كانت الولايات المتحدة الأمريكية بمثابة عالم جديد للأوروبيين، وقد ازدادت السفن الراحلة من أوروبا إلى أمريكا مع مطلع القرن السابع عشر، والتي امتلأت بالتجار الذين أراد بعضهم العيش في أمريكا، والكثير منهم جاء للمعاملات التجارية.
في البداية استخدم التجار عملات بلادهم للمقايضة بالبضائع، وصار الأمر أكثر تنظيمًا مع ظهور الدولار في أواخر القرن الثامن عشر، لكن الدولار لم يدخل تداولًا كاملًا حتى الحرب الأهلية الأمريكية في القرن التاسع عشر، حتى ذلك الحين كانت العملات التي يجري بها التداول مثيرة للدهشة إلى أقصى حد.
قطعة الثمانية المعترف بها في وجود الدولار
اشتهرت العملات الفضية الإسبانية في جميع أنحاء العالم لقرون عديدة باعتبارها المعيار الذي تقاس عليه العملات الأخرى نظرًا لوزنها ونقائها الثابت، وأيضًا لإنتاجها في مستعمرات إسبانيا المترامية في العالم، ومن أبرز هذه العملات «قطعة الثمانية» وهو الاسم الذي اشتهر به الدولار الإسباني، والذي شق طريقه إلى أمريكا في وقت مبكر جدًا في القرن السادس عشر.
«قطعة الثمانية» عملة كانت متداولة زمن الإمبراطورية الإسبانية، كانت مصنوعة من الفضة قطرها حوالي 38 ميليمتر، وتساوي ثمانِية ريالات إسبانية؛ لذا سميت بالثمانية، وتداولها التجار كعملة قانونية في الأمريكيتين، ورغم أن البضائع كانت تُقدر رسميًا بالجنيه البريطاني، إلا أن الدفع كان بـ«قطعة الثمانية»، واستمرت العملة في السوق الأمريكي حتى منتصف القرن التاسع عشر رغم ظهور الدولار الأمريكي.
أجرى جون كوينسي آدامز – أصبح بعد ذلك الرئيس السادس للولايات المتحدة الأمريكية – استطلاعًا عن العملات النقدية المستخدمة بعد سك الدولار الأمريكي، وأذهل الرجل أنه بعد 30 عامًا من وجود الدولار الأمريكي بفئاته لا يزال الناس يستخدمون عملات أخرى ولا يعرفون قيمة الدولار الوطني، وقال في تقريره: «إذهب إلى نيويورك واعرض قطعة الثمانية، وسيأخذها المتجر أو رجل السوق مقابل شلن، احملها إلى بوسطن.. ستجدها تسعة بنسات.. بينما ظل السنت الخاص بنا القانوني، أمام الجماهير العظيمة من الناس، من أسرار الاقتصاد السياسي الخفي ومن أسرار الدولة».
من طوابع البريد إلى مذكرة المناقصة القانونية
في المراحل الأولى من فترة الحرب الأهلية اختار الجمهور التمسك بالعملات المعدنية بسبب قيمتها كمعدن ثمين، وكانت النتيجة نقص العملات المعدنية المتاحة للتداول، ولعلاج الوضع أصدر الكونجرس قانونًا باستخدام الطوابع البريدية وغيرها من الطوابع لدفع الديون إلى حكومة الولايات المتحدة.
ولكن هذا خلق نقصًا في الطوابع البريدية، ولإصلاح المشكلة الجديدة أصدر أوراقًا نقدية بفئات أقل من دولار واحد، كانت تعرف بـ«ملاحظات البريد» أو عملة البريد؛ لأن تصميماتها أخذت من قائمة طوابع البريد، لكن هذه العملات لم تلق الرواج المطلوب، لذا كان على الحكومة إيجاد حل أفضل، وهو إصدار أوراق أكبر في القيمة، وأكثر تداولًا.
لجأت الحكومة إلى إصدار عملات ورقية جديدة كنوع من دعم الاقتصاد، وأطلقت عليها عرفت أيضًا بـ«مذكرة المناقصة القانونية»، وعرفت شعبيًا باسم «العملة الخضراء» وهي أول عملة ورقية استخدمت على نطاق واسع في الولايات المتحدة.
كانت هذه العملة عبارة عن مناقصة قانونية لجميع الديون، العامة والخاصة باستثناء الرسوم على الواردات والفوائد على الدين العام، وهي قابلة للاستبدال بسندات الولايات المتحدة، وأيضًا قابلة للاسترداد بالقيمة الاسمية للمبلغ المستحق من قبل وزارة الخزانة، واتيحت العملة للتداول عام 1862، وتميزت بالختم الأحمر والرقم التسلسلي، واستمرت هذه العملة في التداول حتى عام 1971.
الكونتننتال.. «أوراق لا قيمة لها»
بمجرد اندلاع حرب الاستقلال الأمريكية، كان على الولايات تمويل حروبها ضد بريطانيا؛ لذا أصدرت عملة عرفت باسم «الكونتننتال»، أو العملة القارية عام 1775، وتعتبر هذه أول عملة فيدرالية أُصدرت في الولايات معتمدة من الكونجرس القاري، وسميت العملة باسم المجلس القاري الذي كان مسؤولًا عن إعلان الاستقلال، والذي كان يدير الحرب ضد بريطانيا.
خلفت حرب الاستقلال والتي خاضتها 13 ولاية متحدة في حالة فوضى مالية، وكانت الحرب أطول من المتوقع وباهظة التكلفة ويفسر بنيامين فرانكلين، أحد الآباء المؤسسين لأمريكا، الوضع قائلًا: «أصدر الكونجرس كمية كبيرة من الأوراق النقدية لدفع قيمة الملابس والسلاح وطعام الجنود وتجهيز سفننا، دون دفع ضرائب لمدة ثلاث سنوات، لقد حاربنا وهزمنا واحدة من أشد الأمم قوة في أوروبا».
