في الواحد والعشرين من يوليو (تموز) عام 1969، هبطت مركبة الفضاء أبوللو على سطح القمر، وعبر بواباتها رائد الفضاء الأمريكي «نيل أرمسترونج»، ليصبح أول إنسان تخطو قدمه على سطح القمر. لم يشكِّل هذا الأمر انتصارًا علميًّا فقط للولايات المتحدة الأمريكية، بل كانت له أبعادٌ سياسية وثقافية؛ فقد عزَّزَ موقفها في الحرب الباردة، كما أنه قد سمح لها بعمل دعاية ثقافية هائلة.
وعندما سألت مجلة الموضة والأزياء «هاربر بازار» عددًا من المشاهير حول ما يجب إرساله في كبسولةٍ زمنية إلى القمر وإبقاؤه هناك أبدًا، جاء ردّ الروائية الأمريكية «جويس كارول أوتيس»: «القصائد الاعترافية لآن سيكستون، وسيلفيا بلاث، وروبرت لويل» باعتبارها أيقوناتٍ ثقافية شاهدة على أمريكا في فترة ما بعد الحرب العالمية، وكذلك سياسات الحرب الباردة.
وُلدت قصائد هؤلاء الشعراء من رحم المعاناة؛ فهي قصائد قد كُتب معظمها في المصحَّات النفسية أو بعد جلسات علاج بالصدمات الكهربائية هزَّت أجساد هؤلاء الشعراء ومشاعرهم معًا؛ فأنتجوا شعرًا يفيض بحزنٍ عميقٍ مَثّل ثورةً على ما أسموه معايير الشعر الجامدة المتعارف عليها حتى بداية القرن العشرين.
لم يكترث شعراء الاعتراف، الذين ضربوا بمقولة «أجمل الشعر أكذبه» عرض الحائط، وادعوا أن أجمل الشعر قد يكون «أصدقه»، بتقديم قصائد مليئة بصورٍ خيالية، كما أنهم لم يهتمُّوا بالسجع والوزن؛ بل اهتمُّوا بمضمون القصائد التي أفرغوا فيها آلامهم، ومطاردتهم للموت، والخذلان الذي تعرضوا له في حياتهم، كما أنَّهم كانوا شديدي التأثُّر بنظريات فرويد ويونج في علم النفس، وبذلك كانوا من أوائل الشعراء الذين ضمَّنوا نظريات علم النفس في قصائدهم.
لقد جاء هذا الشعر – الذي ارتبط اسمه بطقوس الاعتراف في العقيدة المسيحية– نتيجةً للآثار المدمرة التي خلَّفتها الحرب العالمية الثانية على البشر؛ فيجد القارئ نفسه أمام قصائد تتحدَّث عن الحياة الأسرية وما يتخلَّلها من ضغوط كعلاقة الوالدين بأبنائهم، والطلاق، والخيانة، والاضطرابات العقلية الناتجة عن الصدمات، والجروح العاطفية شديدة العمق التي تلقاها هؤلاء الشعراء في طفولتهم المبكرة.
لقد كان شعر الاعتراف هو شعر «الأنا»؛ فالشاعر هنا يتحدث عن تجربته الشخصية التي لا يخجل منها ليداريها وراء ستار كرسي الاعتراف، بل ينشرها في قصائد على العلن، ولذلك تعتبر معظم قصائد شعر الاعتراف عبارة عن سير ذاتية لأصحابها، إلا أنَّها – مع ذلك – لم تخلُ من الجمال ودقة التصوير والمشاعر الفياضة المتدفقة كدمٍ ينزف من جرحٍ مفتوح.
روبرت لويل ومعركة مع الذاكرة
ظهر مصطلح شعر الاعتراف (Confessional Poetry) عام 1959، بعدما نشر الشاعر الأمريكي ورائد مدرسة شعر الاعتراف، «روبرت لويل»، ديوانًا بعنوان «دراسات من الحياة» ضمّن فيه مراثي لأفراد عائلته الراحلين، كما أنه قد تحدث فيه أيضًا عن مقتطفاتٍ من طفولته وعلاقته شديدة التوتر بوالده، وكذلك حبّه الشديد لوالدته وصراعاته الشخصية، والأسرية، والنفسية. وبذلك اعتبر النقاد هذا الديوان – الذي حاز على جائزة الكتاب الوطني للشعر– نواة شعر الاعتراف.
