كان لإدراك واشنطن المتأخر، أن موازين القوى السياسية والاقتصادية والعسكرية بدأت تتجه نحو الشرق أي الصين وروسيا، وراء تشتت وتخبط قرارات إدارتها في التعامل مع القضايا الإقليمية، إذ قدمت إدارة الرئيس السابق دونالد ترامب صراعها مع الصين، واحتواء روسيا المتقاطعة مع النظام الأمريكي حينذاك في قضايا عدة، فيما رأت إدارة بايدن الحالية ضرورة ملحة في تقويض النظام الروسي، ومنعه من فرض نفوذه في أوروبا ومزاحمة واشنطن حول العالم، وتأجيل الصراع مع الصين حاليًا لعدم قدرتها على إزاحة بلاد العم سام من مكانتها الاقتصادية حتى مطلع العقد القادم، فضلًا عن تعاون الصين في خطة واشنطن للتحول للطاقة النظيفة.
وبالتزامن مع العملية العسكرية الروسية في الأراضي الأوكرانية، لإجهاض محاولات ضم كييف للاتحاد الأوروبي ومن ثمَّ حلف شمال الأطلسي (الناتو)، عاد مرةً أخرى الخوف الهستيري من الشيوعية، حتى بعد أكثر من 30 عامًا من انهيار الاتحاد السوفيتي، بالتزامن مع حشد العداء للفكر المناهض لأسلوب الحياة الأمريكي.
تاريخ لا بد منه لقمع «الدكتاتورية المحتملة»
«الثورة المضادة للثورة الأمريكية سارية المفعول، لم تعد اليوم منبوذة أو يتم تجاهلها، لأنها تلتهم مجتمعنا وثقافتنا، تدور حول حياتنا اليومية، ومنتشرة في كل مكان في سياساتنا ومدارسنا، ووسائل الإعلام والترفيه؛ إنها حركة هنا في كل مكان، أنت وأطفالك وأحفادك الآن مغمورون فيها، وتهدد بتدمير الأمة الأعظم أكثر من أي وقت مضى، إن الثورة المضادة أو الحركة التي أتحدث عنها هي الماركسية» – مارك ليفين، في مقدمة كتابه «الماركسية الأمريكية».
استهل الكاتب والمذيع والمحامي الأمريكي، مارك ليفين، كتابه «الماركسية الأمريكية» الأكثر مبيعًا في «قائمة نيويورك تايمز» لعام 2021، بإطلاق تحذيرات للمجتمع الأمريكي من اختراق «ضخم» للأفكار الشيوعية وصل لكل أرجاء بلاد العم سام حتى أعلى مستويات القيادة.
ولليفين كتب عدة يهاجم فيها ما يراه من أفكار تهدد نمط وأفكار الحياة الأمريكية الليبرالية، لكن كتابه حاز العام الفائت على كثير من الاهتمام والمتابعة، مستغلًا الزخم والانشقاق المجتمعي اللذَين أحدثهما ظهور دونالد ترامب بخطابه المتشدد حتى يوم إزاحته عن رأس الدولة.
الحملة التي يطلقها ليفين منذ سنوات وتماهى معها العديد من السياسيين، مثل ترافس ألين، الجمهوري من جنوب كاليفورنيا، في الثامن من مايو (أيار) 2017، حين صعد إلى قاعة مجلس الولاية وندد علنية بالشيوعية قائلًا: «السماح للمخربين والشيوعيين المعترف بهم بالعمل الآن في ولاية كاليفورنيا، هو إهانة مباشرة لأهالي كاليفورنيا الذين يدفعون الضرائب لتلك الحكومة».
وهاجم ألين مشروعًا لإزالة قانون في ولاية كاليفورنيا يمنع أعضاء الحزب الشيوعي من تولي وظائف حكومية في الولاية، ما دفع راعي المشروع عضو الجمعية الديمقراطية، روب بونتا، للتخلي عن المشروع خوفًا من رد الفعل العنيف ضده.
ولا تزال اللغة المعادية للشيوعية موجودة في العديد من الولايات الأمريكية، لكنها في كاليفورنيا أخذت منحى تصاعديًّا، إذ تلقى بونتا، على سبيل المثال «تهديدًا بالقتل وطالبته الجماهير بالعودة إلى الصين» بحسب وصفه في حواره مع جريدة الجارديان البريطانية.
