أعلن الرئيس الفرنسي، إيمانويل ماكرون منذ أيام، عن تكريم عدد من المواطنين الجزائريين، ومنحهم رتبة «فارس» وهي أعلى وسام في الدولة لستة مواطنين جزائريين؛ وهي المسألة التي حولت أنظار الكثيرين إلى خلفية هذا التكريم وأسبابه.
لم يكن هذا الامتداح الفرنسي الرسمي في ضوء مساهمة علمية علماء جزائريين مرموقين في فرنسا، بل لمواطنين جزائريين قاتلوا لصالح صفوف الجيش الفرنسي ضد بلادهم خلال حرب تحرير الجزائر بين عام 1954 إلى 1962، ممن استقبلت البلد الأوروبية منهم نحو 69 ألف عنصر؛ ليستقر بهم المقام داخل فرنسا بعد تعرض أغلبهم لحوادث انتقادمية في الجزائر على خلفية أدوارهم ضد بلادهم.
يحاول التقرير التالي التعرف على طبيعة المهام التي نفذها آلاف المواطنين الجزائريين لدولة فرنسا خلال فترة استعمار الدولة العربية، والمساعي الفرنسية الرسمية لحمايتهم عبر منحهم حق الإقامة في مدنها، والضغط على الحكومة الجزائرية لاستصدار تشريعات قانونية تضمن حمايتهم والسماح لهم بزيارة بلادهم.
بعد 56 عامًا.. أين ذهب الجزائريون الذي أرادوا بلادهم «فرنسية»؟
بعد مرور ما يقرب من 56 عامًا على نهاية الاستعمار الفرنسي للجزائر؛ لا يزال مهدي بن سعد (87 سنة) حاسمًا بشأن صواب موقفه في اختيار جبهة الجيش الفرنسي للقتال معها ضد جيش وطنه خلال حرب تحرير الجزائر بين 1954 و1962؛ فهو يبرر فعلته تلك بحكايات حول تكبده خسائر كبيرة من جانب الثوار الجزائريين، ما دعاه إلى القتال مع الجيش الفرنسي بحثًا عن النجاة ومصلحته التي جعلته يغادر بلاده على سفينة تتبع الجيش الفرنسي أثناء مغادرته للجزائر خوفًا من الملاحقة والتعرض للأذى من جانب المواطنين الجزائريين.

صورة من حرب التحرير الجزائرية
يعيش مهدي حاليًا هو وعائلته بمدينة مونبولييه (جنوب شرق فرنسا)؛ بعدما غادر موطنه الأصلي بمدينة تلمسان (غرب الجزائر) على سفينة فرنسية تكتظ بالجنود الفرنسيين في نهاية مارس (آذار) 1962، إذ رست السفينة بميناء مدينة مارسيليا ليعيش هو وآلاف الجزائريين في مركز «لرزاك» للاجئين وسط ظروف معيشية صعبة.
لم يبق مهدي هو وآلاف غيره من الجزائريين طويلًا داخل هذا المركز؛ إذ تنقل بين المدن الفرنسية حتى استقر بمدينة مونبولييه داخل منزل شيده له ولعائلته، ووفرت له السلطات الفرنسية عملًا في بلدية المدينة حتى سن التعاقد. يقول مهدي في مقابلة مع قناة فرانس 24: «اخترت القتال مع البلاد التي حمتني. لذا أقولها وأكررها دون خجل: تحيا فرنسا.. هذه البلد قدمت لي كل ما كنت أحتاجه من مساعدات ودعم».
حال مهدي ينطبق على نحو 60 ألف مواطن جزائري قاتل في صفوف الجيش الفرنسي ضد بلاده وغادرة رفقة الجيش الفرنسي والفرنسيين الذين ولدوا في الجزائر خوفًا من عملية انتقامية أو التعرض للأذى، بينما بقي في الجزائر نحو 70 ألف آخرين، حسب تقديرات بعض المؤرخين.
لا يختلف حال مهدي عن مواطنه الباش أغا بوعلام، الذي ولد عام 1906 لأبوين جزائريين تعود أصولهم إلى مدينة سوق أهراس الجزائرية؛ إذ اختار الدفاع عن وجود فرنسا العسكري داخل بلاده، وروج للفوائد العائدة على الجزائريين من وراء احتلال بلاده؛ قبل أن يتلقى تدريبًا عسكريًا في فرنسا؛ ليكون مؤهلًا للمشاركة في الحرب العالمية الثانية مع الجيش الفرنسي.