كتب لويل هذا الديوان، الذي تلى فترة طويلة من الاهتزازات النفسية العنيفة التي تعرض لها، وتمّ على إثرها إيداعه في مصحة نفسية لأكثر من مرة، ليسجل اعتراضًا على دعوة الشاعر «ت. س. إليوت» بوجوب إنكار الشاعر لذاته في القصائد، وكذلك تنحيته لمشاعره الشخصية جانبًا، والتركيز على المواضيع الإنسانية العامة، إذ تساءل: ماذا لو كانت حياة الشاعر الشخصية تمثل قضية إنسانية من الطراز الرفيع؟
ولم يكتف لويل بتسجيل اعتراضه فقط، بل أسَّس ما يُسمى بشعر الاعتراف؛ إذ عمل بالتدريس في ورش الكتابة بجامعتي آيوا وبوسطن؛ وهناك قابل كلًّا من «سيلفيا بلاث» و«آن سيكستون» – انتهت حياتهما بالانتحار-، و«ويليام سوندغراس». كان لويل هو المعلِّم والمرشد لهؤلاء الشعراء الذين تشابهت ظروفهم الاجتماعية، وكذلك النفسية؛ إذ وقعوا جميعًا تحت وطأة اضطرابات نفسية بالغة القسوة، تلتها فترات مؤلمة من العلاج والانعزال في المصحات النفسية.
الأبُ ليس درعًا لأبنائه. * روبرت لويل
في كتابه «دراسات من الحياة» يدخل لويل في معركةٍ عنيفة مع ذكريات طفولته المبكرة؛ فهو يعرض أمام القارئ في قصيدة «91 شارع ريفير» – عنوان المنزل الذي قضى فيه طفولته- كل القيود التي فُرضت عليه في طفولته المبكرة. ويحكي في 40 صفحة، بأسلوبٍ أقرب إلى النثر منه إلى الشعر، عن ضعف شخصية والده، وتسلُّط والدته، وافتقاره للشعور بالأمان في كنف والده الذي لم يعتبره درعًا واقيًا له لأنه رآه يُكسر كل يوم أمام تسلُّط والدته، وشاهد انحناءه أكثر من مرة أمام صعوبات الحياة.
لويل، الذي كان يعاني من مرض الهوس الاكتئابي، لم يجد حرجًا في أن يصف اضطرابه الداخلي، ومدى اعتلال حالته النفسية في شعره لأنه لم يكن يرى نفسه حالةً شاذَّة، بل كان يرى كل أطياف المجتمع الأمريكي – على حدّ قوله– في مستشفى ماكلين للأمراض النفسية التي كان نزيلًا فيها. كانت مستشفى ماكلين بالنسبة للويل صورةً مصغرة من مجتمعه الذي يمشي بخطى ثابتة نحو تدمير نفسه بنفسه في فترة ما بعد الحرب العالمية الثانية والحرب الباردة.
لقد نجح ديوان «دراسات من الحياة» وما حواه من قصائد في لفت انتباه العديد من النقاد، بل ودعاهم إلى إعادة النظر في القيود التي فرضتها الحركة الرومانسية في الشعر مقابل المشاعر المتدفقة التي لا تعرف القيود في شعر الاعتراف. أما روبرت لويل فقد نجح في فتح آفاقٍ جديدة حين قدَّم شعرًا يتيح سبر أغوار النفس الإنسانية، ويوضح مدى الدمار الذي يحدثه التفكك الأسري والطلاق والخيانة على الفرد والمجتمع.
