفراد، منهم يحيى الكُدالي نفسه، ثم أخذت كرة الثلج تتضخم، حتى أصبح في معسكر ابن ياسين المئات من الأتباع المتحمسين والمتأهبين لقرنِ الفعل بالقول، ولذا انطلقوا في حماسةٍ شديدة في البعثات التي أرسلها الشيخ إلى مختلف الجهات،ل لدعوة والإنذار أولًا، ثم بالسيف بعد حين.
في بضع سنين كان المد المرابطي قد اكتسح المغرب الأقصى – موريتانيا – وجواره من غرب القارة السمراء، مرتكزًا إلى ما أظهره الفاتحون الجدد من ورعٍ وزهد وقدر كبير من العدل في الحكومة، يكتنفه حزم شديد في حفظ الأمن، والضرب على يد الخارجين عن الطاعة والدعوة. استمرَّت الدعوة المرابطية في الانتشار، رغم بعض التصرفات الغريبة التي اكتنفت مسيرتها، والمنبثقة من بعض التعصب الفكري والمغالاة، مثل استتابة المنضمين الجدد بضربهم بالسياط لتطهرهم من ذنوبهم السابقة، وأخذ ثلث مال المستتاب لإنفاقه على الدعوة بحجة تطهير المال، وجلد من يتخلف عن صلاة الجماعة 20 سوطًا، وغير ذلك.
التزم عبد الله بن ياسين بالقيادة الدينية، وأسند السياسية والحربية إلى قائد آخر يختاره من بين أكثر المخلصين للدعوة من المرابطين الأوائل، فكان أولهم يحيى بن إبراهيم الكُدالي، فلما مات خلفه يحيى بن عمر اللمتوني، والذي شهد عهده توسعات ضخمة، ثم توفّي، وخلفه أخوه أبو بكر بن عمر.
عام 444-445هـ، بدأت الأذرع المرابطية تمتد إلى المغرب الأوسط، حيث أرسل وجهاء مدينة سجلماسة وجوارها إلى المرابطين يطلبون تخليصهم من حكامهم، ومظالمهم، وضمهم إلى الدعوة. فانتصر المرابطون انتصارًا ساحقًا، وضموا المنطقة وجوارها.
عام 448هـ يغزو المرابطون بلاد السوس جنوب غرب المغرب الأوسط، وهنا يبزغ لأول مرة في سماء المرابطين نجمهم الأكبر فيما بعد يوسف بن تاشفين، والذي قاد فتح مدينة تارودنت عاصمة السوس. عام 451هـ، يتوفى الشيخ ابن ياسين متأثرًا بجراحه أثناء غزو قبائل برغواطة، وتجتمع القيادة الشاملة من بعده في يد أبي بكر بن عمر، والذي أتمَّ فتح بلاد برغواطة وغيرها.
عام 453هـ يمنح القدر يوسف بن تاشفين فرصةً كبرى؛ ليبدأ في حفر اسمه في سجل التاريخ. تصل النُّذُر إلى الأمير أبي بكر بانتقاض الكثير من القبائل في غرب أفريقيا، حيث كانت الفتوحات الأولى للمرابطين. يقرر أبو بكر الرحيل إلى هناك لضبط الأمور بنفسه، ويضع – بموافقة عامة من شيوخ المرابطين – ابن عمه يوسف في مكانه زعيمًا للمرابطين في المغربين الأوسط والأقصى. تلك الزعامة التي سيقبض عليها الرجل 50 عامًا تالية.
في عامٍ واحد فحسب، نجح يوسف في ضم المزيد من الأراضي إلى سلطان الدعوة المرابطية، وذاع صيته في كامل أرجاء المغرب العربي حاكم قادر وعادل. أواخر عام 454هـ، بدأ إنشاء مدينة مراكش عاصمة المرابطين، وفي عام 462هـ ضمَّ المرابطون مدينة فاس، حاضرة المغرب الإسلامي بعد حروبِ طويلة. في تلك الأثناء عاد الأمير أبو بكر اللمتوني بعد أن نظَّم الأمور في الصحراء وأفريقيا، فوجد الأمر مستتبًا في يد يوسف، والبلاد المرابطية تدين له بالولاء، فتنازل له عن السلطة الكاملة، وعاد إلى غربي أفريقيا.