وعلى الرغم من اعتراف الحكومة الأمريكية بوجود حالة من المغالاة في العداء ضد الشيوعيين حينها، فإن رواسب قد بقيت هناك؛ ألا وهي «رُهاب الشيوعية» عالقة في أذهان المواطنين الأمريكيين، إذ يجري استدعاء العداء التاريخي للشيوعية للعمل مع كل أزمة يمر بها المجتمع الأمريكي.
وتاريخيًّا كان أول مظهر رئيس من مظاهر معاداة الشيوعية في الولايات المتحدة، في عامي 1919 و1920، بقيادة المدعي العام ألكسندر ميتشل بالمر خلال الذعر الأحمر، والذي انتهى بإقرار قانون يتيح طرد الشيوعيين من الأراضي الأمريكية.
ثم حاول قانون هاتش في عام 1939، استهداف الشيوعيين العاملين في أماكن العمل العامة، ثم حظر توظيف العمال المنتمين تحديدًا للحزب الشيوعي الأمريكي، وفي وقتٍ لاحقٍ من ربيع عام 1941، جرى تمرير قانون آخر مناهض للشيوعية، القانون العام 135، الذي أجاز التحقيق مع أي عامل فيدرالي يشتبه في كونه شيوعيًّا وطرده من عمله.
مظاهرة شيوعية في أمريكا
وبعد الحرب العالمية الثانية، خشيَ مناهضو الشيوعية في الولايات المتحدة من انتصار النموذج السوفيتي على نظيره الأمريكي، وبالتالي يتحوَّل إلى تهديد مباشر للولايات المتحدة، وتركَّزت الدعاية حينها في إظهار مخاوف من استخدام الاتحاد السوفيتي، وجمهورية الصين الشعبية، سلطتهما لإجبار البلدان على الحكم الشيوعي، كما في أوروبا الشرقية، وكوريا الشمالية، وفيتنام، وكمبوديا، ولاوس، وماليزيا وإندونيسيا، وكان إعلان الرئيس الأمريكي، هاري ترومان، عن سياسته الخاصة بمحاربة الشيوعية ما يعرف بـ«عقيدة ترومان»، في 22 مايو (أيار) عام 1945، انتصارًا لأعداء الشيوعية.
وخارجيًّا اعتمدت الولايات المتحدة سياسة الاحتواء تجاه الشيوعية، وبالتالي الاهتمام بالوسائل الاقتصادية، إذ أرسل ترومان البنادق والمال، وليس الجنود، ثم اعتُمدت خطة مارشال التي بدأت في عام 1947، لكن دفع الحصار السوفيتي لبرلين الغربية عام 1948، الولايات المتحدة، إلى تبنِّي المزيد من السياسات العسكرية؛ إذ أدى الحصار إلى قيام الولايات المتحدة، وكندا، و10 دولٍ أوروبية، بإنشاء تحالف عسكري دائم هو منظمة حلف شمال الأطلسي «الناتو».
جيه إدجار هوفر
ولقيت قرارات الإدارة الأمريكية داخليًّا وخارجيًّا دعمًا على كافة الأصعدة، ففي 26 مارس (آذار) 1947، على سبيل المثال وقف مدير مكتب التحقيقات الفدرالي، جيه إدجار هوفر، أمام لجنة الأنشطة غير الأمريكية في مجلس النواب للتعبير عن آرائه حول الشيوعية، وقال هوفر حينها: «يعد الحزب الشيوعي للولايات المتحدة طابورًا خامسًا، إنه تنظيم أفضل بكثير مما كان عليه النازيون في البلدان المحتلة قبل استسلامهم».
كما بدأ سفير الولايات المتحدة في الاتحاد السوفيتي، جورج كينان، حملةً برر من خلالها سياسة «احتواء» الاتحاد السوفيتي في مقالٍ بعنوان «بواعث السلوك السوفيتي» ﻓﻲ يوليو (تموز) 1947، ليوسِّع كينان لاحقًا حملته ويتفرغ لمحاربة الأمريكان المشتبه في تأثرهم بالشيوعية، قبل اغتيالهم اجتماعيًّا من خلال جريدة «هجوم مضاد -Counterattack».
