بعضهم موجود الآن خارج الغلاف الجوي للأرض، مسافرون على متن محطة الفضاء الدولية التي تدور حول الأرض 16 مرة في اليوم، بسرعة 28 ألف كم في الساعة، على بعد يتراوح بين 330-435كم عن الأرض.
هذه المحطة الفضائية التي تستوعب 6 أفراد كحدّ أقصى، تواجد بها “سكان أرضيّون” باستمرار منذ عام 2000م حتى يومنا هذا، في تجربة حفرت آثارها بعمق على أصحابها من رواد الفضاء المحظيين.
نستعرض هنا بعضًا من شهادات رواد الفضاء عن كيف تغير الرحلة إلى الفضاء في صاحبها إلى الأبد؟

رائد الفضاء “مايك ماسيمينو” يلتقط صورة “سيلفي” مع الأرض، المصدر: ناسا
الأرض وطن، والبشر عائلة واحدة
يتغيّر مفهوم الوطن وفقًا لرائد الفضاء الألماني، الجيوفيزيائي ألكسندر غرست، في الصغر يكون الموطن بالنسبة لشعورك هو المنطقة الصغيرة التي نشأت بها وعرفت أحياءها، ومن ثم حين تكبر وتسافر كثيرًا تصبح دولتك هي “الوطن”، وبالمثل حين تسافر إلى الفضاء، مفهومك تجاه الوطن يتغير، يصبح كوكب الأرض هو الوطن.
“حين كنتُ على الأرض، لم أكن أفكر بها كثيرا، كانت شيئًا ضخمًا لا نهائيًّا بموارد لا محدودة، لكنك حين ترى الأرض من الخارج، يتغير مفهومك كليا، ترى أنها مكان محدود، مثل أيّ شيء في الحياة، هشّ ويمكن تدميره.
أردتُ مشاركة هذا مع الجميع، أنه يمكننا أن ندمر الغلاف الحيوي الخاص بالأرض، أن نصل لنقطة اللاعودة دون أن نعرف حتى، فقط لأننا لم نعتنِ بها كفاية”.
وفي حديثه عن المشاكل السياسية والصراعات التي تعمّ الأرض:
“يمكنك بالفعل أن ترى حربًا من الفضاء، في أحد الأيام ونحن ننظر من النافذة، رأينا نقاطًا متحركة وومضات لانفجارات، ومن ثم أدركنا أننا فوق إسرائيل وقطاع غزة، الناس كانت تقتل بعضها بالفعل ولقد رأينا هذا”
“بمرحلة ما، لو تواجدت أيّ حياة ستزورنا من جزء آخر من الكون، فإن هذا أول ما ستراه، نحن نقتل بعضنا، ندمّر غابات الأمازون المرئية جدا جدا من الأعلى، كيف سنفسّر لهم ما نفعله؟ كيف سنفسّر لهم أننا نطلق على أنفسنا “حياة ذكية” في الوقت الذي ندمّر فيه الوطن الوحيد الذي لدينا”.
بالنسبة لألكسندر، فإن كلا منا رائد فضاء بطريقة ما، لأن الأرض حين تراها من الأعلى ليست إلا سفينة فضائية أكبر حجمًا، وذات نظام دعم معقد أكثر لكنها قابلة للتدمير مثل أيّ سفينة أخرى، هي سفينتنا الفضائية الوحيدة التي نسافر بها حول الشمس، ولذلك كل إنسان هو “مسافر / راكب في السفينة”، أو أنه “فرد من الطاقم”.
يُذكر أنه منذ عام 2009 أصبح رواد الفضاء يتواصلون عبر وسائل التواصل الاجتماعي ناقلين تجربتهم الفريدة بالصور والفيديوهات لتصبح تجربة عالمية مشاعًا لجميع مستخدمي الإنترنت، بشكل جعل مستخدمي التويتر يكتبون لـ”تيري فيرتس” وهو يلتقط الصور الأخيرة قبل عودته للأرض خلال شهر يونيو الجاري:
“لقد استمتعنا بالرحلة معك تيري”.
رائدة فضاء أمريكية تشرح كيف يمكن تمشيط الشعر في وسط خال من الجاذبية، ضمن سلسلة من الفيديوهات المسجّلة في محطة الفضاء الدولية:
التخلّص من “الخوف البدائي”
أو كما يحبّ أن يسمّيها رائد الفضاء الكندي، العقيد “كريس هادفيلد”: “ردة فعل رجل الكهف”.
