يمتلئ عالمنا في ظل الرأسمالية العالمية بالمفارقات الغريبة التي تتركنا في حيرة من أمرنا، ونظنها تعاند المنطق للوهلة الأولى. من تلك المفارقات وجود أكثر من 800 مليون شخص يعاني من المجاعة حول العالم، في الوقت الذي يعاني فيه 1.9 مليار آخرين من الوزن الزائد، منهم 650 مليون يعانون من البدانة، حسب منظمة الصحة العالمية.
قد تظن أن المجاعات تقع في الدول الفقيرة التي تعاني من الاضطرابات السياسية والاجتماعية، في حين أن البدانة تعاني منها الدول الغنية التي تمتلك فائضًا في الطعام، لكن ليست هذه الحقيقة الكاملة. فبينما تعاني الدول الفقيرة من المجاعات، تعاني تلك الدول نفسها من البدانة أيضًا وبنسب تعادل أو تفوق الدول الغنية، وهو ما تلعب فيه الولايات المتحدة دورًا خطيرًا.
في إحصائية قام بها مركز السيطرة على الأمراض الأمريكي (CDC) عام 2018، وجد أن نسبة انتشار البدانة وسط الأمريكيين بشكل عام قد وصلت إلى 42.4%، وبلغت تلك النسبة 40% وسط البالغين من سن 20 إلى سن 39 عامًا، في حين وصلت إلى 44.8% وسط الفئة العمرية من 40 إلى 59 عامًا، وإلى 42.8% وسط أولئك من سن 60 فما فوق، ما يجعل الولايات المتحدة صاحبة أعلى نسبة بدانة بين دول منظمة التعاون الاقتصادي والتنمية «OECD»، فما الذي أدى إلى ذلك؟
الحمية الغذائية الأمريكية.. من أسوأ الأنظمة الغذائية حول العالم
في كتابها الصادر عام 2012 بعنوان: «لماذا السعرات الحرارية مهمة: من العلم إلى السياسة»، توضح الدكتور ماريون نسلة أستاذة التغذية والدراسات الغذائية بجامعة نيويورك أن الأمريكيين يأكلون سعرات حرارية أكثر من اللازم بكثير، وهو ما يجعل الحمية الغذائية الأمريكية من بين أسوأ الأنظمة الغذائية في العالم.
يتناول الفرد الأمريكي حاليًا أكثر من 3600 سعرة حرارية في المتوسط كل يوم، بزيادة قدرها 24% عن عام 1961، حين كان متوسط السعرات الحرارية المستهلكة للفرد في حدود 2880 سعرة. ويبلغ المتوسط المقبول للسعرات الحرارية في اليوم عدد 2500 سعرة حرارية للرجال و2000 سعرة للنساء.
لكن السعرات الحرارية لا تخبرنا بكل شيء، إذ إن الطريقة التي يستهلك بها الأمريكيون ذلك الكم من السعرات مهمة أيضًا. هناك طريقتان لزيادة الوزن، الأولى: هي أن يأكل الشخص أطعمة غنية بالسعرات الحرارية، والثانية: أن يأكل كل شيء بكميات كبيرة سواء أطعمة أو مشروبات. ويفضل الأمريكيون اتباع الطريقتين معًا! خصوصًا مع توافر الوجبات السريعة والمشروبات الغازية بكل مكان في الولايات المتحدة، ما يفسر سبب كونهم من أكثر الشعوب بدانة في العالم.
البدانة.. السبب الأول للوفاة في الولايات المتحدة والعالم
حسب مركز السيطرة على الأمراض الأمريكي، فإن البدانة تسبب أضرارًا للصحة العقلية وتؤدي إلى تردي جودة الحياة، كما أن ما يترتب عليها من أمراض مثل السكر وأمراض القلب والسكتات الدماغية وارتفاع ضغط الدم وأنواع من السرطان تعد مسئولة عن أكبر عدد وفيات في الولايات المتحدة وفي العالم كل عام.