وشهد تعميق الحرب الباردة في الخمسينيات من القرن الماضي زيادةً كبيرةً في مناهضة الشيوعية في الولايات المتحدة، بما في ذلك الحملة المناهضة للشيوعية، والتي تُعرف باسم المكارثية، وفي تلك الحقبة جرى اتهام الآلاف من الأمريكيين، مثل المخرج تشارلي شابلن، بالشيوعية والولاء للاتحاد السوفيتي ليقعوا فريسةً لتحقيقات عدوانية من قِبل لجنة مجلس النواب للأنشطة غير الأمريكية.
انحسار «الحملات الصليبية» ضد الشيوعيين
«هناك قضية واحدة تبرز قبل كل شيء؛ قضية واحدة يهتم بها كل أمريكي، وهذه المسألة بكل بساطة هي: كيف نحافظ على السلام دون استسلام؟ الآن، عند تحديد كيفية تعاملنا مع هذه القضية، يجب أن نجد إجابةً عن سؤالٍ مهمٍ للغاية، ولكنه بسيط: مَن يُهدد السلام؟ من يُهدد الحرية في العالم؟ لا يوجد سوى تهديدٍ واحدٍ للسلام وتهديدٍ واحد للحرية: ذلك الذي تقدِّمه الحركة الشيوعية العالمية» – ريتشارد نيكسون
بتلك الكلمات افتتح نائب الرئيس الأميركي آنذاك، ريتشارد نيكسون، أولى مناظراته الأربع مع النائب في مجلس الشيوخ الأمريكي، جون أف كينيدي، في أول مناظرة رئاسية في تاريخ الولايات المتحدة الأمريكية، عام 1960، وشاهد تلك المناظرة التاريخية أكثر من 65 مليون مشاهد، مما أدَّى إلى تأثير كبير في نتيجة الانتخابات، لينتصر كينيدي بفارقٍ ضئيل على نيكسون.
ولم يتبنَّ كينيدي الديمقراطي في مناظرته خطابًا أقل حدة من نيكسون نحو الشيوعيين والشيوعية، بل كان اتهامه المباشر لنيكسون والإدارة الأمريكية هو الفشل في تقويض انتشار الشيوعية، قائلًا: «الحقيقة هي أن استطلاعات الرأي التي أجرتها وزارة الخارجية حول مكانتنا ونفوذنا في جميع أنحاء العالم قد أظهرت انخفاضًا حادًّا، لدرجة أن وزارة الخارجية لم ترغب في إطلاق سراح النتائج».

عمال أمريكيون يدعون للإضراب
وبالتزامن مع إتيان سياسة «الاحتواء» بنتائجها، وتقليل الخطر العسكري من السوفيت، كان الداخل الأمريكي يمرُّ بمرحلة تغيير بحسب دراسة «لمركز دراسات شمال غرب المحيط الهادئ بجامعة واشنطن»، انحسرت الحملات الصليبية ضد الشيوعيين بالداخل الأمريكي، بحلول أواخر الخمسينيات وأوائل الستينيات، وساعدت قرارات المحكمة العليا في تلك العملية.
وبالتزامن مع ذلك، «كان العامل الأكثر أهمية في تراجع الحملة ضد الشيوعية هو الشعور المتزايد بالأمن لدى الأمريكيين في هذه الفترة، بعد القضاء على الحزب الشيوعي الأمريكي في أوائل الخمسينيات من القرن الماضي، وبدا أن مطاردة العصابات المتبقية من الشيوعيين لا تستحق الجهد المبذول؛ علاوة على ذلك، فإن ارتفاع مستويات الدخل الشخصي خلال الخمسينيات والستينيات من القرن الماضي جعل العديد من الأمريكيين متفائلين بشأن المستقبل وأقنعهم بأن مجتمعهم مستقر وآمن»، وبحلول أوائل الستينيات من القرن الماضي، كان الاعتقاد في وجود مؤامرة شيوعية واسعة النطاق لتخريب الولايات المتحدة محصورًا إلى حدٍّ كبيرٍ في الجماعات اليمينية المتطرفة.
