تأسست الإمبراطورية المغولية في الهند عام 1526 على يد «ظهير الدين محمد بابر شاه»، واستمرت حتى عام 1858، وخلال تلك الفترة اعتلى عرش الإمبراطورية 17 حاكمًا، وكان حكام الإمبراطورية المغولية في بداية عهدهم منفتحين للغاية، وكان المجتمع يتألف من عدة طوائف أغلبها من الهندوس، وظل حكم المغول غير قائم بالأساس على التحيز الديني لدين بعينه على حساب الآخر، إلى أن جاء الإمبراطور السادس «أورنكزيب»، الذي قرر أن يطبق نسخة صارمة من الشريعة، وفرض الجزية، والخراج، والكثير من الإجراءات التي تتعلق بأصحاب الديانات الأخرى.
كان لهذه السياسات التي اتبعها أورنكزيب أثرها في إثارة الجدل حوله؛ ففي حين يراه البعض «سادس الخلفاء الراشدين»، ونموذجًا للحاكم العادل، يراه آخرون أنه أول من فتح الباب للاستعمار بتفتيته للمجتمع عبر فرض قواعد صارمة ضايقت أصحاب الأديان الأخرى، لذا دعونا في هذا التقرير نلقي سويًا نظرة على سادس حكام دولة المغول الهندية السلطان أورنكزيب.
الإمبراطور المسلم يصنع دينًا جديدًا!
أي بني: إن دولة الهند مليئة بالعقائد المتباينة، والحمد لله العلي المجيد أن وهبك الله ملكها، وإنه لمن الصواب أن نقدم بقلب خال من كل تعصب ديني على نشر العدل تبعًا لعقائد كل جماعة من الناس، وبوجه خاص أن تمتنع عن ذبح البقر، فإن هذا هو السبيل لامتلاك قلوب الشعب في هندستان، والهياكل وأماكن العبادة التابعة لكل فرقة دينية تحت حكمك يجب ألا تخربها، وإن انتشار الإسلام ليتحقق بسلاح العطف والمحبة خير مما يتحقق بسلاح الضغط والاضطهاد، وتجاهل النزاع والتخاصم بين الشيعة والسنة، فإن هذا منبت الضعف في الإسلام، وضم الرعايا من مختلف العقائد حول الأسس الأربعة بحيث يصبح كيان الدولة محصنًا ضد عوامل الضعف المختلفة.
هذا بعض ما جاء في وصية مؤسس دولة المغول في الهند ظهير الدين محمد بابر إلى ابنه الأمير ناصر الدين محمد هاميون يوضح له فيها سياسته في كيفية التعامل مع أصحاب الديانات المختلفة في ظل حكمه؛ إذ سار على هذا النهج الأباطرة من بعده.
فقد تميزت الهند بانتشار العديد من الديانات المختلفة والأفكار الفلسفية؛ مما ترك تأثيره في دولة المغول المسلمة التي حكمت بلاد الهند، وظهر تأثير التنوع الديني على ملوك المغول خاصة على الإمبراطور جلال الدين أكبر الذي أراد أن يرتكز حكمه على أساس قوي من حب رعاياه ورضائهم بصرف النظر عن عقائدهم ومذاهبهم.
لم يفرق الإمبراطور أكبر بين الأديان المنتشرة في ربوع الهند، بل ضم زعماءهم وأتباعهم إلى بلاطه، فكان اندماج رؤساء الهندوس ضمن الهيئة الحاكمة من أبرز مميزات عهد أكبر، حتى أن مدير بيت مال الدولة كان هندوسيًا، واستمرارًا لمحاولة كسب ولاء الهندوس جعل ضريبة الأراضي هي الضريبة الأساسية، وألغى الجزية، و50 نوعًا آخر من الضرائب الصغرى، وكذلك تزوج أكبر من زوجة هندوسية، وبعد بضع سنوات تزوج أكبر من بعض أميرات الراجبوت الهندوسية في ولايتي جايسالمير وبيكانير.
وبلغ الانفتاح بالإمبراطور أكبر أقصاه حين حاول دمج الأديان معًا في دين جديد، وأطلق عليه الدين الإلهي، ولتحقيق هذا الهدف أنشأ أكبر ديوان خاص أطلق عليه بيت العبادات، وجمع فيه رجال الديانات المختلفة، وكلفهم بانتقاء الدين الجديد على أن يكون خليطًا من كل الأديان يجمع أفضل ما فيها، وتتلخص أصوله في توحيد الله، وتضم طقوسه بعض الأسس المستمدة من الهندوسية والزرادشتية.