تؤدي البدانة أيضًا إلى أضرار اقتصادية واجتماعية بالغة، إذ حسب تقرير أعدته مجلة «فوربس» الشهيرة، فإن البدانة في الولايات المتحدة تزيد من تكاليف الشخص البدين بمبلغ قدره 1861 دولارًا كل عام، بإجمالي قدره 170 مليار دولار سنويًا على مستوى البلاد.
لكن الغريب في الأمر أنه بعد كل تلك المشكلات الداخلية للولايات المتحدة فيما يتعلق بالبدانة، تبدو غير كافية كي تصب تركيزها عليها، إذ تستمر الولايات المتحدة وشركاتها الكبرى في تصدير البدانة إلى دول العالم بغرض الربح، وفرضها عليهم بالقوة في أغلب الأحيان.
الاقتصاد وسيلة للإجبار على البدانة.. جزر الساموا مثالًا
تقع جزر الساموا في أقصى جنوب المحيط الهادئ بجوار أستراليا، ويصل عدد سكانها إلى 250 ألف تقريبًا، أغلبهم من أصول إثنية. وقد منعت حكومة الساموا في عام 2007 استيراد مؤخرات الديوك الرومية من الولايات المتحدة في محاولة منها للتقليل من الأمراض الناتجة عنها، وتوصف مؤخرات الديوك الرومية التي يتخلص منها المواطن الأمريكي بعد أن يشتري ديكًا روميًا في عيد الشكر كما جرت العادة، بأنها أجزاء مليئة باللحم وتصدر إلى الدول الفقير، لكن القرار لم يمر دون غضب أمريكي.
حسب دراسة أجرتها المؤسسة الوطنية الأمريكية للصحة عام 2017، تنتشر الأمراض غير المعدية وسط شعب الساموا بنسب هي من الأعلى حول العالم، وتعود في أغلبها إلى استهلاكهم مؤخرات الديوك الرومية. فمثلًا، وصلت نسبة انتشار مرض السكر وسط الشعب إلى 20%، فيما وصلت البدانة إلى 53% وسط الرجال و77% وسط النساء.
تمثل الغضب الأمريكي في إجبار حكومة الساموا على إزالة المنع الذي فرضته على استيراد مؤخرات الديوك الرومية، وذلك بتعليق طلب الأخيرة للانضمام إلى منظمة التجارة العالمية عام 2011، ومنذ ذلك الحين جرت مناقشات عديدة حول دور الاتفاقيات الاقتصادية في تدهور الصحة العامة للشعوب، والدور الذي تلعبه الولايات المتحدة في ذلك.
حين رضخت الصين لعملاق المياه الغازية
مع نهاية فترة التسعينيات وبداية الألفينيات، اجتمع العاملون بمجال الصحة العامة على اعتبار المشروبات الغازية سببًا رئيسيًا لانتشار البدانة في العالم، وهو ما أتبعته الحكومات المختلفة بسياسات تحد من استهلاكها من قبل السكان، ما أدى إلى تقليل أرباح شركات كبرى مثل كوكاكولا وبيبسيكو، وزيادة غضبها.
عام 2015، نشرت صحيفة «نيويورك تايمز» الأمريكية سلسلة من التقارير كشفت فيها كيف تلاعبت شركة كوكاكولا بالأبحاث العلمية في الولايات المتحدة، لمحاولة دفع السردية القائلة بأن الرياضة يمكنها أن تلغي تأثير المشروبات الغازية على الصحة من حيث البدانة والأمراض المترتبة عليها.