يصفُ “كريس” كيف ترافقُ المواقف المرعبة رائد الفضاء منذ أن تصل صباحًا إلى منصّة الإطلاق، حيث يمكن أن تكون في نهاية النهار “تسبحُ” دون عناء في الفضاء أو ميتًا، تبدأ الرحلة بركوب “المكوك الفضائي” وهو آلة الطيران المبنيّة الأكثر تعقيدًا على الإطلاق، يبدو المكوك كأنه “كائن مهوّل على قيد الحياة”، عند بدء الإقلاع وفي الدقائق الأولى التالية لذلك، “الأمر قوي بشكل لا يصدّق وكأنّك في قبضة شيء ما يهزّك بعنف ولا يسمح لك بالتركيز على الآلات أمامك”، تصبح القوى المطبقة على المكوك أقوى فأقوى إلى أن يصل إلى الارتفاع الصحيح، السرعة الصحيحة والاتجاه الصحيح، فينطفئ المحرك، ويصبح رواد الفضاء بلا وزن.
يُذكَر أن احتمالات حدوث كارثة عند الإقلاع كانت بالبداية واحد من تسعة لكن النسبة تحسّنت تدريجيًّا لتصل إلى 1 من 38.
كريس هادفيلد يُغنّي من الفضاء:
يكملُ “كريس” سرد حكاياه أمام جمهور متشوق، يحكي عن جولته الفضائية الأولى حين “ترتدي بدلتك الفضائية وتخرج من المركبة الفضائية التي تتحرك بسرعة 8/كم في الثانية لتمشي وحدك في الفضاء”، ما إن بدأ “كريس” بالنظر وإذا بعينه اليسرى تنطفئ بألم شديد، أصيبت بالعمى ولم يعد يستطع أن يرى بها، لم يدرِ ما الذي حصل لكنه تحلّى بالهدوء الشديد قائلا: “ربما لهذا السبب لدينا عينان اثنتان”، مع انعدام الجاذبية أصبحت كرة الدموع تكبر باستمرار أمام العين إلى أن وصلت المادة إلى العين الأخرى وأصيب بالعمى كليا، لم يعد يرى شيئًا وهو في طلعته الفضائية الأولى.
يقول كريس أن التدريبات التي مرّ بها لآلاف المرات على الأرض قبل الصعود في رحلة فضاء حقيقية، تجعل رائد الفضاء لا يتعامل مع الأمور “بردة الفعل الطبيعية” الأولية أي الذعر، بل تجعله يفرّق ما بين “الخطر الحقيقي” و”الخوف” الذي يمكن أن يتولّد داخله، ولذلك حين أصيب بالعمى فإنه بدأ يفكر بطريقة إيجابية، ما يزال باستطاعته الكلام والاستماع بالمقابل، يمكنُ لأفراد الطاقم في الداخل أن ينجدوه عند الحاجة، وتظهر خاصية “التعامل الهادئ مع أشد المواقف صعوبة” عند غالبية رواد الفضاء.
يدعو كريس الجميع إلى التخلّص من مخاوفهم عبر التفكير بحقيقتها بشكل عقلاني ومن ثم مجابهة ما يخيف باستمرار حتى تزول ردة الفعل البدائية إلى الأبد، وبزوال “ردة فعل رجل الكهف” فقط تستطيع أن ترى أشكالًا من الجمال والتجارب الحياتية لم تكن تتخيل وجودها.