وبسبب مغالاته في تقديس الأديان الأخرى، وإعلانه الدين الإلهي، أظهر الكثيرون من المسلمين الاستياء من تصرفات أكبر، واعتبروا دينه الإلهي كفرًا وإلحادًا، فنفى هو في المقابل عددًا كبيرًا من علماء المسلمين وشيوخهم.
لوحة لأكبر
وقد تبع الإمبراطور جهانكير خطا والده أكبر، وتقرب من الهندوس، فقد كانت أمه هندوسية، كما تزوج هندوسية من قبائل الراجبوت، إلا أن الأمور لم تستمر طويلًا بهذه الصورة؛ فقد تقرب علماء السنة إلى جهانكير، وبدأ يستمع إليهم، ويأخذ بنصائحهم، حتى اقتنع الإمبراطور بإلغاء المظاهر التي ارتبطت بالدين الإلهي مثل السجود للإمبراطور، ومنع ذبح الأبقار، وبدأ الاهتمام بتعليم الدين الإسلامي، وبناء المساجد المهدمة، واستمر تأثير الدعوة السنية على الإمبراطور شاه جهان، ومن بعده ابنه أورنكزيب.
الأخوة الأعداء.. الطريق للحكم يبدأ من سجن الأب!
كان أورنكزيب الابن الثالث للإمبراطور شاه جهان وزوجته ممتاز محل، ورغم أن والده قد عين أخيه «دارا» لولاية العهد، إلا أن أورنكزيب تمكن من السيطرة على حكم البلاد وأصبح إمبراطور الهند من 1658 إلى 1707، وتمكن من الحفاظ على إمبراطورية المغول في ظل حكمه وضم إليها بعض المساحات جنوبًا حتى تانجور (ثانجافور الآن) وتريشينوبولي (الآن تيروتشيرابالي).
ولد أورنكزيب في نوفمبر (تشرين الثاني) 1618 في مدينة مالوا شمالي غرب الهند، وأعطاه والده اسم محمد عند ولادته، ولكنه غيره فيما بعد إلى أورنكزيب، وتعني زخرفة العرش، وفي وقت لاحق اكتسب ألقاب إضافية مثل مُحيي الدين، و«عالمكير» أي فاتح العالم.
تمتع أورنكزيب بالخبرة السياسية والعسكرية التي أهلته لتولي حكم مملكة المغول في الهند، فقد بدأ والده في إعداده عسكريًا منذ صغره، وأرسله إلى قوات الجيش في ديكان (حاليًا هضبة ديكان أو الدكن في إقليم جنوب الهند جنوبي نهر نارباد)، في محاولة لإخماد إحدى الثورات الكبرى للشيعة، واستطاع النجاح في المهمة، وأصبح واليًا للإقليم عام 1636. وفي عام 1645 عُين أورنكزيب حاكمًا على إقليم كوجرات (جنوب راجبوتانا ناحية بحر العرب)، وبعد عامين أصبح حاكمًا على منطقة ملتان (في باكستان حاليًا)، وحينها تمكن من إخضاع العديد من المناطق المجاورة. وفي عام 1653 نُصب أورنكزيب واليًا على الدكن من جديد، وظل فيها حتى عام 1657.
وكانت ولايته للدكن بداية صراع بينه وبين الشيعة الهاربين بعدما تمكن والده السلطان شاه جهان من تحطيم ملكهم في مملكتي بيجابور وكولكندة اللتين ظلتا تدينان بالمذهب الشيعي ما بين 1595 حتى 1636؛ مما أدى إلى هروبهم في جميع أرجاء الهند خاصة في جنوبي الدكن.
وبعد مرور ثماني سنوات في ولاية الدكن، بعث شاه جهان ولده أورنكزيب في مهمة عسكرية لردع القبائل الأفغانية المتمردة على عرش المغول، خاصة قبائل الأوزبك، وحينها ثارت قوات الشيعة في ديكان، فبعد أن ترك أورنكزيب الدكن تمكنوا من جمع شتاتهم وتمردوا من جديد، فما كان من شاه جهان إلا تنصيب أورنكزيب واليًا عليها من جديد في عام 1653 حتى عام 1657، وقد اكتسب أورنكزيب الخبرات الكتيكية والعسكرية خلال تلك الفترة مما سمح له بإثبات ذاته سياسيًا وعسكريًا قبل أن يعتلي عرش إمبراطورية المغول.