أما في الصين، فحسب بحث استقصائي قامت به باحثة بجامعة هارفارد تدعى سوزان جرينهالف، فإن شركة كوكاكولا قد بثت الرسالة المشوهة نفسها إلى الحكومة والشعب الصينيين، وذلك عن طريق مؤسسة عالمية غير ربحية تدعى «ILSI»، أنشأها إداري بشركة كوكاكولا يدعى أليكس مالاسبينا في عام 1978، وتعتبر «ILSI» وسيطًا بين الحكومة والأكاديميين وأرباب الصناعة في أي دولة تعمل بها، وتوفر البيانات العلمية لصانعي القرار فيما يتعلق بالتغذية والأمن الغذائي والأمراض المتعلقة بالتغذية، وتتلقى تمويلها من مجموعة من عمالقة الصناعات الغذائية مثل كوكاكولا وبيبسيكو ونستله وماكدونالدز وغيرهم.
استطاعت سوزان جرينهالف في بحثها أن توضح كيفية تغير السردية الحكومية في الصين منذ عام 1999 إلى عام 2015. فبعد أن كانت السردية تركز على التغذية الصحية باعتبارها حلًّا ناجعًا لمواجهة البدانة، انتقل التركيز إلى النشاط البدني والرياضة، وهو الموقف الذي تتبناه شركة كوكاكولا مع شركات التغذية الأمريكية الأخرى.
أطفال المكسيك يشربون المياه الغازية بدلًا عن المياه
تعد المكسيك تجسدًا مذهلًا وخطيرًا لسياسات الولايات المتحدة الاقتصادية والغذائية في دول العالم، إذ حسب تقرير نشرته منظمة التعاون الاقتصادي والتنمية «OECD»، ارتفع معدل البدانة في المكسيك من حوالي 20% في عام 1996 إلى 73% حاليًا! ليس ذلك فحسب، وإنما يعاني أكثر من 34% من الشعب المكسيكي من البدانة المفرطة، وهي أعلى درجات البدانة. لكن المأساة الحقيقية هي ارتفاع معدل البدانة بين الأطفال من 7.5% عام 1996 إلى 15% عام 2016.
يقل استغرابنا من تلك الإحصائيات الخطيرة حين نعرف أن المكسيك هي أكبر مستهلك للمياه الغازية في العالم، ما يسبب أزمة تفشي للبدانة ومرض السكري عبر البلاد، حتى أنه في بعض القرى المكسيكية تتوافر المياه الغازية أكثر من المياه العذبة، خصوصًا في مدارس الأطفال. وفي بلدة تشياباس المكسيكية، وهي الأفقر في البلاد، يستهلك سكانها لترين من المياه الغازية في المتوسط كل يوم، حتى أنهم يستخدمونها في العلاج ظنًا منهم أن لها قدرة شفائية ما.
حسب تقرير نشرته صحيفة «نيويورك تايمز»، فإن شركة كوكاكولا تستهلك مصادر المياه العذبة في البلاد لصالح إنتاج مياهها الغازية، وهو ما يؤدي إلى عجز المياه في مناطق مكسيكية بعينها، مثل بلدة سان كريستوبال.
تمتلك شركة «Femsa» المكسيكية حقوق تعبئة وبيع المياه الغازية من شركات مثل كوكاكولا وبيبسيكو في المكسيك وأمريكا الجنوبية، وهي تستمد قوتها من اتفاقية عرفت باسم «NAFTA»؛ أي اتفاقية التجارة الحرة بين دول أمريكا الشمالية. وتهدف تلك الاتفاقية إلى تسهيل التجارة بين دول أمريكا الشمالية الكبرى؛ الولايات المتحدة وكندا والمكسيك، وذلك بإزالة التعريفات الجمركية على التجارة بين البلدان الثلاثة وتسهيل الاستيراد والتصدير.
وقعت تلك الاتفاقية بين البلدان الثلاثة عام 1994، وهي السنة التي تغيرت بعدها معدلات البدانة في المكسيك إلى الأسوأ بشكل مطرد. وفي الوقت الذي كانت الولايات المتحدة فيه تخنق المكسيك بطوق شركات المياه الغازية، شكلت المكسيك ثلاثة أرباع واردات الولايات المتحدة من الفواكه والخضروات الطازجة، ويا لها من مفارقة.