لم يعش الأرمن في حياة رغيدة طيلة القرون السابقة، فالأرمني اعتاد على الهجرة والنزوح من بلد إلى بلد نتيجة الحرب، فبلدهم أرمينيا الذي يقع في آسيا الصغرى، حُكِم من إمبراطوريات أجنبية مختلفة عبر التاريخ، تارة وقع تحت الحكم الأخميني، وأخرى تحت حكم الإسكندر المقدوني، وكانت تسيطر عليه أحيانًا القوى المتاخمة، وفي منطقة تتصف بالصراع الدائم تكون الهجرات نتيجة حتمية، فالبشر يتنقلون طلبًا للأمن، لذلك تحرّك الأرمن دائمًا ليتخذوا ملجأ يقيهم نيران الحرب، فيستقروا بعيدًا عن مناطق النزاع، وأحد أهم هذه الملاجئ كانت سوريا.

وتضاربت الروايات في أصل الأرمن السوريين، فالرواية التي تتبناها المواقع الإعلامية وعامة الناس تقول إن الأرمن حضروا إلى سوريا في فترة ما تسميه أرمينيا بـ«الإبادة الأرمنية» أيام الدولة العثمانية حسب روايتها عام 1915، لكن على خلاف ذلك؛ تقول رواية أخرى أن وجودهم في سوريا يعود إلى العهد البيزنطي، إذ كان للأرمن إمبراطورية شاسعة، دامت ما بين عامي 321 قبل الميلاد وحتى 428 للميلاد.

سوريا وطن أم وطن بديل؟

ويشير الباحث السوري سنان ساتيك، أن العلاقات السورية مع الأرمن بدأت منذ توسع الإمبراطور دكران الثاني فيها (95-55 ق.م)، حاكم مملكة أرمينيا أيام حكم الملك ديكران الكبير (95-55 ق. م.)التي كانت واحدة من أقوى دول الشرق الأوسط، وكان الوضع في غاية التعقيد في سوريا حيث عمَّت البلاد فوضى سياسية حادة، وطالب كبار القوم السوريون بدعوة الملك ديكران الكبير ليحكم سوريا، فدخلها على رأس جيش ضم 300 ألف مقاتل، وتَتابع الوجود الأرمني في سوريا حتى وقعت معركة ملاذكرد (1071م) بين البيزنطيين والسلاجقة، فخسر الأرمن عاصمتهم وبدؤوا بالنزوح نحو الجنوب، حيث استقروا في كيليكية، وأنشؤوا إمارة فيها أقامت علاقات تجارية مع المدن السورية، كما انسلوا إليها وسكنوا فيها.

وبعد أن وصل نفوذها إلى شمالي سوريا، وهي الرواية التي تبناها الباحث السوري من أصل أرمني ليون زكي ويرأس مجلس الأعمال السوري الأرمني، وكشف في كتابه الصادر حديثًا بعنوان «تحدي البقاء» (أرمن سوريا 2011 -2018) عن انتمائهم إلى وطنهم سوريا، الذي استوطنوه في القرن الأول قبل الميلاد، متهمًا الماكينة الإعلامية بمحاولات تشويه صورة السوري الأرمني على اعتباره ضيفًا على الأرض السورية أو أن أرمينيا هي موطنه الأساس.

فسكن الأرمن في حلب السورية، وكلّس وغازي عنتاب ومرعش وأنطاكيا في تركيا التي اتخذوها واحدةً من العواصم الأربعة للإمبراطورية الأرمنية قصيرة العمر، ودام بقاء مملكتهم حتى وصول «الظاهر بيبرس» زعيم الدولة المملوكية، إلى أرمينيا في سنة 673هـ/1275م، والتي كانت بمثابة الضربة القاضية لهم بعد تحالفهم مع المغول – لمساهمة الغزو المغولي في تخفيض أعداد الأرمن- بقيادة هولاكو خان عام 1260.

