تُعد العلاقة مع الوالدين أو من كان مسؤول الرعاية في الطفولة، دليلًا إرشاديًّا خفيًّا خاصًّا بسلوك الإنسان في الحياة والعلاقات البالغة. ولا يقصد هنا العلاقة العاطفيَّة مع الشريك فقط، فنمط الترابط المكتسب في الطفولة يُصير مفتاحًا سلوكيًّا لكل العلاقات الإنسانية؛ مع الأصدقاء ومع الزملاء ومع المدير المباشر في العمل، وحتى مع الحيوانات الأليفة. فكيف لدليل السلوك المكتسب من الطفولة عبر الترابط مع الوالدين، أن يصبح دليل إرشاد عاطفي؟
أثر الفراشة لا يُرى.. هكذا تؤثر العلاقة الترابطية الأولية في حياة البالغين
قد نلاحظ أننا أحيانًا نكرر نمطًا من الشعور والتصرفات وردود الأفعال في علاقاتنا وكأننَّا ننقلها من سياق لآخر كما هي، خاصَّة في لحظات الضيق. فالأشخاص ذوو «نمط الترابط الآمن» (وهو نمط يكتسبه الطفل الذي مُنح الأمان والتفهم في علاقته مع والديه، ومنحته هذه العلاقة الدعم ليكون فردًا مستقلًّا بذاته ومتفرغًا لاكتشاف نفسه والعالم من حوله) يمكنهم التعبير عن مشاعرهم بسهولة، ويتوجهون لطلب المساعدة دون تردد، إن كانوا في مأزق، ودون أن ينتابهم الشك حيال أحقيَّتهم في المساعدة أو حيال رغبة الآخر في تقديمها.
في المقابل، فإن الأشخاص ذوي «نمط الترابط الممتنع» (وهو نمط يتبناه الطفل ليحمي نفسه من الخذلان المتكرر بعدما تُرك وحيدًا في لحظات الهلع والضيق وأُهملت احتياجاته بشكل دائم) لا يملكون تصوُّرًا للملاذ الآمن الذي تمنحه العلاقات، ويفضلون الانكماش على ذواتهم في وقت الشدة خوفًا من احتماليَّة التعرض لأذى، وهذه السلوكيات المكررة تُطبَّق أوتوماتيكيًّا ودون وعي؛ إذ يجترها العقل من دليل السلوك المكتسب في الطفولة.
في الماضي اعتقد الباحثون في نظرية الترابط، أنَّ نمط الترابط في الطفولة هو بصمة أبديَّة تُستنسخ من العلاقة مع مسؤول الرعاية لبقية العلاقات؛ فإن كنت من المحظوظين ذوي نمط الترابط الآمن، والذي تشير الإحصائيات إلى كونه الأكثر شيوعًا، فستجد ملاذك الآمن في العلاقات أينما حللت، ولن تكون لديك مشكلة في شعور الأحقيَّة وفي طلب المساعدة والدعم إن احتجت إليه، أما إن شاءت ظروفك في الطفولة وتشكل لديك نمط ترابط متمنِّع أو قلِق، فستحيد دائمًا عن الحميميَّة في العلاقات أو ستبقى غارقًا في بحثك عن الأمان فيها دون أن تصل إلى مرسى.
لكن الأبحاث الجديدة وجدت أن هذا الحكم ليس أبديًّا، ويمكن لأصحاب نمط الترابط الممتنع إعادة تشكيل نمط ترابطهم في حياتهم الراشدة؛ إذ تكمن الخطوة الأولى، في فهم هذا الترابط وفي تمييز الشعور والسلوكيات المتَّبعة في العلاقات.