يواصل الفقهاء، ويعظم العلماء، ويصرف الأمور إليهم، ويأخذ فيها بآرائهم، ويقضي على نفسه، وغيره بفُتْياهم، ويحض على العدل، ويصدع بالحق، ويعضد الشرع. *ابن الصيرفي معدِّدًا مناقب يوسف بن تاشفين
في الأعوام العشرة التالية، تصل حدود دولة المرابطين شرقًا إلى تونس، وشمالًا إلى طنجة، وغربًا إلى ساحل غربيّ أفريقيا على المحيط الأطلسي، ويفرض الشيخ السبعيني سلطته عدلًا وقوةً على تلك الرقعة الشاسعة، ويطير ذكر المرابطين دعوةً ودولةً شرقًا وغربًا.
أما على الضفة الشمالية من البحر المتوسط، فكانت الأمور في الأندلس على النقيض التام، تتجه إلى مزيد من التفكك والتداعي. أواخر القرن الرابع الهجري، تفككت الدولة العامرية القوية، ودخلت الأندلس في دوامة الفتنة لأكثر من 23 عامًا، والتي أسلمتْها لعهد ملوك الطوائف، حيث أمست الدولة الأندلسية الموحدة شراذم من الدويلات المتطاحنة، والتي صدق فيها قول شاعرٍ أندلسي.
مما يزهدُني في أرضِ أندلسٍ ـ ألقابُ معتضِدٍ فيها ومُعتَمِدِ
ألقابُ مملكةٍ في غيرِ موضِعِها ـ كالهرِّ يحكي انتقاخًا صولةَ الأسدِ
ونجحت إسبانيا المسيحية في الخروج من مكامنها شمالًا، والزحف إلى الجنوب، لتفرض كلمتها وسطوتها على مسلمي الأندلس، بل تهدد وجودهم في الجزيرة بالفناء. تجلَّى هذا عام 478هـ، عندما نجح ألفونسو السادس أقوى ملوك إسبانيا المسيحية في ضم مدينة طليطلة حاضرة وسط الأندلس، وعاصمتها قبل الإسلام، وكانت أولى القواعد الأندلسية الكبرى سقوطًا. بثَّ سقوط طليطلة الرعب في قلوب عامة أهل الأندلس، وملوكها، فما كان منهم إلا أن استنجد كبارهم وعلى رأسهم المعتمد بن عبَّاد ملك إشبيلية، بالمرابطين لنجدة الأندلس.
لم يتأخرَّ يوسف، ونزل المرابطون إلى الجزيرة في العام التالي، بعد أن اشترطوا على ملوكها أن يمنحوهم جنوب الأندلس لتكون محطًّا لجيوشهم، وظهرًا لها في الغدُوِّ والرواح. نجحت الجيوش المرابطية والأندلسية في تحقيق انتصارٍ كاسح على جيوش ألفونسو السادس في موقعة الزلاقة الحاسمة عام 479هـ الموافق 1086م قرب الحدود بين المناطق الإسلامية والمسيحية، لكن لم يَعْقُبْ هذا الانتصار تغيير كبير على الأرض؛ إذ اكتفت الجيوش الإسلامية بالانتصار في ساحة الحرب، ولم تواصل التوغل في أرض عدوها، أو تحاول انتزاع إحدى قواعده الهامة، أو حتى استرجاع طليطلة. ولعل السبب في ذلك حذر ابن تاشفين من التوغل في بلادٍ لا تعرفها جيوشه، وكذلك غياب ثقته الكاملة في حلفائه الأندلسيين في عملية الدعم والإمداد بما يحتاجه مثل هذا الغزو، وأيضًا عدم رغبته في الابتعاد طويلًا عن المغرب لئلا تنتقض قبائله، وينفرط نظامه.
