كانت المدن الأندلسية تسقط تباعًا في أيدي «النصارى»، وتتحول إلى المسيحية، وصار من بقي من أهلها أقليَّة مسلمة تعيش تحت الحكم الإسباني، وكانت مجريات الأحداث في مملكتي قشتالة وأراجون تُنذر بقرب سقوط المعقل الأخير – غرناطة – في أيدي النصارى بعد أن توحدت المملكتان بزواج فرناندو ملك أراجون من إيزابيل الكاثوليكية ملكة قشتالة. 

أُخمدت الانتفاضات والثورات التي قام بها المسلمون في أغلب المدن الأندلسية، وتفرغت السلطات للمملكة الباقية في الجنوب، لتُحقق هدفها في محو الوجود الإسلامي من شبه الجزيرة الإيبيرية، وكان الداخل في غرناطة يموج بالصراعات بين أمراء بني نصر، الذين لم توحدهم سوى اللحظات الأخيرة، حين بدا ضعفهم واضحًا ونهاية حكمهم وشيكة وحتمية.

في هذه الأثناء أرسل الأندلسيون استغاثات إلى المغاربة، أقرب جيرانهم، لكنهم لم يتلقوا أي رد منهم، فقد كان المغاربة في وضع مفكك حتى إن الملك فرناندو أرسل قواته لتحتل السواحل المغربية، وانشغل مسلمو شمال أفريقيا بالحرب الصليبية ضدهم، فتطلعت عيون الأندلسيين نحو الشرق، يستغيثون ويطلبون العون. 

مساعدات المماليك.. ودٌّ ودعاء ومال أحيانًا

أخذت أخبار الأندلس تتوالى إلى المشرق  فتهز جنباته. في البداية كانت الرسائل شعرًا يخاطب به الشعراء ملوك المسلمين، لكن الخطر كان يقترب بحيث فزع الأندلسيون إلى سلاطين المسلمين في الشرق يرسلون الوفود والسفراء وينتظرون مساعدة عسكرية عاجلة.

كانت أهم السفارات الغرناطية تلك التي أُرسلت إلى السلطان الظاهر جقمق في مصر تستنجد به، وقد اعتذر السلطان عن إرسال جنوده لبُعد الأندلس عن مصر، وقال إنه سيرسل إلى السلطان العثماني لطلب نجدة الأندلس، وحين طلب الوفد المساعدة بالمال وعدهم خيرًا، لكنه لم يفِ بوعوده، ولم يعد الوفد الغرناطي إلى بلاده سوى ببعض عبارات الود والدعاء. 

وصلت استغاثة أخرى إلى السلطان الظاهر خشقدم عام 868 هـ يستنجد فيها سلطان غرناطة من ضربات ملك قشتالة، وقد استجاب السلطان المملوكي فقدم العون المادي لأهل غرناطة، لكن الفتن الداخلية التي كانت مشتعلة بين بني نصر في ذلك الحين استنزفت البلاد ومضت بها نحو النهاية.   

لاحقًا في عام 892 هجريًّا، وصلت سفارة إلى السلطان الملك الأشرف سيف الدين قايتباي تستنجد به من النهاية التي صارت وشيكة جدًّا، وكان أبو عبد الله الصغير – الذي أصبح بعد ذلك ملك غرناطة الأخير – في أسر الملكين الكاثوليكيين آنذاك.

قايتباي للأندلسيين: «أعتذر عن نصرتكم»

كان لمصر حينها هيبة بين دول أوروبا نظرًا لجهادها الطويل ضد الصليبيين والمغول، لكن جاء رد الملك الأشرف يقول: «إني لا أعتذر عن نصرتكم ببعد الشقة، وطول المسافة. ولكني أعتذر بغياب العساكر التي لم يبق فيها بمصر اليوم غير أقل القليل، بينما يرابط أغلبها في حلب منذ عامين لقتال ابن عثمان ورد عاديته عن أطراف المملكة».

تاريخ

منذ 3 سنوات
بييترو مارتيري.. المؤرخ الإسباني الذي أثنى سلطان مصر عن القصاص لمسلمي غرناطة

حاول الملك الأشرف ممارسة الضغط الدبلوماسي فأرسل إلى البابا وملوك النصرانية يذكرهم بأن النصارى تحت رعايته في القدس يتمتعون بالحرية، بينما المسلمين في حمايتهم يعانون من التنكيل، وهدَّد بأن يلقى نصارى القدس المعاملة التي يلقاها المسلمون إذا لم يكف ملك قشتالة عن التنكيل بهم، لكن البابا والملكين الكاثوليكيين معه لم يستجيبوا لهذه التهديدات ومضوا في خطتهم.

الحقيقة أن عوامل مختلفة اجتمعت على المماليك في مصر لتحول دون إمكانية تقديم العون للأندلس، فإلى جانب طول المسافة بين البلدين، لم يكن أسطول مصر من القوة بحيث يمكنه مواجهة الأساطيل المسيحية في إسبانيا والبرتغال، بل إن سفن القباطنة الأراجونيين والقبارصة كانت تهدد سواحل مصر والشام، وإلى جانب ذلك كان الخطر المغولي ما يزال يهدد البلاد بين الحين والحين، ولم يكن الداخل مستقرًّا؛ فقد تفاقمت الخلافات والمؤامرات في قصور الحكام حول العرش، وثار العربان في جنوب مصر وانهار الاقتصاد عدة مرات.

وإلى جانب ذلك كله كان سلاطين المماليك يتوجسون من قوة الدولة العثمانية الآخذة في التنامي، وقد تحققت مخاوفهم بالفعل وسقطت دولة المماليك في أيدي العثمانيين بعدها بسنوات عام 1516م، وكانت تفاصيل أخرى تزيد الأمور تعقيدًا فبُعد المسافة – مثلًا – كان يؤدي لأن تصل السفارات إلى المشرق متأخرة فيما كانت أرض المعركة في الأندلس تتغير باستمرار. 

