اشتهر الحزب الجمهوري في السنوات الماضية بسياساته التقشفية، إذ كان يلقي دائمًا باللوم على الرئيس الأمريكي السابق بارك أوباما، حول تكاليف نظام التأمين الصحي المعروف باسم «أوباما كير» لزيادة الإنفاق، كما يحمل الحزب أوباما مسؤولية التعثر الاقتصادي الواضح للولايات المتحدة وأزمة الضرائب.
وتظل أمريكا هي القوة الاقتصادية الأكبر في عالم مترابط الأجزاء بشدة، ومع الإدارة الاقتصادية الجديدة، التي تعتمد على سياسات الحماية والانعزالية، وعلى شعار «أمريكا أولًا»، يصف البعض هذا الاتجاه الجديد بأنه كارثة اقتصادية تنتظر العالم، لكن ما حجم مشاركة الجمهوريين في هذا الأمر؟
كثف الحزب الجمهوري من معارضته لرئاسة أوباما، بسبب سياسة الإنفاق الفيدرالية، التي كان يرى الحزب وجوب انخفاضها كثيرًا، إذ وصلت المعارضة إلى حد مطالبة السناتور راند بول وقف مساعدة واشنطن المالية السنوية لإسرائيل.
الجمهوريون طالبوا مرارًا وتكرارًا بالتقشف في الإنفاق الحكومي، إذ كان خفض الإنفاق السبب الرئيسي المعلن، وراء معارضة قانون الرعاية الصحية «أوباما كير»، ونفس الاتجاه كذلك كان سبب وقف الكونجرس تمويل الحكومة الفيدرالية، وأغلق على أثره وكالات حكومية غير أساسية لنحو 15 يومًا منتصف عام ٢٠١٣.
كيف تحول الجمهوريون من التقشف إلى الإنفاق؟
يبدو أن الجمهوريين تخلوا عن هذا الاتجاه فور أن عادت إليهم مقاليد الأمور في البلاد سواء من الكونجرس الجديد الذي يسيطر عليه غالبية جمهورية، بالإضافة إلى البيت الأبيض الذي بات يقوده الجمهوري دونالد ترامب، إذ وافق مجلس الشيوخ مؤخرًا على مشروع قانون لرفع العجز السنوي للموازنة الفيدرالية، وذلك بعد محاولات أوباما لخفضه خلال سنوات رئاسته.
مشروع القانون يوافق على ارتفاع العجز إلى ٥٨٠ مليار للعام الحالي، و٧٢٨ مليار في ٢٠٢٠، ليواصل إلى نحو تريليون دولار في ٢٠٢٦، وفي الوقت ذاته يسمح القانون لارتفاع المديونية العامة من ٢٠ تريليون دولار حاليًّا، إلى ٢٩ تريليونًا، حوالي ١٥٠% من الناتج المحلي الإجمالي في ٢٠٢٦.
العجز السنوي الأمريكي كان قد سجل ١٦٧ مليار دولار عام ٢٠٠٧، إلا أنه قفز إلى ١,٤ تريليون دولار في ٢٠٠٩، بعد الأزمة المالية العالمية في ٢٠٠٨، وتراجع على مدار الأعوام الخمسة الماضية ليصل إلى نحو 500 مليار دولار، بحسب تقديرات الحكومة الفيدرالية للعام الجاري.
لماذا تخلى الجمهوريون عن التقشف؟
لم يسعَ الجمهوريون لخفض العجز كما كان ينتظر منهم الجميع، لكن المؤشرات الأولية تقول إن السياسة الاقتصادية الأمريكية الجديدة ستفاقم العجز وتدفعه لأرقام قياسية، لكن لماذا هذا التغير الجذري في مبادئ الحزب؟
الإجابة عن هذا السؤال بالرغم من أنها مختصرة، إلا أنها معقدة كثيرًا، فببساطة يريد الجمهوريون تحقيق نسب نمو عالية، إذ يأمل ترامب بأن تصل إلى 4%، أما المعقد في الأمر هو ما ذكره بول كروغمان، الفائز بجائزة نوبل قائلًا إن «الجمهوريين صرخوا ضد شرور الدَين عندما كان العجز الأكبر يمكن أن يقدم أشياء كثيرة، لكنهم الآن في طريقهم لتفجير العجز في وقت يمكن أن ينتج عنه أضرار كثيرة».
تخلي الجمهوريين عن التقشف لا يمكن وصفه سوى بأنه مكايدة سياسية لتحقيق نسب نمو اقتصادي أعلى من نسبة الديموقراطي باراك أوباما، التي بلغت ٢%، إلا أن آمالهم تواجه توقعات مؤسسة «أكسفورد إيكونوميكس»، التي ترى أن الاقتصاد الأمريكي سينكمش بنحو تريليون دولار، جراء سياسات الحماية التجارية وتخفيضات ضريبية وترحيلًا جماعيًّا للمهاجرين السريين.