لكن.. ما هو الترابط؟ وكيف نفهمه؟
يرى جون بولبي، المحلل والطبيب النفسي البريطاني، الذي اهتم وبحث مراحل تطوُّر الطفل الأولى وصاحب أُسس نظرية الترابط، أن للعلاقة الترابطية بين الطفل ومسؤول الرعاية (في الغالب يكون الوالدين أو أحدهما) تأثيرًا عظيمًا، ليس في سلوكه في طفولته فقط، وإنَّما في نمط علاقاته كلِّها لاحقًا.
فبطبيعته، يولد الطفل مع منظومة فطريَّة تعوِّضه عن شعور العجز وتمكِّنه من البحث عن شخصيَّة بالغة وداعمة، وهو ما عُرف لاحقًا بالشخصية الترابطيَّة (attachment figure)، لتكون «ملاذه الآمن» و«قاعدة أمان» في سبيل تطوُّره وبقائه على قيد الحياة.
توفِّر هذه الشخصيَّات الترابطية للطفل الأمان والحماية في ساعات الضيق الجسديِّ والنفسيِّ، كما توفِّر أيضًا قاعدة آمنة تسمح له أن ينكشف على محيطه ويستكشفه. وفي حالة لم يجد الطفل ملاذًا آمنًا يعود إليه في ساعات ضيقه؛ فإنه سيبقى في بحثٍ مستمر عن الأمان، مما يحدُّ من تفرُّغه العاطفيِّ لاكتشاف محيطه، ومن ثم يحدُّ من تطوُّره النفسيِّ ومن استقلاليَّته العاطفيَّة مستقبلًا.
ويرى باحثو نظرية الترابط أن هناك نزعة عالميَّة لدى الأطفال تميل إلى الارتباط بشخصيَّة بالغة واحدة على الأقل، وهنا يأتي السؤال، إن كانت الحاجة للترابط عالميَّة، فهل للشخصيَّة الترابطيَّة سمات موحَّدة أيضًا؟ يجيبُ العلماء عن هذا السؤال بالنفي، فالأطفال (ولاحقًا البالغون) يكوِّنون علاقة ترابطيَّة مع مسؤولي الرعاية، حتى وإن لم توفر لهم هذه العلاقة، الحماية المرجوَّة لتطورهم النفسيِّ الآمن، ولم تعي حاجتهم للقرب، ومن ثم، يتطور لدى الأطفال نماذج متغايرة من أنماط الترابط، منها الآمن ومنها غير الآمن.
وكيف نتعرف إلى نمطنا الترابطيِّ؟
استطاعت ماري أنسوورث، عالمة النفس التطويري الأمريكية، تحديد ثلاثة أنماط للترابط لدى الأطفال بتجربة بسيطة جدًّا؛ وهي مراقبة ردود أفعالهم عند خروج أمهاتهم من الغرفة في حضور شخص غريب.
أظهرت هذه التجربة أنَّ نمط الترابط لدى الأطفال قد يكون واحدًا من ثلاثة:
1- الترابط الآمن: فيستمر الطفل في لعبه رغم غياب أمه؛ لثقته بأنَّها ستعود إن شكَّل هذا الغريب خطرًا محدقًا عليه، بل يستقبل الطفل أمه ويستأنس بعودتها.
2- الترابط المتمنع: فنرى أن غياب الأم لم يؤثر في الطفل، ونجده لا يحتفي بعودتها للغرفة، ويطوِّر الطفل هذا النمط من الترابط على إثر الخيبة المتكررة من أن توفِّر له الأم ملاذًا آمنًا حين يحتاج، فيمتنع عن التقرُّب منها والاعتماد عليها.
3- الترابط القَلِق: وفيه لا يهنأ الطفل بملاذٍ آمن ثابت ولا يُهمل بشكل كليٍّ، ويظل شعوره بالأمان غير مستقر؛ مما يخلق لديه قلقًا دائمًا وانشغالًا مستمرًّا بالبحث عنه. على سبيل المثال: بكاء الطفل طيلة غياب أمه واستغراقه وقتًا طويلًا ليهدأ بعد عودتها.