وبعد انهيار الاتحاد السوفيتي، جرى الإعلان عن العديد من السجلات مثل مشروع Verona، والتي أثبتت في الواقع، أن المدى الحقيقي للنفوذ السوفيتي داخل الولايات المتحدة كان محدودًا، وأن تجاوزات لا مبرر لها حدثت أثناء فترة المكارثية، ونتيجةً للاتهامات المبالغ فيها في بعض الأحيان إلى حدٍّ كبيرٍ، فَقَدَ العديد من المتهمين وظائفهم، وأصبحوا مدرجين في القائمة السوداء، على الرغم من إلغاء معظم هذه الأحكام في وقتٍ لاحقٍ.
الهلع من شبح الشيوعية
في كتاب ليفين الذي يساهم في إثارة حربٍ مفتعلةٍ ضد كيان وارى جثمانه الثرى، يعتقد ليفين أن «الوضع اليوم مريع في أمريكا؛ إذ يرتدي العديد من الماركسيين عباراتٍ مثل «التقدميين»، «الاشتراكيون الديمقراطيون»، «النشطاء الاجتماعيون»، و«نشطاء المجتمع»، ويأخذون مسميات جديدة لأن الأمريكيين معادون بشكلٍ علني لاسم الماركسية».
ويرصد ليفين في كتابه عددًا لا يحصى من المسميات التنظيمية متهمًا إياها باعتناق أفكار شيوعية مثل «حياة السود مهمة»، «انتيفا»، «الفرقة»، «تعزيز العدالة الاقتصادية»، «العدالة البيئية»، «المساواة العرقية»، و«الجنس والإنصاف».

نشطاء أمريكيون يتظاهرون ضد اليمين والنظام الرأسمالي
ويتطرق ليفين إلى المصطلحات التي يرى أنها مرتبطة بالبناء الماركسي، مدللًا على ذلك بالنقمة على النظام الرأسمالي غير العادل، والتي تتعارض معها «الثقافة الأمريكية السائدة» مثل «غير المنصفة»، و«العنصرية»، و«الجنسانية»، و«الاستعمارية»، و«الإمبريالية»، و«المادية»، و«النضال من أجل البيئة»، كل تلك المصطلحات يرى ليفين أنها ماركسية أو مرتبطة ببنائها الفكري.
ويرى أن «الغرض من كل ذلك هو الهدم والتمزيق وتفريق الأمة بألف سبب وبألف طريقة، وتثبيط معنويات الجمهور وإحباطه، وفي النهاية تدمير الجمهورية الأمريكية والرأسمالية».
ومع ذلك، فإن ضعف عرض ليفين وحججه لا ينبغي أن تحجب قوة رسالته، إذ تنتمي الماركسية الأمريكية إلى تقليد أطلق عليه الاقتصادي والفيلسوف، ألبرت هيرشمان «أطروحة الخطر» القائلة بأن «التقدم في المجتمعات البشرية يمثِّل إشكالية كبيرة لدرجة أن أي «حركة تقدمية» مقترحة حديثًا ستسبب ضررًا خطيرًا، وبالنسبة لليفين، «يكمن مجد الولايات المتحدة في الجمهورية الرأسمالية التي أسسها الآباء المؤسسون، وكل «الماركسيين» بغض النظر عن اختلافاتهم السطحية، يشغلهم طموح «تدمير المجتمع الأمريكي وفرض الحكم الاستبدادي».
إن «أطروحة الخطر» ليست الطريقة الوحيدة التي سعى بها المحافظون، في الماضي والحاضر، لمواجهة جاذبية احتضان اليسار للتقدم الاجتماعي، سواء من النوع الإصلاحي أو الراديكالي، وقد حدد هيرشمان «الانحراف» و«عدم الجدوى» على أنهما أنواع أخرى من الهجمات الخطابية، التي يشيع استخدامها من طرف اليمين على مر القرون: التغييرات التي يعدها الراديكاليون والليبراليون إرادة ضرورية، يدَّعي خصومهم الأيديولوجيون، إما أن تنتج عكس ما يرغبون فيه، أو تفشل ببساطة لتحقيق أهدافهم السامية، مثل تكافؤ الفرص أو النتائج.