بعد عام من الزلاقة، حاول ألفونسو الجريح استعادة هيبته، فأغارت قواته على شرقي الأندلس انطلاقًا من حصن الليط، فاستنجد الأندلسيين مجدَّدًا بالمرابطين، فعبر ابن تاشفين مجددًا، وحاصر الحصن أربعة أشهر، حتى هلك معظم المدافعين المسيحيين بداخله، وأصبح سقوطه مسألة وقت، لكن اضطر يوسف لرفع الحصار قبل اكتمال الفتح؛ وذلك لشعوره بتفرق ملوك الأندلس، وانشغالهم عن المعركة بالتنابز فيما بينهم، ومحاولة كل منهم الاستقواء بيوسف على خصومه.
مع تكرار عبور المرابطين إلى الأندلس، غرقت عقولهم وقلوبهم حتى الثمالة في مقارنة قفور الصحراء المغربية حيث أتوْا برغد الجنان الأندلسية، وروعة قصورها، ووفرة مياهها. ومع توافر القوة والإرادة، تحفُّها عشرات المبررات الشرعية الحقيقية، أصبحت الأندلس بالنسبة للمرابطين ثمرة ناضجة تنتظر أوان القطاف.
الأندلس تحت الراية المرابطية
مئات الرسل والرسائل والفتاوى تنهمر على يوسف بن تاشفين من كافة أرجاء الأندلس، بل حتى من المشرق الإسلامي، تحثُّه على القضاء على دويلات الطوائف الأندلسية، وضم الأندلس تحت لواء الدولة المرابطية، لأنها أقوى الدول الإسلامية المجاورة، والتي لم تتأخر عن نجدة الأندلس من الخطر المحدق قبل بضع سنين، والذي ما زال يهدد الأندلس نتيجة إصرار ملوكها على الانغماس في ترفهم وخصوماتهم، وتركهم العدل والجهاد. نزلت مثل تلك المطالبات على المرابطين كالغيث على بذور متعطشة للإنبات.
عبر المرابطون إلى الأندلس للمرة الثالثة عام 483هـ، وكانت «الثالثة ثابتة» كما يقول المثل المصري. استولى المرابطون أولًا على مملكة غرناطة الجنوبية، وذلك لما علموه من تواصل ملكها مع ألفونسو طالبًا حلفَه ضد المرابطين الذين بدأ يشعر بأنفاسهم الساخنة في ظهر مملكته. لم يواجِهْ المرابطون مقاومةً تذكر من أهل غرناطة، خصوصًا وقد منحتهم خيانة ملك غرناطة صكًّا جاهزًا للشرعية أمام الناس، وبارك خاصة المدينة وعامتها الانضمام للمرابطين.
صانَعَ أذفونش والنصارى ـــــــ فانظر إلى رأيه الوبيرِ!
وشادَ بنيانَه خلافًا ــــــــ لطاعةِ اللهِ والأميرِ
يبني على نفسه سِفاهًا ـــــــ كأنه دودةُ الحريرِ
دعوهُ يبني فسوف يدري ــــــــ إذا أتتْ قدرةُ القدير
*أبياتٌ لأحد شعراء غرناطة ساخرًا من تواطؤ ملكها مع ألفونسو ضد أمير المرابطين يوسف بن تاشفين
جاء الدور بعد ذلك على مملكة إشبيلية أكبر دويلات الأندلس. هاجم المرابطون قواعد المملكة في آنٍ واحد، وذلك لتشتيت دفاعاتها. حاول ابن عباد وأبنائه الدفاع عن مملكتهم بشراسة لم يواجهوا بمثلها الإسبان من قبل، فقابل المرابطون تلك الشراسة بأغلظ منها، وقتلوا اثنين من أبناء ابن عباد، أحدهما كان غدرًا بعد أن أُعطيَ الأمان. رغم تلك التجاوزات المرابطية وغيرها، كانت الكثير من المدن والبلدات الأندلسية تثور بولاتها بمجرد اقتراب الجيوش المرابطية، ضجرًا من حكام الأندلس الضعفاء، الذي لا همَّ لهم إلا فرض الضرائب والمكوس، وإنفاق أكثرها على ملذَّاتهم الشخصية. كحلٍ عدّمِيٍّ أخير، راسل ابن عباد ألفونسو لدعمه ضد العدو المرابطيّ المشترك. فكانت هذه الرصاصة الأخيرة التي أطلقها ابن عباد على ما بقي له من شرعية.