يبدأ نمط الترابط عند الأطفال باتخاذ شكلٍ آمن أو غير آمن، منذ صرخته الأولى في هذه الحياة وحتى عمر ثمانية شهور، ويبقى الترابط مرنًا وقابلًا لإعادة التشكيل مع خوض الطفل تجارب نفسيَّة جديدة مع شخصيَّات ترابطيَّة مختلفة حتى الأعوام الأولى من طفولته المبكرة.
يتحوَّل نمط الترابط بعد ذلك إلى نموذج داخليٍّ لسلوك الإنسان وتوقعاته في علاقاته المختلفة لاحقًا، وكذلك وُجِدَ أن هناك علاقة بين نمط الترابط وأساليب الأشخاص في استكشاف أنفسهم والعالم من حولهم. فمثلًا، وجد باحثون أنَّ الأطفال أصحاب نمط الترابط الآمن، يكبرون ليصحبوا الأكثر شعبية في مدارسهم، كما أنَّهم يظهرون ثقة عالية بأنفسهم، ويكونون من المبادرين، وأقل عدائيةً مقارنة بأقرانهم أصحاب نمط الترابط غير الآمن.
ليس هذا فحسب، فيرى جون بولبي أنّ نمط الترابط في الطفولة، الناتج من علاقة الطفل بمسؤول رعايته، يشكِّل لديه مقياسًا للعلاقات بشكل عامٍ، ومرآة لذاته وللعالم؛ إذ إنَّه يؤثر في شعور الإنسان بالاستحقاق، وفي ثقته بنفسه، وفي سلوكه في العلاقات العاطفية والاجتماعية والمهنية على حدٍّ سواء.
ورغم وجود الأنماط الثلاثة في العلاقات العاطفية والاجتماعية للبالغين، فإنَّ باحثي نظرية الترابط يتساءلون عن مدى صلاحيَّة تعميم التجربة في الظروف الحياتية المختلفة للأطفال حول العالم، وعن مدى ثبات أنماط الترابط المكتسبة منذ الصغر أمام معتركات الحياة وتغيرها.
الأنماط الترابطية.. حُكم ثابت أم عملة معدنية يمكن قلبها؟
تشير الأبحاث الحديثة إلى أنَّ أنماط الترابط لدى 30% من الأشخاص تتغيَّر خلال حياتهم، وليس ضروريًّا أن يكون التغيير إيجابيًّا فقط، فكما تستطيع ظروف الحياة الجيَّدة منح فرصة جديدة لتجربة ترابط آمن، يمكن للظروف القاسية في حياة الراشدين أن تحطم نموذج الأمان الداخليِّ وتغيِّر مقياس الشخص لذاته وللعالم.
يقترحُ بعض الباحثين أنَّ للعلاقات العاطفيَّة القدرة الأكبر على التأثير في أنماط الترابط؛ فالشريك في العلاقة العاطفية يتخذ دور «الشخصيَّة الترابطيَّة» التي نتكئ عليها لتكوين تصوُّرنا عن ذاتنا وعن العالم، فالشريك هو الملاذ؛ الذي يحتوي شريكه أو يبعده، وهو قاعدة إما صلبة فيرتكز عليها ويستقيم بها، وإما هشة تحني ظهره ليخوض في بحثٍ مستمر عن الأمان.
تخلق أنماط الترابط المكتسبة في الصغر نماذج عنيدة لتصوُّرات البالغين عن العلاقات وعن أنفسهم. هذا العناد هو الزاد لتطوُّرهم ونجاتهم أمام الظروف التي تعرضوا لها في طفولتهم دون حول لهم أو قرار؛ أي إنَّ أنماط الترابط غير الآمنة هي رد نفسي طبيعي لظروف تنمية غير طبيعيَّة، لكنَّها تُعمَّم على العلاقات لدواعي الحماية.