لوحة لأورنكزيب
ولكن لا تأتي الرياح دائمًا بما لم تشتهي سفن أورنكزيب، فقد عين شاه جهان ابنه دارا شيكوه، حاكم كابول وملتان (في باكستان حاليًا)، وليًا لعهده، وجعل أورنكزيب حاكمًا لإقليم الدكن، ومحمد شجاع حاكمًا لإقليم البنغال، أما مراد بخش حاكمًا على إقليم كجرات، وعندما مرض شاه جهان مرضًا شديدًا عام 1657، استولى دارا على الفور على مقاليد الحكومة وأقام في دلهي، ولم يرض الأخ الثاني «شجاع» حاكم البنغال عن الأمر، وقاد جيشه للمنازعة على العرش.
نظرًا لأفكاره المتحررة وبراعته في الفلسفة والسياسة، التف أغلب زعماء قبائل الهندوس حول الأمير دارا لمناصرته من أجل الوصول إلى سدة الحكم بعدما وجدوه من رفض إخوته لتوليه الحكم، فقد كان تسيير دارا لأمور الحكم مثيرًا لقلق الأخوة، وظنوا أن دارا قتل والدهم واستولى على العرش؛ مما دفعهم للصراع ومحاولة السيطرة عليه.
تمكن أورنكزيب من كسب أخيه الأصغر مراد بخش، حاكم ولاية الكجرات في شمال غرب الهند في صفه، فأخبره بأن أخويه الأكبر سنًا لا يستحقان المملكة، وأقنعه بأنه لا يطمح في الحكم لفترة طويلة، وإنما يريد أن يضمن تواجد ملكًا صالحًا للبلاد، ثم يتفرغ للعبادات والممارسات الدينية، وتأدية فريضة الحج إلى مكة.
انتصر دارا على شجاع، لكن قوات أورنكزيب ومراد تمكنوا من هزيمة دارا في معركة ساموجره عام 1658، وكان شاه جهان قد استرد عافيته حين بدأ أورنكزيب في تعزيز سلطته، فحبس والده في قصره الخاص في أغرة (مدينة جنوب العاصمة الهندية نيودلهي)، حيث ظل محتجزًا طوال السنوات الثماني المتبقية من حياته.
وأثناء تعزيز سلطته، تسبب أورنكزيب في وفاة أخيه مراد بحسب بعض الروايات، فبعدما استقرت الأمور، أعلن أورنكزيب أنه سيتخلى عن العرش لأخيه مراد، وأقام احتفالًا كبيرًا للإعلان عن هذا الأمر، ورتب الأمر مع كبار مستشاريه ليبالغوا في استقبال الأمير مراد ويخاطبونه صاحب الجلالة كي يكسبوا ثقته أثناء الاحتفال.
تبادل الأخان الكلام أثناء تناول العشاء، ثم أُحضرت زجاجات من النبيذ، وانسحب آنذاك أغلب المدعوين ومعهم أورنكزيب ليتركوا الحرية للأمير في مجلسه، وورغم عدم شرب مراد للكثير، إلا أنه غلبه النعاس، فانصرف خدمه ومستشاريه ليتيحوا له الفرصة للنوم، وهنالك عاد أورنكزيب وركل أخيه برجله ليوقظه.
اندهش الأمير مراد، إلا أن أورنكزيب بادره بعبارات ثقال يلومه فيها على شربه فقال: «ياللعار والحطة، وأي ملك يكون مثلكم، إذ كيف تنحط أخلاقك لدرجة أن تبيح لنفسك أن تكون سكيرًا»، وأمر أورنكزيب حراسه بتقييد الأمير مراد واصطحابه إلى إحدى الغرف حتى يفيق، لينادي الجميع مع طلوع الصبح بأورنكزيب ملكًا. وأودع مراد في سجن دلهي، ونُفذ فيه حكم الإعدام دون محاكمة.
ولما لم يرض دارا بما آلت إليه الأمور، أفتى العلماء في سراي الملك بكفره لخروجه على أخيه أورنكزيب الحاكم الشرعي، وحُكم عليه بالإعدام، أما شجاع، فقد هُزم في آخر معاركه وهرب إلى أراكان حيث مات، وقُبض على «محمد سلطان» الابن الأكبر لأورنكزيب الذي كان يساعد عمه شجاع، وأُلقي في قلعة جواليور، وتوفي بعد سبع سنوات من الحبس، وحافظ أورنكزيب على الإمبراطورية لما يقرب من نصف قرن، ولكن طريقة تطبيقه للشريعة الإسلامية جعلته محل جدل كبير بعد ذلك.