لو أني أقصد مدينة الشرك لم تمتنع هذا الامتناع. *سير بن أبي بكر، قائد قوات الفتح المرابطي للأندلس، معبرًا عن تبرُّمه من استماتة جيش ابن عباد في الدفاع عن إشبيلية ضده
نجح المرابطون في سحق جيش قشتالي جاء لنجدة مملكة إشبيلية، ولم يجرؤ بعدها ألفونسو على دعم ابن عباد بشيء. حاصر المرابطون إشبيلية حصارًا شديدًا لأربعة أشهر، ودافعهم ابن عباد مدافعة اليائس، حتى كان يقاتلهم بسيفه في ساحة قصره قبل أن يستسلم. قام المرابطون بنفي ابن عباد وابن بلقين حاكم غرناطة إلى بقعة نائية في صحراء المغرب، ثم في الأعوام التالية ضمُّوا مملكة بطليوس، ثم شرقي الأندلس، وأخيرًا سرقسطة، وبذلك أصبحت الأندلس ولايةً مرابطية.
رغم الحفاوة الأولية التي قابل بها عموم الأندلسيين الفتح المرابطي لما انتظروه من عدل الفاتحين وجهادهم ضد العدو، فإن الأمور لم تسِر بنفس القدر من المثالية في السنوات التالية. ما لبث اختلاف الطبائع والعادات بين المرابطين – أبناء الصحراء الأشداء الأجلاف – وغالبية الأندلسيين – المعتادين على نعومة العيش وفنون النعيم والبذخ – أن بدأ يعمل عمله في تغيُّر نفوس الأخيرين ضد حكامهم الجدد، خصوصًا وهي المرة الأولى منذ قرون التي لا تكون فيها الأندلس دولة مستقلة بذاتها، وإنما ولاية تابعة.
زاد في الفجوة بين الأندلسيين وحكامهم، أن اختلاط المرابطين بالأندلس، أذهب كثيرًا من حرارة الدعوة الدينية، وما تميّز به المرابطون في بادئ الأمر من زهدٍ وورع، فسكن بعضهم في قصور حكام الأندلسيين الذاهبين، وبدأ بعضهم بالسقوط في ملذات الأندلس، وفي فرض بعض المكوس والضرائب الشبيهة بما مضى. وهكذا أخذ الفارق بين المرابطين وبين العهود البائدة يضيق في أذهان الناس، حتى وصل الأمر ببعض الأندلسيين إلى الترحم على أيام ملوكهم الذاهبين، خاصة ابن عباد الذي تعاطف الكثيرون مع النهاية المأساوية لملكه وأسرته على يد المرابطين.
أقبلتُ في هذا الثرى لك خاضعًا ــــــ وجعلتُ قبرَك موضعَ الإنشادِ
قد كنتُ أحسبُ أن تبرِّدَ أدمعي ــــــ نيرانَ حزن أضرمت بفؤادي
فإذا بدمعي كلما أجْريْتُه ـــــــــــ زادت علىّ حرارةُ الأكبادِ!
*الشاعر الأندلسي ابن عبد الصمد راثيًا المعتمد بن عباد بعد أن زار قبره بالمغرب
لكن، رغم حدوث بعض التمردات هنا وهناك، مثل ثورة عبد الجبار بن عباد والتي شغلت المرابطين شهورًا، فإن أكثرية أهل الأندلس التزموا بالطاعة للمرابطين، جزاءً لما أظهروه من جهود حربية في الدفاع عن الأندلس ضد مسيحيي الشمال بقيادة ألفونسو السادس، الذي استمرّ بعد الزلاقة في حربه المتواصلة ضد الوجود الإسلامي بالأندلس.
وكان من أبرز محطات الجهاد المرابطي بعد الزلاقة، نجاح المرابطين في استعادة حاضرة الشرق الأندلسي بلنسية عام 495هـ، بعد أن استولى عليها الإسبان لأعوامٍ بقيادة المغامر الشهير السيد الكمبيادور، والذي توفي أثناء الحصار الطويل للمرابطين للمدينة، وحاولت زوجته عبثًا استكمال الدفاع عن المدينة.