سياسة

منذ 7 سنوات
13 مذبحة من القرن العشرين، هل كان بالفعل قرن المذابح المروعة بلا منافس؟

وأما عن كيفية وصول بعض الأرمن إلى مدينة دمشق، فرواية «الاتحاد الخيري الأرمني» في تقرير نشره، أن الدولة الأموية خلال الفتوحات الإسلامية وصلت إلى أرمينيا، وقامت بنقل بعض الأرمن بعد استعبادهم ليعملوا في مناطق أخرى من الدولة الأموية بما في ذلك مدينة دمشق.

الاستقرار في سوريا

بعد معركة «الدرب» التي انهى بها القائد بيبرس على الإمبراطورية الأرمنية ودخول المنطقة في صراعات عدة خلال القرن الخامس عشر، وجدت بعض العوائل الأرمنية في سوريا موطنًا للاستقرار ومناسبًا للسكن؛ كونها تتوسط الطريق إلى القدس التي يتخذونها مقصدًا لحجهم، وخلال السنوات التي قضاها الأرمن في سوريا عمدوا إلى تأسيس عدد من البيوت الروحية تحت مسمى «هوكيدون»، فضلًا عن تأسيس أول أبرشية أرمنية في مدينة حلب «بيرويا»، حيث تحولت هذه الدور إلى أديرة مرتكزة للوجود الأرمني، وصار لها رؤساء يقومون عليها، ففي أوائل القرن التاسع عشر كان لهم خمسة رؤساء دينيين في دمشق.

انتشر الأرمن في سوريا في مناطق دير الزور واللاذقية والقامشلي وحمص، إضافة إلى دمشق وحلب التي تُعدّ مركز ثقل وجودهم، حيث بلغ عددهم فيها 60 ألفًا تقريبًا، ولم يكن وصولهم دفعة واحدة، بل كان موجات بين حين وآخر، وكان آخر ذلك الهجرة الحديثة بسبب النزاع مع العثمانيين، وتقدر منظمات الشتات الأرمني أن هناك 150 ألف أرمني في سوريا، ويعيش معظمهم في حلب، ففي عام 2018، قال البروفيسور جون شوب إن السكان الأرمن في سوريا شكلوا حوالي 2% من إجمالي سكان البلاد، مما يجعلهم خامس أكبر مجموعة عرقية في البلاد.

من حافظ إلى بشار.. كيف اختلفت وجهة الأرمن السياسية؟

تأثر الأرمن بالنهضة الثقافية السورية في بدايات القرن الماضي، وأسسوا جمعيات ثقافية هدفت إلى التعريف بالنشاط الثقافي الأرمني ونشره بين الفتيان والفتيات الأرمن، مثل «جمعية الترقي الثقافية – جمعية هاماسكايين» في دمشق، التي عملت على الحفاظ على التراث الأرمني وإقامة نشاطات ثقافية متنوعة.

ومن هذه النقطة، عدّ الأستاذ عبد الأحد اسطيفو عضو الهيئة السياسية للائتلاف الوطني السوري المعارض ورئيس دائرته للعلاقات الخارجية خلال حديثه لـ«ساسة بوست»، سماح النظام السوري للأرمن بتمكين مجتمعهم الديني في سوريا من خلال إقامة العديد من الكنائس كـ«كنيسة الأربعين شهيدًا» في حلب، والتي تعود أصولها لعام 1491 -إذ اعتنق الأرمن المسيحية منذ بداية القرن الثالث للميلاد وتبع معظمهم الطائفة الأرثوذكسية-، وهو ما جعلهم أكثر تعاطفًا مع الأسد خلال الحرب الأهلية السورية، بحسبه.