مواصفات الحاكم المسلم في ذهن أورنكزيب
من الواضح يا جلالة الملك أن الله تعالى قد أنعم بمنح ثقته للشخص الذي يتحمل واجب وعبء إسعاد رعاياه وحماية شعبه، ومن الواضح الجلي للعقل أن الذئب لا يصلح راعيًا للغنم، ولا الرجل الضعيف خفيف الطموح يستطيع أن يقوم بأعباء وواجبات الحكام الأقوياء العظام، والحكم يا جلالة الملك يعني حماية الشعب والحفاظ على حقوقه، وليس الانغماس في الملذت والشهوات الدنيوية الذائلة
هذه شروط الملكية الصحيحة التي يراها أورنكزيب وأرسلها إلى والده شاه جهان في فترة توليه الحكم، وتعكس نشأة أورنكزيب وتبنيه النظرية فقهية لنظام الحكم قبل أن يتسلم السلطة، وكان شاه جهان قد حرص على تعليم أورنكزيب منذ صغره، فعين العديد من العلماء للتعليمه الحساب والفلك واللغة، كما عين له علماء ومرشدين سنة فتمكن من حفظ القرآن الكريم وأجزاء من السنة وهو في سن صغيرة.
وكان لأولئك العلماء الكثير من الأثر على حياته السياسية فيما بعد، فقد ساعدوا على تنشئته متشبثًا بالعقيدة الإسلامية، كما برع في فنون كتابة الخط العربي، ونسخ المصحف بخط يده قبل أن يتولى حكم الهند، وبعث بالنسخة إلى مكة، ونسخه بعد توليه الحكم مرة أخرى وأرسل النسخة إلى المدينة.
إلغاء الموسيقى وهدم التماثيل وفرض الجزية
بعد تولى أورنكزيب الحكم، أصدر العديد من القرارات التي أراد بها أن يكون حكمه وفقًا للشريعة الإسلامية، فألغى العمل بالتقويم الشمسي الذي اتخذه أكبر ومن جاءوا بعده، وبدأ العمل بالتقويم الهجري، وخلال العام الثاني من حكمه، أصدر أورنكزيب قراره بإعادة منصب المحتسب الذي ألغاه الإمبراطور اكبر عام 1583، ويهتم المحتسب بالأمر بالمعروف، ويعد رقيبًا على الأخلاق والسلوك في المجتمع، وكان من أبرز المهام التي أوكلها أورنكزيب للمحتسب مراقبة البالغين والتأكد من أدائهم الصلوات الخمسة في مواعيدها، ومنع تناول الخمور والنباتات المخدرة، وقد أنشأ أورنكزيب مجلسًا للعلماء لجمع الفتاوى وآراء أئمة المذهب الحنفي الذي كان يتبعه، وأمر بترجمتها إلى الفارسية ليستفيد منها جميع المسلمين.
كما ألغى أورنكزيب بعض الممارسات غير الإسلامية مثل تقليد «جهاركا إيدارا شام» الذي بدأ العمل به أثناء حكم شاهجهان، وفيه يظهر الإمبراطور كل صباح في شرفته لينحني إليه الجماهير والمارة لتقديم الولاء والطاعة، وهو ما أعده أورنكزيب مخالفًا للشريعة الإسلامية. وفي العام الثاني عشر من حكمه، أصدر أورنكزيب أوامره بحظر الغناء والرقص والموسيقى في أنحاء الإمبراطورية، وأمر بملاحقة الموسيقيين، ومنعهم من إحياء الاحتفالات حتى ذات الطابع الديني، مثل الاحتفال بذكرى المولد النبوي، وكذلك أصدر أورنكزيب قرارات بمنع ارتداء الرجال للذهب، وحظر استخدام الأواني الذهبية والفضية في البلاط.
امتدت قرارات أورنكزيب الجديدة لتطال بناء المعابد الدينية، وكانت الطوائف الدينية من غير المسلمين تتمتع بحرية بناء معابدهم الخاصة وترميمها وزيادة مساحتها خلال عهد الأباطرة المغول مثل أكبر وجهانجير، وحاول شاهجهان الحد من هذه الظاهرة، إلا أن عمليات البناء والترميم كانت لا تزال قائمة، ولكن حينما تولى أورنكزيب حكم البلاد، حظر منح تصاريح جديدة لبناء منشآت دينية لغير المسلمين عام 1659، لكنه أبقى على المعابد القديمة مصانة وإن حدث وهُدم أحدها، فيحق بناء معبد آخر على المساحة ذاتها دون زيادة، وقد أصدر أورنكزيب تعليماته بهدم جميع المعابد غير القانونية التي بنيت خلال العقد السابق.