كيف أتقنت سيلفيا بلاث فنّ الموت
امرأةٌ مبتسمة أنا/ في الثلاثين من عمري/ وأنا أشبه القطط؛ فلديّ تسعة أرواح. الموت فنّ ككلّ شيءٍ آخر/ وهو فنّ أتقنه بشكلٍ استثنائي. الشاعرة الأمريكية سيلفيا بلاث
الموت، ذلك الفن الذي يشبه كل شيء آخر، كان رفيقًا لسيلفيا بلاث طوال حياتها، وعلى الرغم من أنها عرفته منذ طفولتها إلا أنه اكتفى فقط بالتلويح لها من بعيد، وكلما كادت أن تقترب منه كان يسرع بالابتعاد؛ فقررت أن تتخذه هواية وظلَّت تطارده طوال ثلاثين عامًا. بلاث، التي كانت ترى الموت فنًا كغيره من الفنون، تمنَّت إجادته فأنهت حياتها – بشكلٍ استثنائي – عندما سارت في هدوءٍ إلى الموقد ووضعت رأسها في الفرن لتشمّ كميةً كبيرة من الغاز ولم تخرج رأسها منه إلا حينما رأت الموت؛ في تحدٍ سافر لذلك الموت/ الفن الذي أبى أن يأتي إليها طواعية فذهبت إليه هي بطريقةٍ استثنائية لم يسبقها بها أحد.
بلاث، التي كانت راغبة عن أرواحها «التسعة» وفقًا لشعرها، أرادت بشدة أن تتملَّص من بين فكي الحياة وكان قرارها بالانتحار هو ملجأها الأخير لقطع سلسلة الخذلان التي لازمتها طوال حياتها. لم ترد بلاث أن تنهي حياتها بالطرق الشائعة، كشقّ شُريان اليد أو ابتلاع الأدوية، لأنها تعلم أن هذه الطرق تكاد تنعدم فيها فرص التراجع أو العودة إلى الحياة مجددًا وبذلك تخسر فرصتها في إثبات إجادتها لهذا الفن/ الموت فاختارت طريقة استثنائية لها طريقان، أحدهما يتجه نحو الحياة والآخر نحو الموت.

الشاعرة الأمريكية سيلفيا بلاث
لم تلبس بلاث معطفًا جيوبُه مثقلة بالحجارة وتتجه صوب النهر، كما فعلت «فرجينيا وولف» حين انتحرت غرقًا، أو تأكَّدت من حشو بندقيتها وفتحت لها فمها لتتذوق طعم البارود، كما فعل«أرنست همنجواي»، بل أدخلت رأسها بهدوءٍ في فرن الموقد وفتحت قارورة الغاز ليتشبَّعَ دمها رويدًا رويدًا بالغاز القاتل وكأنها تتذوق الموت وترتشفهُ بنهمٍ في تحدٍّ لآليات الدفاع الأوتوماتيكية التي يتخذها الجسم عندما يشعر بالخطر أو الخوف ويتجه لتحرير نفسه سريعًا، وهكذا أجادت بلاث الموت بشكلٍ استثنائيّ.
عرفت سيلفيا بلاث الموت لأوَّل مرة حين فُجعت بوفاة والدها، عالم الحشرات «أوتو بلاث»، وهي في عمر الثامنة مما أدى إلى إصابتها بصدمةٍ نفسية ظلَّت على إثرها تتلقَّى العلاج النفسيّ طوال سنواتها الثلاثين. وهكذا، من عمر الثامنة بدأ الموت يؤطِّرُ حياتها؛ فقد مثّل لها لغزًا وشغفًا في آنٍ واحد. مات أوتو بلاث بسبب مرض السكري الذي أهمل علاجه لظنّه بالخطأ أنه يعاني من سرطان الرئة ففضَّل أن يمتنع عن العلاج لأنه ظن أنه لا جدوى من التداوي، وعندما اضطر لزيارة الطبيب بسبب إصابة في قدمه كان الوقت قد تأخَّر كثيرًا وشُخصت إصابة قدمه بالغرغرينا التي انتشرت في جسده فاعتبرت ابنته إهمال والدها للعلاج ووفاته في سن مبكرة بمثابة الخذلان الأول في حياتها واتهمته بأنه تركها عمدًا.