ما بعد يوسف.. انتصارات تكتيكية وهزائم استراتيجية
ومهما كانت فضائل يوسف، فإن الشهامة إزاء المغلوبين لم تكن منها، فقد كان تصرفه مع الأمراء الأندلسيين الذين أسرهم قاسيًا وبغيضًا. *المستشرق دوزي، متحدثًا عن يوسف بن تاشفين
توفى يوسف بن تاشفين على رأس المائة السادسة الهجرية، وعلى رأس 100 من سنين عمره، قضى أكثر من نصفها في قيادة الدعوة المرابطية ودولتها، والتي أصبحت الآن أقرب ما تكون إلى دولة آل تاشفين، حيث سيخلف علي بن يوسف بن تاشفين أباه الشيخ في منصب أمير المسلمين. وكانت الأندلس حاضرةً في وصية يوسف لولي عهده، حيث أوصاه بالإحسان إلى أهل قرطبة، وأن يتجاوز عمن أساء منهم، وأمره بتخصيص أكثر من 17 ألف من الجند المرابطية لحماية الأندلس.
كان العام الأول من حكم علي ساخنًا، فقد عبر إلى الأندلس للجهاد احتذاءً بأبيه، وأرسل أخاه أبا الطاهر تميم للتوغل شمالًا، فأرسل ألفونسو لصدِّه جيشًا كبيرًا بقيادة ولي عهده الطفل – وكان وحيد أبنائه – محاطًا بخيرة فرسانه، وقادة دولته. يتقابل الجيشان أمام حصن إقليش عام 501هـ، ويحقق المرابطون انتصارًا مؤزرًا، ويسقط ابن ألفونسو قتيلًا مع الكثير من قادة الجيش، ليلحق بهم ألفونسو بعد أشهر قليلة، حزنًا وكمدًا. لكن كالعادة لم ينجحْ المرابطون في إتباع هذا الانتصار بانتزاع قاعدة إسبانية كبرى لتغيير الخريطة جذريًا.
عام 503هـ يغزو المرابطون طليطلة، ويستولون على بعض القلاع والمدن القريبة منها، وفي العام التالي، يستولون على الكثير من قواعد البرتغال غربي الأندلس. لكن عام 509هـ، نالت المرابطون هزيمة كبيرة أمام الإسبان، فقدوا فيها بعض خيرة قادتهم مما هزَّ موقفهم العسكري في الجزيرة كثيرًا. عام 512هـ، ينجح ألفونسو المحارب أمير دويلة أراجون المسيحية في الاستيلاء على سرقسطة، قاعدة الثغر الشمالي للأندلس، وثاني المدن الإسلامية الكبرى سقوطًا، ولم ينجح المرابطون في استعادتها. بعد حين يقوم ألفونسو المحارب بغزوة كبرى يخترق فيها الأندلس من أقصى الشمال إلى الجنوب، وينضم إليه المئات من المسيحيين من سكان المدن الأندلسية، والذين كانوا يضيفون بتزمت المرابطين ضدهم، وفرضهم أزياء محددة عليهم. فشل ألفونسو في احتلال غرناطة، فانسحب شمالًا. نكّل المرابطون بمسيحيي الأندلس انتقامًا منهم. استمرت الحروب لسنوات بين المرابطين وألفونسو المحارب، حتى قُتل عام ٥٢٨هـ في موقعة إفراغة شرقي الأندلس، والتي كانت آخر انتصارات المرابطين الكبيرة في الأندلس.
عام 514هـ تحدث سابقة كبرى؛ إذ ثار أهالي قرطبة ضد المرابطين، وطردوهم من المدينة، وذلك بعد أن تعدى أحد عبيد الوالي المرابطي على امرأة قرطبية، ورفض الوالي الاقتصاص من عبده، وأشهر السلاح في وجه القرطبين، فواجهوه بمثله. غني عن الذكر أن واقعة المرأة ما هي إلا شرارة، وأن الجو كان مهيئًا لاندلاعها لضيق الأندلسيين على مدار سنين من حكم المرابطين، الذي كان لا يخلو من قدر بين من الغلظة العسكرية، والتزمت الديني، فيما بدأ يفقد تدريجيًا ما كان يمتاز به من عدلٍ وورع أيام يوسف بن تاشفين.