وفي عام 1669 أصدر أورنكزيب أوامره لحكام بعض الأقاليم مثل بنارس في إقليم ملتان، وكانت أهم المراكز الهندوسية في جنوب الهند، بإزالة جميع المدارس الموجودة داخل المعابد الهندوسية والتي تهتم بتعليم الهندوسية للطلاب، وتزامنت تلك الإجراءات مع ذبح الأبقار وتحطيم التماثيل الكائنة في الشوارع العامة، وفي عام 1670 أمر بهدم معبد كشاف راي الذي كان الهندوس قد أنفقوا على ترميمه أكثر من 3 ملايين روبية لأنه كان مخالفًا للتصاريح، ولما انتهى المسؤولين من هدم جميع قواعده، بنوا مسجدًا على أنقاضه، وجُمعت جميع التماثيل التي كانت بداخله، وأرسلت إلى أورنكزيب الذي أمر بدفنها تحت عتبات المساجد.
لم تقتصر سياسات أورنكزيب على هدم المعابد فحسب، بل منع حرق الهنود موتاهم على ضفتي نهر نربدا في أحمد أباد، كما أمر بإغلاق جميع الينابيع الحارة بسبب ممارسات الهنود لطقوسهم الدينية هناك، واقتصر استخدام هذه الأماكن على معالجة الأمراض فقط، كما منع أورنكزيب الاحتفال بالربيع منذ عام 1665 بسبب الاحتفالات الموسيقية الراقصة، كما منع الاحتفال بمهرجان ديبفالي الذي كان يحتفل به الهندوس بإشعال مصابيحهم عند الأضرحة.
وفي عام 1671 أصدر اورنكزيب قرارًا بمنع توظيف الهندوس في مناصب مراقبي الأجور، وجعل هذه الوظيفة مقتصرة على المسلمين، كما أمر نوابه في جميع الولايات بالتخلي عن كبار الكتبة والمحاسبين من الهندوس ليحل مكانهم المسلمون.
لكن على الجانب الآخر ألغى أورنكزيب العديد من الضرائب المفروضة على الشعب ومن بينها ضريبة الراهبنداري أو ضريبة المرور وكانت تجمع من المسافرين عبر الأقاليم، ولكن بسبب النقص الكبير في إيرادات الدولة، أصدر أوامره بفرض ضرائب جديدة من بينها ضريبة فرضها عام 1662 تشبه ضريبة المرور، ولكن فرضها على الحجاج الهندوس المسافرين إلى الأضرحة الهندوسية وأماكنهم المقدسة، وكان أكبر قد أوقف العمل بتلك الضريبة عام 1563، وفي عهد أورنكزيب كان ما يدفعه المسلمون من الضرائب أقل قيمة مما يدفعه الهندوس في الضريبة ذاتها، ففي حين كان يدفع المسلمون ضريبة 2.5% على رؤوس الماشية، كان غير المسلمين يدفعون 5%.
وكان فرض الجزية في عام 1679، إحدى خطوات أورنكزيب نحو فرض الشريعة الإسلامية بحسب تصوره، وهو ما تسبب في تمرد الهندوس والسيخ، وباقي سكان الهند من غير المسلمين، وكان الإمبراطور أكبر قد ألغى ضريبة الجزية، وقد تبعه جهانكير وشاه جهان في تنفيذ هذه السياسة.
وقد اعترض غير المسلمين على فرض الجزية التي قد ألغيت طيلة ثلاثة أجيال سابقة، خاصة وقد فرض الإمبراطور أورنكزيب تحصيلها بقوات خاصة، وخرج الهندوس للاحتجاج على السياسة الجديدة مطالبين بإلغائها مرة أخرى، إلا أن الإمبراطور ضرب بمطالبهم عرض الحائط، واستمر الهندوس في الاحتجاج، وأغلقوا الطريق المؤدية إلى المسجد الذي يصلي فيه الإمبراطور يوم الجمعة، وحينما خرج لأداء الصلاة، لم يتمكن موكبه من المرور وسط الحشود.
وبسبب كثرة التجمعات من المعترضين أصدر الحرس أوامره بفض الاعتصام، ولما لم تستجب الحشود، استخدم الحرس الأفيال في تفريقهم، وسقط العديد من الجرحى، واستمرت التظاهرات عدة أيام أملًا في أن يغير الإمبراطور قراره، كما بعث إليه بعض كبار راجات الهندوس رسائل مطالبين فيها الإمبراطور بالعدول عن قراره، إلا أن أورنكزيب صمم على تنفيذ قراره.
بتلك الخطوات، خالف أورنكزيب من سبقوه من حكام مغول الهند، فقد جعلوا للمصالح السياسية والاقتصادية كما يروها الغلبة على تطبيق قواعد الفقهاء، وقد وفرت هذه البراجماتية تماسك أكبر للمجتمع، ولاقت هذه السياسة رضا زعماء قبائل الهندوس وولاءهم لحكام المغول خاصة الإمبراطور جلال الدين أكبر.