وهم على عكس المكون الكردي في سوريا الذي حرمه النظام السوري على مستوى عقود من حقوقه المدنية، فيملك الأرمن العديد من المدارس والمعاهد الخاصة التي تدرّس اللغة الأرمنية، وكذلك لديهم العديد من المطبوعات والمجلات الصادرة بلغتهم، ويؤيد هذا روبرت كوبتاش، رئيس تحرير صحيفة «أغوس الأرمينية»، الذي قال إن الأرمن تحت حكم الأسد يشعرون بالأمان نسبيًا.

ويضيف اسطيفو «أنه قبل حكم الأسد الابن، سجن العديد من المعارضين الأرمن على عكس ما عليه الوضع الآن من انعدام تواجدهم على ساحة المعارضة السياسية، فالأرمن في سوريا انقسموا إلى ثلاث منهم من نزح إلى الخارج، ومنهم من اصطف بجانب نظام الأسد، ومنهم الرماديين، مع أن الأرمن لهم عدة أحزاب سياسية شكلت في عهد الأسد الأب أبرزها حزب «الطاشناق» و«اتحاد الثوريين الأرمن في سوريا»، وهو الممثل الأكبر للسوريين المنحدرين من أصول أرمنية، إلى جانب أحزاب أرمنية أخرى كحزب «الهنشاك» وحزب «الرامغافار»، وجميعها أحزاب غير معلنة وغير معترف بها في سوريا لكن لديها نشاطها».

يعتبر اسطيفو الأرمن السوريين في الحياة السياسية أقرب إلى اليسار، لكن لم يدخلوا المشهد السياسي السوري بشكل جلي، فالمعارضون لنظام الأسد تعدهم على أصابع اليد، وأغلبهم اعتقل وسجن، منهم فاهان كيراكوز و آرام كرابيت الذي سجن ثماني سنوات في سجن عدرا، وخمس سنوات في سجن تدمر العسكري والذي وصفه بأنه أقسى مرحلة مر بها، وله العديد من المؤلفات أصدرها إبان خروجه من السجن منها «يوميات في السجون السورية» و«الرحيل إلى المجهول»، وصف فيها رحلته في سجون سوريا في فترة شهدت الكثير من الاعتقالات، وذهب ضحيتها عشرات الآلاف من السوريين من مختلف الاتجاهات.

«من الجنون، أن تكون مع نظام الأسد»، بهذا التعبير يقول الفنان الأرمني السوري هراج ماكوشيان الذي فر إلى أرمينيا ليتجنب الالتحاق بالخدمة العسكرية، خلال حواره حول الآفاق المتاحة للأقلية الأرمنية في سوريا، وحول تجربته مع نظام الأسد الذي لا يراه سوى ذاك الشخص الجشع المتعطش للسلطة هو وعائلته، التي تحكم سوريا منذ 60 عامًا، واصفًا الأرمن الذين يؤيدون نظام الأسد معتقدين في دعايته بحماية الأقليات بأنهم «أغبياء».

بعد الثورة.. العودة إلى أرمينيا أم البقاء في الوطن؟

بعد اندلاع الثورة السورية في مارس (آذار) 2011، اختارت العديد من الأقليات في سوريا الالتزام صمتًا أو الهجرة نحو القارتين الأوروبية والأمريكية، لكن الأرمن أصروا على التمسك بالمكوث في منازلهم حتى منتصف عام 2012 عندما سيطرت المعارضة على كامل الأحياء الشرقية في حلب، وبدأ تنظيم الدولة الإسلامية «داعش» بالتمدد في شرق سوريا، اتخذ الأرمن قرارهم بالهجرة إلى خارج سوريا.

ففي أغسطس (آب) 2015، وصل عدد اللاجئين الأرمن السوريين في أرمينيا إلى أكثر من 22 ألفًا بحسب المفوضية العامة للاجئين في البلاد، التي بادرت بتقديم إجراءات الحماية، بما في ذلك التجنيس المبسط لمن يثبت لهم أصل أرميني، إضافة لإجراءات اللجوء المعجّلة وتسهيل تصاريح الإقامة القصيرة والمتوسطة وطويلة الأجل.