فيديو للأرض مصوّر من محطة الفضاء الدولية:
إنه جمالٌ لا يمكنك أبدًا أن تتوقعه قبل أن تراه
لا يكاد يستطيع رائد الفضاء منع نفسه من النظر عبر نوافذ المركبة كل بضعة دقائق لمشاهدة منظر جديد وخاصّ كلّ مرة، لعل شعور الهيبة تجاه الجمال اللامتناهي للكون هو أكثر ما يتكرر في شهادات رواد الفضاء، وتزداد كثافة تعبيرهم حين يصلون إلى وصف “السير في الفضاء” حيث يقول أحدهم أن التعرض لأشعة الشمس هناك جعله يشعر أنه “وُلِدَ من جديد”، فيما يصفها “كريس” بعباراته هذه:
“أنت في سفينة فضائية لشخص واحد والتي هي بدلتك الفضائية، وأنت تسير في الفضاء مع العالم. إنها نظرة مختلفة بشكل تام، فأنت لا تنظر إلى أعلى الكون، بل أنت والأرض تجوبان الكون معا. وأنت تمسك بيد واحدة وتنظر إلى الكون يدور إلى جانبك. إنه يهدر بصمت بألوان ونسيج ينسكب بطريقة مذهلة بجانبك. وإذا استطعت أن تبعد عينيك بعيدا عن ذلك وأن تنظر تحت يدك إلى أسفل إلى كل شيء آخر، سترى سوادا مبهما، بنسيج تشعر وكأنك تستطيع أن تغمس يدَك فيه”.
“لا أحد يستطيع أن يأخذ هذا مني”
بهذه العبارة التي قالتها رائدة فضاء أثناء رحلة عودتها إلى الأرض تلخص الجانب الآخر من التجربة، إذ أن تغيّر المفاهيم والمنظورات الذي يحصل عند رائد الفضاء تدوم معه العمر كله، يوافقها بهذا “توماس رايتر”:
“إذا كنت رائد فضاء لمرة ما، فأنت رائد فضاء للأبد. الذهاب للفضاء تجربة تغيّرك بشكل جذري”
يرافق هذا الشعور بـ”الرضا” و”الإنجاز” الذي يتحقق عند رائد الفضاء بدرجة غير قابلة للتشوّه لاحقا، آخذين بعين الاعتبار كمّ الجهد والتدريبات والتخصصات التي يحصل عليها لأجل الوصول إلى استحقاقية الصعود إلى المحطة الفضائية، ومن ثم اختياره من بين مئات المتقدمين الآخرين وحصوله هو تحديدًا على التجربة من بين آلاف العاملين بجهد في مجال الفضاء الذين يحققون له ومعه حلمه على الرغم من أنهم لن يغادروا هم الأرض قط، إن رائد الفضاء يصل تدريجيًا إلى حالة من الامتنان الشديد مترافقًا مع الرضا بثمرة جهوده المضنية.

خليج عمان كما يبدو من الفضاء، صورة من ألبوم رائد الفضاء تيري فيرتس المنشور على حسابه في تويتر
تقبل احتمال الموت في أيّ يوم
على الرغم من أن “كريس” ينبهنا إلى التفريق بين الخطر وبين الذعر المتولد عنه، إلا أن رائد الفضاء يواجه احتمالية الموت المحتّم في مرات عديدة، إذ أنه في الفضاء أيّ يوم يمكن أن يسوء ليتحول إلى كابوس حقيقي، وعلى رائد الفضاء أن يتقبّل أنها “مهنة مميتة”.
تفجّرت الذكريات لدى رائد الفضاء الأمريكي المهندس “مايك ماسيمينو” لدى رؤيته لفلم “الجاذبية” الحاصل على سبع جوائز أوسكار عام 2013، حيث تذكّره حبكة الفيلم بحادثة طلعته الفضائية لإصلاح “تلسكوب هابل” الشهير لمنحِه خمس أو عشر سنين إضافية من الحياة، كان ذلك في رحلته الفضائية الثانية عام 2009، وبعد أن خسر أصدقاءه في كارثة تحطّم المكوك الفضائي الأمريكي كولومبيا في عام 2003، الرحلة التي غرّد بها من الفضاء ليكون أول رائد فضاء يستخدم وسائل التواصل الاجتماعي للتواصل:
لم تثنه خسارته هذه عن القيام بالرحلة الفضائية الثانية، ومن ثم السير إلى “هابل” الذي يعلو عن محطة الفضاء الدولية مسافة 100 ميل والمعرّض أكثر للتصادم بالحطام، وهناك أمضى “مايك” ما يقارب الـ16 ساعة من العمل والجهد الشديد لمحاولة إصلاح التلسكوب، حيث صادفته مشاكل تقنية غير متوقعة، وكان قريبًا جدًا من احتمالية عدم القدرة على إصلاحه، رغم خبرته وتلقّيه سنين من التدريب لأجل هذا تحديدًا، وهنا بدأ كابوس إضافي، وبدأ بتخيل أطفاله وهم يدرسون في كتبهم المدرسية أن البشرية كانت تستكشف إمكانية وجود الحياة في الفضاء – واحدة من مهام التلسكوب العديدة – لكن فشل والدهم عوّق هذا.