وترى مؤسسة الأبحاث الاقتصادية أن نمو الناتج المحلي الإجمالي للولايات المتحدة كان سينمو بمعدل ثابت نسبيا عند 2% من 2018 حتى عام 2021، ليرتفع الناتج الإجمالي الأمريكي إلى 18.5 تريليون دولار في الظروف الطبيعية، ولكن سياسات ترامب قد تدفع معدل النمو للتباطؤ في 2019 إلى ما يقرب من الصفر، ليتقلص الناتج الإجمالي إلى 17.5 تريليون دولار، بحسب أكسفورد إيكونوميكس.
كيف سيتأثر الاقتصاد العالمي بالسياسة الأمريكية الجديدة؟
أمريكا –أكبر اقتصاد في العالم- لا يمكن أن يتجاهل العالم ما يحدث من تغيرات اقتصادية داخلها خاصة في وقت يشهد فيه الاقتصاد العالمي حالة من عدم اليقين، إذ بات هناك شبه إجماع بين الاقتصاديين، والمؤسسات الاقتصادية والمالية العالمية، على أن أهم ما يهدد الاقتصاد العالمي هذا العام، هي السياسات الانعزالية التي بدأ ترامب في تطبيقها ويسانده فيها الجمهوريون.
إجراءات الحماية التجارية، التي ينتهجها ترامب من فرض ضرائب ورسوم على الواردات من السلع والخدمات، ستكلف التجارة العالمية والاقتصاد بشكل عام فاتورة باهظة، لكن في المقابل في حال نجح هدف تنشيط النمو عبر الإنفاق الاستهلاكي ومشروعات البنية الأساسية الضخمة، فإن ذلك كفيل بتحسين نسب النمو في الاقتصاد الأمريكي، الذي قد يعود إلى قاطرة لنمو الاقتصاد العالمي حتى في ظل سياسات حماية تجارية.
نحو عالم أشد فقرًا
الصحفي مايكول شومان، ينظر إلى الأمر من زاوية مختلفة وهي الفقر، إذ يقول إن «القصة الاقتصادية خلال نصف القرن الماضي كانت تهدف إلى خفض مستوى الفقر العالمي، إذ كشف البنك الدولي عن انخفاض كبير في عدد الذين يعانون من الفقر المدقع في عام 2015، فقد بلغ عددهم أكثر من 700 مليون شخص مقارنة بملياري شخص عام 1990، ما يعني إمكانية الحد من الفقر في المستقبل القريب».
شومان، أكد أن سياسة ترامب تؤثر سلبًا في سياسات استئصال الفقر في العالم، مع عواقب وخيمة على الأغنياء والفقراء على حد سواء، إذ يرى «أن أفضل وسيلة لانتقال الدول من الفقر إلى الازدهار هو النظام التجاري العالمي، وهذا ما أسهمت فيه صادرات دول مثل الصين وكوريا الجنوبية وغيرها من النمور الآسيوية التي ساعدها النمو السريع في الخروج من براثين الفقر».
وتابع: «إذا أصر ترامب على تنفيذ سياساته، فإنه سيحرم أشد الناس فقرًا في العالم من الوظائف التي يحتاجون إليها للهروب من الفقر وسيعرقل النمو العالمي بشكل عام».
غروب السلام الأمريكي وحضور النزاع الكوكبي
«يعتقد الجمهوريون أن الضرائب المنخفضة وقلة اللوائح التنظيمية وإلغاء نظام الرعاية الصحية، تسهم في دفع معدلات النمو الاقتصادي لمستويات قياسية، لكن لا ينبغي على الجمهوريين أن يعلوا بسقف آمالهم، من أجل زيادة النمو الاقتصادي، فإدارة ترامب ربما تنجح، أو لا، في تسريع وتيرة النمو الاقتصادي أو استعادة الوظائف في الصناعات القديمة، لكنها لن تنجح في إحراز كلا الهدفين معًا».
هكذا قال الكاتب الاقتصادي ستيف تشابمان، وربما يكون تشابمان متفائلًا بعض الشيء، إلا أن رئيس مؤسسة روبيني للاقتصاد العالم، نورييل روبيني، لم يكن بهذا القدر من التفاؤل إذ يرى أن رئاسة ترامب ربما تكون نذيرًا بنهاية «السلام الأمريكي» -النظام العالمي للتبادل الحر- إذ يقول إن «تبني ترامب للسياسات المعادية للعولمة ستدفع حلفاء أمريكا للدفاع عن أنفسهم بسياسات مشابهة».