الدولة العثمانية.. قوة عسكرية منشغلة بالفتوحات الأوروبية

في عام 1477 م وجَّه الأندلسيون سفارة إلى إسطنبول يطلبون تدخل السلطان العثماني محمد الفاتح لإنقاذهم، وكان ذلك في حكم المستحيل لانشغاله بالفتوحات الأوروبية، وبسبب التحالف الصليبي الذي هدد دولته. 

فها نحن يا مولاي نشكو إليكم  ***  فهذا الذي نلناه من شر فرقة

عسى ديننا يبقى لنا وصلاتنا *** كما عاهدونا قبل نقص العزيمة 

*من استغاثات أهل الأندلس بالدولة العثمانية

بعد سنوات كانت الدولة العثمانية تتقدم في أوروبا الشرقية، وتغير مصائر الأمراء الأوروبيين، مما أكسبها وزنًا سياسيًّا وعسكريًّا في سائر أنحاء أوروبا، وأغرى الأندلسيين بطلب النجدة.

كان السلطان العثماني بايزيد الثاني أكثر استقرارًا على عرشه – مقارنة بالمماليك في مصر – حين وصلته رسالة استنجاد طويلة من الأندلس عام 1487م يشكو له فيها أهلها ما يحيط بهم من أخطار، لكنه لم يتمكن من إرسال قواته بسبب النزاع مع شقيقه، وما تبعه من تحركات في أوروبا وتكون تحالف صليبي آخر قاده البابا، ودخلت فيه جمهورية البندقية والمجر وفرنسا، واشتعال حرب تنازلت فيها الدولة العثمانية عن بعض ممتلكاتها. 

محاولة توحيد القوى

تذكر المصادر الأوروبية دون العربية محاولة السلطان بايزيد تقديم المساعدة بالاتفاق مع السلطان الأشرف في القاهرة، بحيث تتوحد الجهود لمساعدة غرناطة، وجرى الاتفاق على أن يرسل بايزيد أسطولًا على سواحل صقلية التابعة لمملكة إسبانيا، ويرسل السلطان الأشرف قواته من ناحية أفريقيا، وبالفعل أرسل السلطان بايزيد أسطولًا إلى الشواطئ الإسبانية بقيادة كمال رايس، لتهديد إسبانيا، وشجع القراصنة العثمانيين فالتحقوا بالأسطول ودخلوا في خدمته.

كان ذلك عام 1489م، واستطاع الأسطول قصف دخول المياه الإسبانية وقصف عدة مواقع من بينها موانئ أراجون، والاستيلاء على ميناء مالقة الذي كان الإسبان قد استولوا عليها، قبل أن يعود إلى مضيق جبل طارق ويسير نحو الشواطئ الفرنسية، ويعود لقصف السواحل الإسبانية مرة ثانية، ثم يعود إلى إسطنبول، لتسقط غرناطة بعد شهور من عودة الأسطول.

Embed from Getty Images

لم تتوقف الرسائل من أهل الأندلس في السنوات التي تلت سقوط غرناطة، أرسل الموريسكيون يطلبون المساعدة، إلى جانب ما كانوا يقومون به من انتفاضات وثورات، وحتى من انتقل منهم إلى شمال أفريقيا لم يتوقف عن الاستغاثة، واستمرت الاتصالات مع سلاطين دول الإسلام.

فأرسلوا يستغيثون بالسلطان قنصوة الغوري الذي رد بإرسال وفد إلى إسبانيا يهدد فيه بأن يجبر المسيحيين من رعاياه على الدخول في الإسلام قسرًا إذا لم تحترم معاهدة تسليم غرناطة، فأوفدت إسبانيا عام 1501 م بييترو مارتيري رئيس كاتدرائية غرناطة ليقنع السلطان الغوري بأن للموريسكيين حقوق الإسبان نفسها.

وإن زعموا أنا رضينا بدينهم *** بغير أذى منهم لنا ومساءة

فسل وحرا عن أهلها كيف أصبحوا *** أسارى وقتلى تحت مذلة ومهنة

كما أرسل الموريسيكون إلى السلطان سليمان القانوني عام 948 هـ يحكون معاناتهم. ومع تزايد النفوذ الإسباني في السواحل المغربية طلبوا المعونة تحديدًا بإرسال المجاهد خير الدين باشا إلى الجزائر لينصر أهله، وكانت الجزائر هي الحصن الذي يلجأ إليه الموريسيكون. 

وحاولت الدولة العثمانية مساعدتهم بوسائل عديدة، فنسقت مع ملك فاس في عام 1573 م للدفاع عن السواحل ومساعدة الموريسكيين ممن رحلوا عن بلادهم ولجأوا إلى بلاد المغرب، ورغم تخوف كل منهما من الآخر فإن الملوك اتفقوا على هذا الجانب وساعدوا الموريسكيين.

وهكذا صارت الأمور نحو هجرة كثير من الموريسكيين إلى أراضي الشرق ووجدوا هناك ترحيبًا من السلطات وتعاطفًا من الشعوب، وبقي من بقي منهم في إسبانيا تتغير أحوالهم وتضيق معايشهم، وظلت المساعدات إن توفرت، تخفف حدة ما يلاقون أحيانًا لكنها لا تقدم مساعدة حقيقية تغير مجريات الأحداث.

تاريخ

منذ سنتين
هذا ما فعله الإسبان في مقابر حكام الأندلس وأهلها

المصادر

تحميل المزيد