لوحة تصور أورنكزيب في إحدى غزواته
مثلما أورد دكتور أحمد الجوارنة رئيس قسم التاريخ جامعة اليرموك في الأردن في كتابه «عالمكير الأول (أورانجزيب) إمبراطور الهند الكبير»، فقد اختلف المؤرخون حول سبب اشتعال الثورات في وجه الإمبراطور، فعلى سبيل المثال، يرى المؤرخ الأمريكي ستانلي ولبرت (المتخصص في التاريخ السياسي والفكري للهند وباكستان) أن الثورات الداخلية في عهد أورنكزيب وقف وراء اندلاعها دوافع اقتصادية أكثر من الدوافع الدينية بسبب التشديد على تحصيل الجزية، في حين يرى المؤرخ الهندوسي شارما (متخصص في تاريخ العصور القديمة و الهند في العصور الوسطى المبكرة) أن التعصب الديني والعقائدي هو السبب الأكبر لاندلاع الثورات.
وقد تسبب تمسك أورنكزيب بفرض الجزية في خسائر شخصية، فقد خسر ابنه جراء ذلك، فعقب فرض الجزية، تمردت العديد من القبائل، ومنها قبائل الراجبوت (كانت تسكن غرب ووسط وشمال الهند وشرق باكستان) الهندوسية التي أسند أورنكزيب مهمة حربهم لابنه «محمد أكبر»، لكنه لم يفلح في المهمة؛ مما دعا والده إلى عزله من الجيش، واغتنم الراجبوت الفرصة، وأوغروا صدر الأمير تجاه والده، والتفوا حوله معلنين ولاءهم له ملكًا على الهند، وكان الأمير ضد سياسات والده الدينية، ولديه أفكار أكثر مرونة من الناحية الدينية؛ مما زاد من شعبيته لدى الهندوس.
في هذا الموقف تجلت حنكة أورنكزيب السياسية ودهائه، فحينما قدم إليه ابنه الأمير مدعومًا بقوات الراجبوت للاستيلاء على الحكم، بعث الإمبراطور خطابًا إلى ابنه، لكنه أراد وقوعه في يد زعماء الراجبوت أثنى فيه على قدرة ولده في خداع القادة واستقدامهم ليقعوا في فخ الإمبراطور وابنه، ليفهم بذلك زعماء الراجبوت أن الأمير كان متفقًا مع والده للإيقاع بهم، فتركوه وانصرفوا عن محالفته ليفقد الأمير غالبية العساكر في القوات، ففر هاربًا نحو الدكن جنوبي الهند، وبعدها إلى بلاد فارس حيث مات.
السيخ في عهد الإمبراطور أورنكزيب
كانت من أبرز مظاهر التسامح لدى الإمبراطور أكبر تقديمه الرعاية لزعماء طائفة السيخ وأتباعهم في الهند، ومنحهم أرضًا خاصة في مقاطعة البنجاب ليبنوا عليها معبدهم، ومنح زعيمهم رام داس مكانة رفيعة في البلاد، وأغدق عليه بالأموال، كما منحهم حرية نشر معتقداتهم الدينية في الهند.
ولكن حينما جلس أورنكزيب على عرش الهند، أظهر عداءه لطائفة السيخ لأنهم كانوا موالين لأخيه دارا، وكانوا يساندونه في تولي العرش، وأرسل أورنكزيب في طلب زعيمهم تيك بهادر الذي أعلن صراحةً عداءه لعرش المغول، وأثناء مسيرته للذهاب إلى الإمبراطور، قبض الجنود المغول عليه، فطلب منه أن يعتنق الإسلام، إلا أن بهادر رفض ذلك، فأمر أورنكزيب بسجنه، ثم أمر بقتله بعد خمسة أيام؛ مما أشعل الحرب بين السيخ والمسلمين.
أورنكزيب في تاريخ الهند كما رواه مؤرخوها
في حين أجمع أغلب مؤرخي المسلمين ممن كتبوا عن أورنكزيب أنه لم يجلس على عرش الهند من هو في عدله وتقواه وشجاعته وسداد رأيه، جاء رأي المؤرخين الأوروبيين مغايرًا لذلك، فقد اعتبروا الإمبراطور أكبر أعظم من حكم بلاد الهند من حكام المسلمين.