هناك أيضًا بعض العوامل التي بوسعها تليين هذه النماذج، ويأتي الوعي الذاتي على رأسها؛ فإدراك مسؤول الرعاية سوء رعايته ومن ثم توجهه للعلاج، عامل كبير في تغيير نموذج الترابط لدى الطفل، كما أن ظروف الحياة المختلفة التي تُمنَح للشخص، أو التي يخلقها هو بذاته بعد بلوغه، قد تساهم في تغيير نمط الترابط وتشكيل مقياس جديد للعلاقات تبعًا للظروف الجديدة.
على جانب آخر، فإن العلاقات الحميميَّة السليمة، يمكنها التأثير في نمط الترابط ومنح العلاقات بُعدًا آمنًا جديدًا، وبالمثل فإن العلاقات الحميميَّة السامة بمقدورها أن تهدم هذه المنظومة بأكملها.
في دراسة استمرت ما يقرب من 20 عامًا، تابع باحثون التطوُّر النفسي لنحو 31 طفلًا يُعانون من «فشل في النمو»، وهو حالة يكون فيها التأخُّر الطبيُّ في النمو نتيجة لظروف نفسيَّة، وليس لخلل بيولوجيٍّ في الطفل.
لم تقتصر الدراسة على المتابعة، بل وفرت خطَّة علاجيَّة تلبي احتياجات الأطفال الجسدية والنفسية، وتعمل على تمكين الأمهات ومساعدتهن لتطوير علاقة أكثر صحية مع أطفالهن، وذلك من خلال التركيز على تحسين أساليب التواصل والمحافظة على القرب بين الأمهات والأطفال. وقد اضطر المختصون في بعض الحالات الصعبة، لإخراج الأطفال من بيوتهم الأصلية واحتضانهم ضمن عائلات بديلة لتعويضهم عن احتياجات الأمان العاطفية.
وبعد 20 عامًا من المتابعة والعلاج، وجد الباحثون أنَّ هناك ازديادًا في عدد الأشخاص ذوي نمط الترابط الآمن، فبعد أن كان في المجموعة 14 طفلًا ذا ترابط آمن أصبح فيها 22 شخصًا بالغًا يتسمون بهذا النمط. بالإضافة لذلك، انخفض عدد الأشخاص ذوي نمط الترابط القلق، من 9 أطفالٍ في بداية الدراسة إلى شخصٍ بالغٍ واحد لم يؤثر العلاج في نمط ترابطه، بينما لم يشهد أي تغير في عدد الأشخاص ذوي نمط الترابط المتمنع.
وعليه، يمكن القول بأنه من شأن العلاقة مع الوالدين في الطفولة أن تجعل من نمط الترابط دليلًا إرشاديًّا للسلوك في العلاقات اللاحقة كلِّها بشتَّى أنواعها، وأن هذا الدليل يرافق الأشخاص طيلة العمر، لكن يظل لديهم الفرصة لإعادة كتابته وتشكيله.
وأخيرًا، هناك تجارب ومحطات في حياتنا، قد تكون على شاكلة معلم يؤمن بقدراتنا أو ملاذ آمن ثابت في هيئة شريك وحبيب أو معالج نفسيٍّ يعيد تشييد القواعد الأساسيَّة؛ قد تضغط على زر إعادة التشغيل وتمحو الدليل العنيد المكتسب في طفولتنا وتحيله صفحة بيضاء نعيد تشكيل ترابطنا عليها من جديد.
وفي المحصلة يمكن القول بأن الوعي وفهم دواخلنا كفيل بجعلنا ننضج، سواء أفراد وشركاء، في العلاقات، والوعي لنمط الترابط الداخليِّ يعني إدراكنا لذواتنا ولردود أفعالنا وللعوامل الكثيرة التي شكلتنا، وقد يكون هذا الوعي كفيلًا لمعرفة فجواتنا الداخليَّة وتدارك التهاوي المستمر فيها.