“نظرتُ إلى كوكب الأرض، وفكّرت، هناك مليارات من الناس الآن في الأسفل، لكني لا يمكن أن أنادي أحدًا لمساعدتي بهذا، شعرتُ بالوحدة العميقة، وبدأ يحتويني الظلام والبرد، السرعة التي نسافر بها تجعلنا نحصل على 45 دقيقة من أشعة الشمس تعقبها 40 دقيقة من الظلام، والظلام هناك ليس مجرد ظلام، بل هو أحلك درجة من السواد عرفتها بحياتي، غياب كامل للضوء، أُضيفَ لوحدتي”.
لكنه توقف عن هذه الهواجس على الفور، حيث قرر أنه لا مكان للذعر هنا، وبدأ بعلاج المشكلة بطريقة فريدة لا مجال لذكرها في سياقنا هذا، واستمرّ حتى مع بدأ تناقص الأوكسجين والاحتمالات المُقلقة الأخرى، إلى أن تمّ الأمر بالنهاية وتمكن من العودة بعد 16 ساعة من العمل الدؤوب الذي عاد على البشرية بثماره.

طاقم العمل يستريح ضمن أسبوع من العمل الشاقّ بغية إصلاح تلسكوب هابل، المصدر: ناسا
يمكن للبشرية أن تحقّق أي شيء تريده بصدق
تُعتبر “محطة الفضاء الدولية” من أحد أعظم المشاريع العلميّة المشتركة بين الدول، حيث تتعاون 15 دولة تحت إشراف وكالتي الفضاء الروسية والأمريكية “روسكوسموس” و”ناسا”، بعد أن تجاوزت الدولتان خلافاتهما السياسية لتتعاونا في مجال الفضاء عبر هذا المشروع المتوقع تمديده لعام 2024، كما أن الرحلات عادة ما تحمل طاقمًا مكونًا من جنسيات مختلفة.
بالنسبة لرائد الفضاء “رونالد غاران” التابع لناسا، فإنه منذ صعود أول إنسان إلى سطح القمر إلى رحلات الفضاء المسيّرة حاليًّا إلى محطة الفضاء الدولية، كل هذا ليس إلا دليلًا قاطعًا على أن البشر يستطيعون أن يغيّروا العالم بطريقة إيجابية ويتجاوزون خلافاتهم ليحققوا ما يريدون لو أرادوا تحقيقه بصدق، يشملُ ذلك مشاكل عدم توفر المياه والفقر واستنزاف الموارد الطبيعية وما ماثلَ ذلك من الأزمات الإنسانية.
كانت إحدى اللحظات المؤثرة على “رونالد” حين نظرَ من نافذة المحطة ورأى “خطًأ ممتدًا ومضيئًا لمئات الأميال”، ليكتشفَ أنه ليس إلا الحدود الممتدة ما بين دولتيّ الهند وباكستان، يقول رونالد: “كنت أظنّ دائمًا أنه لا يمكن رؤية أيّ حدود من الفضاء، لكني كنتُ مخطئًا، بالعادة تكون الصور من الفضاء مسالمة وجميلة، لكن رؤية هذا الأثر البشري المرئيّ من الفضاء أثّر بي كثيرًا”.

يبدو الخط الفاصل باللون “الأورانج” ما بين الهند وباكستان، المصدر: دايلي ميل
بعد أن عاد “رونالد” من الفضاء إلى كوكب الأرض، بدأ بحملة لتوحيد جهود المنظمات الإنسانية والخيرية المتواجدة في الأرض، حيث تتواجد الملايين من المنظمات المتفرقة والتي سيعطي التنسيق بينها فعاليّة أفضل بكثير وفقًا لقوله، كما أن “رونالد” يمضي الكثير من وقته لنشر أفكار “التعاون” و”العمل الجماعي البشري” للوصول إلى كوكب أفضل.
علامات
editorial, أمريكا, الفضاء, تجارب حياتية, تكنولوجيا, رواد الفضاء, روسيا, محطة الفضاء الدولية, ناسا