أدوار«الباش» لم تقف عند مساندة فرنسا في الحرب العالمية الثانية بل امتدت للمُشاركة معها ضد بلاده؛ حين شكل في منطقة الورسنيس أولى الكتائب التي قاتلت إلى جانب الجيش الفرنسي ضد «جبهة التحرير الوطني» ودعم هذه الكتائب بالمال والسلاح.
بعد نهاية الحرب؛ فر الباش إلى فرنسا في السفن التي نقلت الجنود المغادرين؛ ليلاقي ويلات من العذاب والإهمال وسط اتهامات لباريس بخداعه وإهماله بعدما اختار الوقوف معها ضد بلاده. لم تصل هذه المشاكل إلى تغيير قناعات الباش؛ إذ ظل مؤمنًا بصحة مواقفه، و«أن فرنسا ستظل وطنه الدائم لأن دماء الجزائريين الذين خدموا في الجيش الفرنسي اختلطت بدماء الجنود الفرنسيين».
تحول الباش بعد قيامه بكل تلك الأدوار لرمز للجزائريين الذين خدموا في الجيش الفرنسي وانتقلوا إلى فرنسا؛ ليصير قبره بعدما توفي عام 1982، مزارًا لهم، تقديرًا لدوره في تأسيس منظمة تقدم المساعدة لعائلاتهم، واستقبالهم في مخيمات خاصة لهم في «لارزاك» وفي «سان موريس» وفي «ريزفالت» جنوب فرنسا.
وقد استقر أغلب الجزائريين الذين خدموا في الجيش الفرنسي ضد بلادهم، ممن جرت تسميتهم باسم «الحركي»، في مناطق بجنوب فرنسا، بينما أعداد قليلة منهم اتجهت شمالًا وخاصة إلى مدينتي «روييه» و«روان».
معاشات استثنائية وقوانين لحمايتهم بأوامر فرنسية
لم تقف فرنسا مكتوفة الأيدي أمام تعرض المئات من هؤلاء الجزائريين الذين خدموا في جيشها ضد بلادهم لحوادث عنف، وتصريحات حول رفض دخولهم الجزائر من جديد هم وأبناؤهم، إذ سعت أكثر من مرة عبر محادثات رسمية للسماح لهم بالتنقل بشكل طبيعي بين فرنسا والجزائر دون استهدافهم.
الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون
ويتقاضى نحو 47500 مواطن جزائري معاشات مالية تتضاعف شهريًا، منهم 36 ألف محارب، و11 ألف أرملة محارب يتوزعون بين من تجندوا في الحرب العالمية الثانية، ثم حرب الهند الصينية وأخيرًا المجندون الذين خدموا الجيش الفرنسي. وتُميز الحكومة بين هؤلاء المواطنين الذين خدموا في الجيش الفرنسي خلال فترة الاحتلال تحت قوة الأمر الواقع وبين آلاف المواطنين ممن اختاروا بإرادتهم الحرة الانضواء تحت الجيش الفرنسي في حرب التحرير.
ولا يوجد أي قانون يمنع أبناء هؤلاء ممن خدموا لصالح الجيش الفرنسي من العودة إلى الجزائر على الرغم من الإشارات الدائمة من جانب المسؤولين الرسميين إلى أدوارهم في ارتكاب جرائم حرب.
وامتدت أساليب حمايتهم عبر تصويت مجلس الشيوخ الفرنسي (الغرفة العليا بالبرلمان الفرنسي) بالأغلبية الساحقة على مشروع قانون تقدم به اليمين الحاكم، في فبراير لعام 2012، والذي يهدف لتجريم إهانتهم داخل فرنسا، خصوصًا بعدما تعرضوا لإهانات متكررة من جانب عدد من منظمات المجتمع المدني وشخصيات رسمية تنظر لهم نظرة احتقار لأدوارهم.
واحدة من هذه الانطباعات تظهر في حديث الرئيس السابق لمنطقة لانجيدوك روسيون بجنوب شرق فرنسا، جورج فريش، في 11 فبراير (شباط) 2006، حين وصف هؤلاء بـ«أشباه الرجال»، بالإضافة إلى نظرة العديد من الساسة الفرنسيين التي تحمل كثير من مشاعر التحقير لأدوارهم.
وتحاول فرنسا تعويض تلك الفئة ممن يعيشون على أراضيها عبر تمويل بعض المشاريع الاقتصادية لتمكينهم من العمل فيها هم وأبنائهم، وكذلك تقديم مساعدات مالية لهم، فضلًا عن اقتراحات من جانب منظمات داعمة لما تعتبره حقوقهم لـ«تدريس الحرب الجزائرية» في المدارس الإعدادية والثانويات، وإبراز أدوارهم محاولة لتقديرهم معنويًا، ومحو الصورة الذهنية عنهم وسط المجتمع الفرنسي أنهم خانوا أوطانهم.