كانت العملة القارية تنتظر عائدات الضرائب لتدعم نفسها في السوق، لكن تقلصت قيمتها بسبب عمليات التزييف، والتي خفضت من قيمتها الشرائية بسهولة، فصارت عملة لا قيمة لها، ولكن خلال هذه الفترة القصيرة للعملة ارتبطت للمرة الأولى قيمة العملة بقوتها الشرائية، كما يحدث اليوم.
بنك الأراضي.. حيلة أنعشت الاقتصاد وقتلت العملة
خلال النصف الأول من القرن 18 أنشأت العديد من الولايات بنوك أراض، كان الغرض منها إصدار ملاحظات ورقية مدعومة بأصول الأراضي، ويمكن للمواطنين الحصول على قروض باستخدام أراضيهم كضمان، ويأخذ ملاحظات ورقية من بنك الأراضي في المقابل، ويمكن للمقترضين سداد قروضهم، بالإضافة إلى الفائدة باستخدام النقود الورقية أو بالذهب أو الفضة، وتم تداول هذه الملاحظات في الاقتصاد المحلي كعملة.
كان هناك العديد من الفوائد لنظام بنك الأراضي، فقد ساهم في تعزيز التجارة، وكان مصدر دخل للولايات، فجمعت الولايات فائدة القروض كربح، ولاية بنسلفانيا مثلًا حصلت على ربح حوالي 2500 جنيه إسترليني سنويًا من مدفوعات الفائدة، وفي العديد من الولايات الأمريكية، استخدمت هذه الأموال لتغطية التكاليف اليومية للإدارة الحكومية.
رغم نجاح تجربة بنك الأراضي، إلا أن هذا النجاح كان جزئيًا، وساهم التضخم وقيمة الأرض في التأثير بشكل كبير على قيمة هذه الملاحظات المكتوبة، وبالتالي كانت هناك حاجة ملحة للعملات الورقية، والتي لم تكن مدعومة بأي حال من الأحوال في ملاحظات بنك الأراضي.
التبغ.. «حتى لا يطير الدخان»
كان التبغ المزروع منذ نهاية القرن السادس عشر المحصول الرئيس للولايات الجنوبية مثل فرجينيا وماريلاند، وفي عام 1642 أصبح التبغ هو العملة القانونية في فرجينيا، يمكن استخدامه لدفع الإيجارات، أو الغرامات، أو حتى لدفع ثمن البضائع المستوردة من أوروبا، وخزن التبغ في مستودعات كبيرة، ومنذ عام 1713، ظهرت ملاحظات التبغ؛ وهي النقود الورقية التي تصدرها هذه المستودعات مدعومة بكمية التبغ المحفوظة فيه.
نجح التبغ كعملة نقدية قانونية في الولايات الجنوبية، وكان يمكن أن يدفع الرجل مهرًا بالتبغ، وكذلك دفع الضرائب، ورواتب الحكومة المحلية للولاية، وحتى تناول وجبة دسمة قد يكون مقابلة القليل من التبغ، بل إنه في عام 1693 ساعدت ضريبة التبغ الخاصة في إنشاء كلية وليام وماري في ولاية فرجينيا، وهي واحدة من أولى مؤسسات التعليم العالي في الولايات الأمريكية.
شاب نظام التبغ كوسيلة للدفع مشكلتان هي أن التبغ له فترة صلاحية محدودة ونوعيته متغيرة، وحلت المشكلة في القرن السابع عشر بتحديد الصلاحية القانونية، أما المشكلة الثانية فتمثلت في إنشاء نظام تفتيش لمستودعات التبغ، والتي أعطت الصلاحية الحصرية للمفتشين، وبالتالي كان سعر التبغ وقيمة الملاحظات يمكن أن يختلف وفقًا للمفتش، وقد استمر التبغ وملاحظات التبغ كعملة نقدية، وظل قيد التداول حتى بعد منتصف القرن التاسع عشر.
أصداف الحلزون.. الهنود الحمر يفرضون أموالهم
«Wampum» هو نوع من الخرز تستخدمه قبائل الهنود الأمريكيين، ويشمل حبات قشر بيضاء مصنوعة يدويًا من صدف الحلزون الموجود في شمال المحيط الأطلسي، ويشمل أيضًا الخرز الأبيض والبنفسجي المصنوع من قواقع البطلينوس الموجود في الشمالي الغربي من المحيط الأطلسي.
استخدم الهنود الأصليون الـ«Wampum» كعملة، حيث جمعوا الأصداف ونظفوها وصنعوها حبات خزر، ثم علقوا الخرز على أوتار جلدية، لتشكل قلادات وأحزمة، ومنحوها للمستعمرين، وأخذه التجار منهم كبديل للمال، وفي عام 1637 أقرت المحكمة العامة في ولاية ماساتشوستس حبات «Wampum» عملة قانونية، وبعدها قبلت ولاية كونيتيكت «Wampum» كعملة في دفع للضرائب.
رغم نجاح «Wampum» كعملة في بادئ الأمر، إلا أنه واجه عدة مشاكل؛ أبرزها أنه لم يكن لها قيمة جوهرية، وبإمكان أي شخص جمع بعض الأصداف وإنتاج عملته الخاصة، ومع عدم وجود عملية صك مركزي، واختلاف جودة المنتجات مع ازدياد الطلب، تراجع «Wampum» كعملة بعد منتصف القرن السابع عشر، وأخر تبادل له كان عام 1701.