ولكن بحسب المستشرق الإنجليزي هنري إليوت في كتاب «The history of India as told by its own historians»، فإن أورنكزيب كان خلال عهد والده يوزع على الفقراء 149 ألف روبية كل عام، كما عُرف بأخلاقه الرفيعة وعاداته الطيبة وارتباطه بالدين، وكان من أتباع مذهب أبي حنيفة، ويحافظ على صلواته، ويصوم أيام الجمعة والأيام المقدسة في الإسلام، ويقيم الليل في المسجد الموجود في قصره، ويقرأ القرآن في مجالس المتدينين والمتعلمين، إلا أنه لم يتسن له تأدية فريضة الحج، لكنه بذل الكثير من الأموال لتعزيز مرافق الحجاج.
وكما جاء في الكتاب، كان أورنكزيب لا يلبس الثياب المحرمة في الشريعة الإسلامية كالحرير، ولا يستخدم الآواني المصنوعة من الذهب والفضة، ولا يسمح في مجالسه بقول الغيبة والنميمة، وقد نأى أورنكزيب بنفسه عن إصدار أوامر القتل أثناء غضبه أو تحت الإملاءات العاطفية، وفي شهر رمضان، كان يوزع 60 ألف روبية، وفي الأشهر الأخرى مبالغ أقل، على الفقراء. وأنشأ موائد مجانية للطعام في العاصمة والمدن الأخرى، حيث يُقدم الطعام للضعفاء والفقراء، كما أنشأ بيوتًا لإيواء المسافرين.
أما عن تعامله مع أصحاب الديانات الأخرى، فقد أقصى الهندوس تمامًا من تولي المناصب العامة، ودمر جميع دور عبادتهم، في حين أصلح جميع المساجد في الإمبراطورية على النفقة العامة، كما منح الأئمة الكثير من المال، وأصدر الأوامر الملكية بتحصيل إيرادات كل محافظة وفق الشريعة الإسلامية.
هل كان أورنكزيب سببًا في فتح باب الاستعمار؟
لحسب ما جاء في رسالة لنيل درجة الدكتوراه للباحث نصير أحمد نور أحمد من كلية الشريعة والدراسات الإسلامية جامعة أم القرى في المملكة العربية السعودية بعنوان «شركة الهند الشرقية الإنجليزية منذ تأسيسها حتى سقوط دولة المغول الإسلامية»، كان الساحل الغربي للهند مفتوحًا أمام التجار البرتغاليين، منذ عهد الإمبراطور أكبر الذي حرص على توطيد العلاقات مع الجانب البرتغالي عبر إرسال واستقبال البعثات بين الطرفين، كما وصل التجار غلى العاصمة الهندية لبيع بضائعهم.
وفي النصف الثاني من القرن السادس عشر، نجح الهولنديون والإنجليز والفرنسيون في القضاء على احتكار البرتغاليين للتجارة على سواحل الهند، ونجح الإنجليز في عام 1600 في تأسيس شركة تجار لندن (فيما بعد شركة الهند الشرقية الإنجليزية) للقيام بمهام التجارة المباشرة مع الهند، واحتكرت حق التجارة الهندية، والجزر الشرقية، مع منع سائر البريطانيين من مزاحمتها حتى قرار برلماني عام 1694 سمح لجميع البريطانيين الإتجار في أية منطقة في العالم، بما في ذلك جزر الهند الشرقية.
كانت هولندا قد دمجت مؤسساتها التجارية عام 1602 بتأسيس شركة الهند الشرقية الهولندية، وكان رأس مالها أكبر 10 مرات من نظيرتها الإنجليزية، وتمكنت من تأسيس عشرات المقرات والمراكز في الهند، ولم يقتصر الاهتمام بالتجارة في الهند على إنجلترا وهولندا، ومن قبلهما البرتغال، بل لحقت بها فرنسا والدنمارك، وغيرها من دول أوروبا.
وقد رست أول سفن شركة الهند الإنجليزية على الساحل الغربي لدولة المغول عام 1608 في عهد الإمبراطور جهانكير، وكثفت الشركة جهودها لإنشاء فروع لها على السواحل الهندية مقابل أموال ضرائب وهدايا تُدفع للسلطات المحلية، وكانت الشركات في ذلك الوقت لديها الحق من الدولة التابعة لها في تأسيس شرطة ومستودع مسلح في مقراتها المحاطة بأسوار وأبراج لحماية المقيمين فيها.
وكانت العلاقات بين جهانكير والتجار الإنجليز جيدة، ومنحهم امتيازات تجارية عديدة، وتمكنوا من زيادة عدد مراكزهم التجارية، حتى أصبحوا في عهد الإمبراطور شاهجهان 23 مركزًا تجاريًا، وزاد تواجد الإنجليز بعد القضاء على البرتغاليين على إثر مهاجمتهم السفينة التي كانت تقل عمة الإمبراطور شاهجهان إلى الحج، واستولوا على كل ما فيها قبل إطلاق سراحها، وهو ما دفع شاهجهان إلى مهاجمة البرتغاليين والقضاء على تواجدهم.