عبر الأمير علي بن يوسف في جيش ضخم إلى الأندلس، لما بلغته أنباء تلك الفتنة، وحاصر قرطبة، لكن نجحت المفاوضات بينه وبين وجهاء المدينة في نزع فتيل الأزمة.
وهكذا كانت محصلة نصف قرن من جهاد المرابطين بالأندلس، والذي بدأ بالزلاقة في أحسن أحوالها، تثبيت وضع المسلمين بالجزيرة إلى حين، دون أن تنجح انتصاراتهم في قلب الطاولة في وجه الإسبان، أو في الحفاظ على وجود المرابطين نفسه، والذي كان العد التنازلي لنهايته قد انطلق آنذااك.
بحور الدم.. نهاية المرابطين
الطعنة التي تأتي من الظهر تكون قاصمة، تجسَّدت تلك الحقيقة في قصة نهاية المرابطين. لم تأتِ الضربات القاضية من الجبهة المشتعلة المفتوحة للحرب مع العدو المسيحي في شمال ووسط الأندلس، إنما جاءت من المغرب، وبطريقة شبيهة – مع الفارق – بما بدأت به دعوة المرابطين نفسها، ولعلَّ هذا كان سر سطوتها.
صورة لإحدى القباب المرابطية بمدينة مراكش المغربية
أوائل القرن السادس الهجري، يظهر فقيه متعصب في المغرب هو محمد بن تومرت، والذي ينتسب إلى فرع بربري كان تاريخيًا من خصوم لمتونة، العمود الفقري للمرابطين. يجاهر ابن تومرت بخلافه مع المرابطين في مسائل عقائدية وسياسية حتى يصل إلى تكفيرهم استنادًا إلى بعض الخلافات العقائدية كما في قضية أسماء الله وصفاته، إذ رماهم بالشرك وتجسيم الله. سمّى ابن تومرت أتباعه بالموحدين دلالة على أنهم أصحاب العقيدة الصحيحة، وأعلن نفسه المهدي المنتظر الذي جاء لإصلاح أحوال الدنيا.
جمع ابن تومرت حوله الأنصار في معقله بصحراء المغرب، في قاعدته المسماه تينملَّل، وأعلن الحرب الشاملة على المرابطين، والذين كانوا قد فقدوا الرعيل الأول والثاني من أبطالهم وقادتهم العظماء الذين شهدوا ملاحم تأسيس الدولة، ثم البطولات الجهادية على أرض الأندلس، فلم تعُد دولتهم كما كانت في أوج قوتها العسكرية والسياسية في عهد يوسف بن تاشفين.
أدخل الموحدون المغرب الإسلامي في أتون حرب أهلية مدمرة، اختلط فيها الدوافع الدينية بالسياسية بالقبائلية، وسقط ضحيتها عشرات أو مئات الآلاف. سيموت ابن تومرت في منتصف تلك الحرب الشعواء التي ستتصل لأكثر من ربع قرن، ولن يرى حصادها الذي سيتم على يد أقوى تلامذته عبد المؤمن بن علي، والذي أتمّ سحق المرابطين، واستولى على عاصمتهم مراكش عام ٥٤١هـ، ثم تحولت دولة الموحدين على يده إلى مملكة يتوارثها أبناء عبد المؤمن.
سيبدأ عبد المؤمن بضم الأندلس بعد سنوات إلى دولته، بعد أن اقتطع منها مسيحيو الشمال ما استطاعوا مستغلين الفتنة العارمة التي ضربت المغرب والأندلس نتيجة حرب الموحدين ضد المرابطين، وبعد أن بدأ التوازن السياسي والعسكري والسكاني يختل إلى غير صالح الوجود الإسلامي بالجزيرة، والذي سيتلقى في القرن السابع الهجري أعنف الضربات بخسارة القواعد الأندلسية الكبرى، ثم الضربة القاضية أواخر القرن التاسع الهجري بسقوط غرناطة، آخر حبات العقد الفريد.