وتشير الوزيرة السابقة «لشؤون الأرمن في الشتات» هروش هاكوبيان أنه لم يتبق سوى 15 ألف أرمني في سوريا، واستقر الباقي في إقليم «كاراباخ»، مع مغادرة 8 آلاف آخرين إلى لبنان، ووجهات أخرى تشمل أوروبا والولايات المتحدة وكندا، ومع ذلك فحتى في وطنهم الأم، يتعين على النازحين السوريين في أرمينيا الاختيار بين دفع الإيجار أو شراء الطعام لأطفالهم، ففي الواقع لا يزال المأوى والسكن يمثلان أولوية قصوى للنازحين السوريين في أرمينيا. وتقدر الحكومة الأرمينية أن حوالي 14 ألف – من اللاجئين وطالبي اللجوء والأشخاص في وضع شبيه باللاجئين- لا يزالون في البلد المضيف (أرمينيا)، من بين هؤلاء هناك حوالي 500 أسرة في حاجة ماسة إلى سكن مستدام للسماح لهم بالعيش والإبداع ومتابعة الفرص التعليمية والمهنية في أرمينيا.

الأرمن والأتراك.. قصة لا تنتهي

في 24 أبريل 2019، وهو يوم الذكرى 104 للإبادة الأرمنية، أعلنت مجموعات مقاتلة في كنيسة بقرية تل كوران بمحافظة الحسكة شمالي سوريا، تشكيل لواء «نوبار أوزانيان» الذي اندرج تحت راية «قوات سوريا الديمقراطية» الكردية، وأعلن أن هدفه هو الوقوف ضد القوات التركية.

ومع ارتفاع حدة التصريحات بين النظام وتركيا، وتحميل النظام للحكومة التركية مسؤولية فتح المجال لمن أسماهم بالإرهابيين بالدخول والسيطرة على مناطق في سوريا، أقر مجلس الشعب السوري في فبراير (شباط) 2020 قرارًا يدين ويقر «جريمة الإبادة الجماعية المرتكبة بحق الأرمن على يد الدولة العثمانية»، وهو القرار الذي سبق وأن أكدت حكومة النظام نيتها في طرحه منذ عام 2015، حينها أطل الرئيس الأرمني، سيرج ساركسيان ليعرب عن امتنانه لنظام الأسد.

ووصف مجلس الشعب في قراره الحادثة التاريخية بين العثمانيين والأرمن بأنها «من أقسى الجرائم ضد الإنسانية وأفظعها»، كما أطلقت حكومة النظام اسم «ساحة شهداء الإبادة الأرمنية»، على الساحة الرئيسة في حي باب توما وسط العاصمة دمشق، مع لائحة تعريفية بتفاصيل ما ترى أنه مجزرة.

ومؤخرًا مع اندلاع الحرب بين القوات الأذربيجانية والأرمنية في إقليم «كاراباخ» المتنازع عليه، اتهم مساعد الرئيس الأذربيجاني، حكمت حاجييف، الجانب الأرميني بمحاولته جلب مرتزقة أجانب، خصوصًا من أصل أرميني، من دول ثالثة كلبنان وسوريا إلى أرمينيا للقتال ضد أذربيجان، الأمر الذي اعتبره الرئيس الأرميني طبيعيا ولا عيب فيه، مضيفًا «أن من حق أي أرميني أن يقاتل إلى جانب أرمينيا».

وفي المقابل أعلن سفير النظام السوري في أرمينيا حينها أن 81 سوريًّا يقاتلون في صفوف القوات الأذربيجانية قتلوا في المعارك الدائرة منذ 26 سبتمبر (أيلول) الماضي، وذلك وفق بيانات للجيش الأرمني، مُدينًا بالوقت ذاته ما وصفه حينها بالاعتداء على الأراضي الأرمنية، ودعا إلى حل سلمي عبر قرارات الأمم المتحدة.

المصادر

تحميل المزيد