وتأخذ هذه القضية أبعادًا أكثر حساسية بسبب آثار الاستعمار الفرنسي للجزائر؛ إذ تتمسك الجزائر حكومة وشعبًا بمطلب الاعتذار الرسمي من فرنسا باعتبارها مستعمرة لبلادهم لعشرات السنوات، بينما تتجاهل فرنسا هذا المطلب، وتتمسك بقانونها في 23 فبراير 2005 المُمجد للاستعمار وسط مسعى لتحسين ظروف الجزائريين الذين خدموا بين صفوف الجيش الفرنسي ضد بلادهم.
«ممنوع دخول الجزائر»
أمام الأوضاع غير المستقرة للـ«حركي» داخل فرنسا على الرغم من حصولهم على بعض الامتيازات المالية من جانب السلطات الفرنسية؛ والمحاولات الدائمة من جانب الأحزاب السياسية الفرنسية لاستخدامهم سياسيًا في الانتخابات من أجل كسب أصواتهم؛ حاول البعض منهم الرجوع إلى بلادهم قبل أن تقف لهم السلطات الجزائرية بالمرصاد، وتمنعهم من دخول البلاد، وأعادتهم على متن الطائرات نفسها التي قدموا عليها دون أن يكون هناك تشريع رسمي يحظر دخولهم.
صورة لأحد الشوارع في الجزائر
وتعاود بعض منهم الرغبة في العودة إلى البلاد تحت دواعي التململ من الغربة، والنفور من الطبقية التي يتعامل بها المجتمع الفرنسي معهم، كحال رابح سلطاني، 60 عامًا، الذي عمل سائقًا لدى الجيش الفرنسي في مدينة «كاليه» في الشمال بعد فراره من بلاده؛ قبل أن ينتقل لوظيفة أخرى عامل تنظيف في الشرطة على مدار سبع سنوات.
استقر رابح في فرنسا، ونال الجنسية الفرنسية؛ لكن نظرة المجتمع الفرنسي له ولعائلته دومًا جعلته يفكر في العودة لبلاده خصوصًا في ظل انعكاس تلك النظرة على فرص العمل. حاول رابح العودة إلى بلاده عدة مرات؛ لكنها انتهت بالفشل دومًا بعدما منعته السلطات الجزائرية من دخول البلاد، وتبرأت عائلته منه واتهمته بالخيانة.
يتشابه حال رابح مع إبراهيم سعدوني، جزائري فرنسي من «الحركي» ممن أرادوا العودة للجزائر في عام 1975؛ قبل أن يتعرض للإيقاف في المطار، بعدما سأله ضابط المطار «هل أنت حركي خائن؟» فأجابه: «نعم أنا حركي لكنني لست خائن»، فسأله: «كم قتلت من إخواننا؟» فأجابه: «لم أقتل أحدًا»؛ أجاب الضابط: «كنت إذًا تحمل عصا وليس بندقية، لقد خنت وطنك ودينك واخترت الذهاب مع الفرنسيين واليوم تريد العودة إلى الوطن الذي أنكرته»؛ ليعود بعد ذلك إلى فرنسا على متن طائرة متجهة من فرنسا.
يتعامل جموع المواطنين الجزائرين مع مساعي «الحركي» بالعودة لبلادهم برفض تام؛ فلا تزال أدوارهم في حرب التحرير محل نقد كبير واتهام بالخيانة حاضرًا عند الجيل الجديد؛ فهم يرون «أن من لم يعترف يومًا بالجزائر لا حق له بزيارتها».
يظهر رد فعل الجزائريين الغاضب تجاه «الحركي» دومًا في المواقف التي تحاول السلطات الفرنسية الضغط على نظيرتها الجزائرية فيها، من أجل السماح لهم بالعودة، والتي كان آخرها ردة فعلهم الغاضبة والاستنكار من جانب الجزائر تجاه تكريم الرئيس الفرنسي ماكرون لعدد من أفراد الحركي، ومنحهم وسامًا تقديرًا لدورهم ومشاركتهم مع الجيش الفرنسي في حروبه.
من وجهة نظر بلال بوخضرة المحلل السياسي الجزائري في مقال منشور له بجريدة «القدس العربي»: «فإن عدم تمكن الحركيين أو منعهم من دخول الجزائر لن يجعلهم يموتون قهرًا أو حبًا أو عشقًا من أجل الجزائر التي باعوا أهلها بأرخص الأثمان؛ فمن اختار توجهًا يجب أن يتحمل تبعاته، ومن لم يعترف يومًا بالجزائر لا حق له بزيارتها».