مع تولي أورنكزيب الحكم، أراد الإنجليز الحصول على مرسوم التجارة مثلما حدث مع من قبله، فالمرسوم كان يظل ساريًا مع استمرار حكم من أصدره، ويجب التجديد مع تولي السلطة حاكم جديد، ومع بدء العهد الجديد، حاول الإنجليز الحصول على مرسوم يعفيهم من العوائد الجمركية، إلا أن هذا لم يفلح، وتوالت على الشركة فيما بعد عدد من الرؤساء الذين استفادوا من رأس مال الشركة لصالح أعمالهم الخاصة، وكتبوا في تقاريرهم أن الابتزاز الجمركي للسلطات المغولية هي السبب في خسائر الشركة، واستمر الإنجليز في محاولاتهم المستمرة للحصول على الإعفاء من الرسوم الجمركية والتهرب من دفعها.
منح حاكم البنغال الإنجليز التصريح الذي كانوا يسعون إليه، ولكن الإمبراطور أورنكزيب بعث إليه تعليمات بضرورة تحصيل الرسوم الجمركية من جميع بضائع الشركة الإنجليزية، فلم يجد الإنجليز أمامهم سوى محاولة الحصول على فرمان بالامتيازات من الإمبراطور نفسه، وقد منحهم بالفعل فرمان عام 1680 يمنع أي أحد من التعرض لتجارة الشركة، باستثناء المطالبة بالرسوم الجمركية، وبدأ تنفيذ الفرمان بعد عامين.
أثناء تجديد الملك الإنجليزي جيمس الثاني لميثاق الشركة عام 1683، منح الشركة الحق في اتخاذ قرار الحرب او السلم مع الحكام في الهند من أجل تدعيم موقفها، وأكدت الشركة لوكلائها في الهند ضرورة الاتحاد ضد حكام المغول واستمرار الامتناع عن دفع الرسوم الجمركية، وفي عام 1686 حصلت الشركة على موافقة الملك جيمس الثاني بشن الحرب على حاكم البنغال والإمبراطور أورنكزيب، ولكن مع تصدي القوات تمكن حاكم البنغال من الاستيلاء على مؤسسات الشركة هناك عام 1687.
لم يستسلم الإنجليز، وهاجمت قوات تابعة لهم الساحل الغربي، وتمكنوا من الاستيلاء على سفن المغول في سواحل بومباي، وهاجم المغول جزيرة بومباي، واستمرت الحرب حتى أعلن رئيس الشركة السير جوزيا تشيلد استسلامه في بدايات عام 1690.
أصدر اورنكزيب في فبراير (شباط) من العام ذاته فرمانًا بالعفو عن الإنجليز بعد دفع غرامة مالية، وسمح لهم بممارسة تجارتهم على أرض البنغال مقابل دفع مبلغ من المال سنويًا، وتمكنت الشركة في السنوات التالية من تقوية موقفها في البنغال.
بعد ذلك أسس الإنجليز شركة جديدة ودمجوها مع القديمة، وأرادوا حينها الحصول على امتيازات أكبر في التجارة، إلا أن أورنكزيب توفي في فبراير عام 1707، دون أن يعترف باتحاد الشركتين، أو يمنحهما فرمانًا بتوسيع الامتيازات، ومع رحيله أراد الإنجليز الحصول على مرسوم التجارة من الحاكم الجديد؛ لتتمكن من استكمال تجارتها، والحصول على امتيازاتها.
تحارب أبناء اورنكزيب للفوز بالعرش، وهنا استغلت الشركة الوضع القائم وعززت قوتها العسكرية في البنغال، وبدأت في استغلال ضعف الدولة وتفككها من أجل احتكار التجارة والقضاء على شركتي الهند الهولندية والفرنسية. استمر الصراع حتى وصل ذروته في عهد الإمبراطور عالمكير الثاني (1754/ 1759) الذي لم يتعد حكمه حد العاصمة، في حين تحول حكم الأقاليم الأخرى إلى حكم وراثي يتصارع عليه الكثيرون، ويستعينون في سبيل الوصول إليه بالشركات الأوروبية، واستغلت الشركة الإنجليزية الضعف المستشري في البلاد، وأخذت في الاستيلاء على الكثير من الأراضي الهندية كما قضت على الشركتين الفرنسية والهولندية، وكانت معركة بلاسي عام 1757 التي هُزم فيها البنغاليون على أيدي الإنجليز بداية للاستعمار البريطاني في الهند.