روبيني، يرى أن عزلة أمريكا قد تفضي إلى نزاع كوكبي في نهاية المطاف، فعلى صعيد منطقة اليورو التي تعيش حالة من التفكك، سيدفع انفصال أمريكا عن أوروبا، المنطقة إلى التفكك الكامل قريبًا، ويعتبر أن مقترحات ترامب تهدد بتفاقم الوضع في الشرق الأوسط، حال حرر قطاع الطاقة في أمريكا من أي احتياج للاستيراد من الخارج، وهذا يعني بطبيعة الحال التخلي عن مصالح الولايات المتحدة في المنطقة والاعتماد بشكل أكبر على الإنتاج المحلي من الوقود الأحفوري.
آسيا الخاسر الأكبر
وفي آسيا التي ربما تكون بؤرة الصراع العالمي، بحسب روبيني، إذ إن الصين الصاعدة تتحدى الآن هذا الوضع القائم على إنهاء عصر العولمة، كما أن تخلي أمريكا عن حلفائها الآسيويين مثل الفلبين وكوريا الجنوبية وتايوان، ستضعهم أمام خيار واحد فقط وهو الصين، فيما قد يُضطر حلفاء آخرون كاليابان والهند، إلى التسلح للتصدي صراحة للصين، وهو ما يعجل في النهاية باندلاع نزاع مسلح هناك.
كبير الاقتصاديين لدى بنك «باركليز» في نيويورك، مايكل جابن، أوضح أن «الاقتصادات المعتمدة على التجارة، وعلى رأسهم كوريا الجنوبية وتايوان والصين، ستلحقهم الكثير من الأضرار».
أستاذ الاقتصاد السياسي الدولي في كلية الحقوق بجامعة «هارفارد»، داني رودريك، قال إن «أسلوب ترامب الذي يتسم بالشخصنة المفرطة والتقلب المزاجي، يعتمد على التهديد والترهيب، ويميل إلى التباهي والمبالغة، وهما ما يدفعان نحو التآكل العميق للقواعد الديمقراطية».
وتابع رودريك، «أتوقع أن تتأرجح سياسة إدارة ترامب الصناعية بين المحسوبية والبلطجة، وهو ما قد يعود هذا بالفائدة على بعض أصحاب المصلحة؛ ولكنه لن يعود بأي خير يُذكَر على الغالبية الساحقة من العمال الأمريكيين أو الاقتصاد ككل».
تتوقع صحيفة «فاينانشيال تايمز»، أن تطيح خطط الجمهوريين بالنموذج الاقتصادي الذي تقوده الصادرات، وهو النموذج الذي استفادت منه آسيا أكثر من غيرها، إذ ترى الصحيفة أن فرض «الضريبة الحدودية» من شأنه عرقلة النمو في آسيا بداية من اليابان إلى الصين، وهي الدول التي بنت اقتصاداتها على الصناعات القائمة على التصدير إلى أمريكا، وهو ما سيجبر المنطقة على البحث عن نموذج اقتصادي جديد.
آثار اقتصادية أخرى
-ارتفاع الأسعار: يؤكد المحللون أن خطة ترامب الاقتصادية من فرض ضريبة على الواردات، ستؤدي إلى ارتفاع أسعار البنزين، لأن مصافي النفط الأمريكية تستورد نحو نصف كميات الخام الذي تستخدمه لإنتاج المحروقات، فيما تقول وكالة موديز إن فرض الضرائب على واردات من الصين والمكسيك، سترفع أسعار العديد من السلع، وستنخفض نسبة الاستثمار الأجنبي في البلاد.
-تهدد كذلك خطط ترامب التصنيف الائتماني للولايات المتحدة البالغ AAA على المدى المتوسط، وذلك بفعل خفض الضرائب الذي سيصل إلى 6.2 تريليونات دولار على مدى السنوات العشر المقبلة قد يضيف نحو 33% إلى الديون الأمريكية الحكومية.
-تباطؤ النمو العالمي: خفض البنك الدولي توقعاته للنمو العالمي للعام 2017 إلى 2,7%، بسبب السياسات الاقتصادية التي قد ينتهجها ترامب، خاصة التوجه المقبل للولايات المتحدة فيما خص الموازنة والتجارة وسياسة الهجرة والسياسة الخارجية، يضاف إليها الغموض المحيط بمصير المفاوضات حول خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي.
-زيادة تكاليف الإنتاج عالميًّا: انسحاب أمريكا من الاتفاقيات التجارية، وكذلك فرض رسوم على الاستيراد، سيزيد من تكاليف الإنتاج بالقطاعات الاقتصادية العالمية التي تصدر منتجاتها إلى الولايات المتحدة، ما يؤثر أيضًا على موازين الدول التجارية، عبر ضرب نمو حجم الصادرات.
علامات
editorial, أمريكا, أوباما, الاقتصاد العالمي, التقشف, الجمهوريون, الولايات المتحدة, ترامب, دولي, دونالد ترامب, سياسة التقشف