وقد كتبت له، بنبرةٍ تحمل الكثير من الأسى واللوم والحب والبغض في آنٍ واحد، قبيل انتحارها بأسبوعين في قصيدة بعنوان أبي:
أبي، لقد كان عليّ قتلك/ لقد رحلت قبل أن تمنحني بعض الوقت . . لقد اعتدت أن أصلِّي لأستعيدك وأنا أئنّ.. لم يتسنّ لي أبدًا أن أتحدَّثَ إليك/ لقد جفّ لساني في حلقي/ ووقعتُ في فخٍ مليءٍ بالأسلاك الشائكة/ أنا أستطيع بالكاد أن أتحدَّث.
اعتبرت هذه القصيدة المركَّبة الموجعة مثالًا يحتذى به لقصائد شعر الاعتراف؛ فالقارئ يشعر بحيرةٍ بالغة حول حقيقة شعور بلاث تجاه والدها، وهل هي فعلًا تحبه أم تبغضه، ويرجع السبب في ذلك إلى أنَّها قد نقلت حيرتها ومشاعرها المتضاربة بصدقٍ بالغ؛ فتارة تصفُ والدها في هذه القصيدة بأنه مثلٌ تراه أمام عينيها كل يوم، وتارة تصفه بالنازيّ – نظرًا لأصوله الألمانية – وتارةً أخرى تنعته بمصاصّ الدماء. ونجدها تقول إنها كان عليها قتله لأنه تركها وحيدة، ثم تستدرك الأمر وتقول إنها صلَّت كثيرًا ليعود، وتخبره بصوتٍ يشبه الأنين أنها اتخذت الموت هواية لتعود إليه مرة أخرى، ولكنها لم تفلح فتقول: «في العشرين من عمري أردتُ الموت/ لأعود إليك.. ولكنَّهم سحبوني من بين ذراعيك/ ولصقو حطامي بالغراء.. ولكنِّي آتيةٌ يا أبي».

صورة للشاعرة سيلفيا بلاث برفقة زوجها الشاعر تيد هيوز
لقد تجلَّت معاناة ثلاثين عامًا في هذه القصيدة التي تنبَّأت بإقدام الشاعرة على إنهاء حياتها بالانتحار؛ فسيلفيا بلاث التي عاشت كسيرةً بلا أب قد تحطَّمت تمامًا حينما خانها زوجها، الشاعر الإنجليزي الشهير «تيد هيوز»، وهجرها هي وطفليهما ليعيش مع امرأةٍ أخرى تاركًا لها جرحًا عميقًا لا يندمل، جرحًا جعلها ترى الخذلان الذي تعرضت له في حياتها القصيرة في صورة سلسلة من ثلاثين حلقة يمسك والدها بطرفها بينما يمسك زوجها بالطرف الآخر.
فتقول مخاطبة والدها الراحل: «إن قتلت رجلاً/ فقد قتلت اثنين/ مصاص الدماء الذي قال إنَّه أنت/ وظل يمصُّ دمي عامًا/ وسبعة أعوام إن أردت أن تعرف» في إشارةٍ منها إلى زوجها تيد هيوز الذي تزوجته لسبعة أعوام. وفي الحادي عشر من فبراير (شباط) عام 1963 أعلنت بلاث الانتصار والهزيمة معًا حيث إنَّها قد انتصرت أخيرًا و أجادت فنّ الموت، ولكنها بالمقابل قد هُزمت هزيمة منكرة أمام الحياة.
بهذا استحق شعر الاعتراف أن يُرشح ليُرسل في كبسولةٍ زمنية تبقى أبدًا فوق سطح القمر؛ لأنه نبع من معاناةٍ وجروحٍ نفسية شديدة الوطأة مثَّلت كيف تستحيل الحياة جحيمًا في الأسر المفككة، وكيف يصبح الموت غايةً وفنًا كغيره من الفنون إن انعدم الشعور بالأمان في ظلّ انهيار مؤسسة الأسرة. وهو بالتأكيد قد مثَّل جانبًا من جوانب طبيعة الحياة في الولايات المتحدة في فترة ما بعد الحرب العالمية والحرب الباردة وأصبح شاهدًا عليها.