في العقد الأخير من القرن العشرين، كان مرض الإيدز يمثل رعبًا حقيقيًّا للناس حول العالم. ذلك المرض الفيروسي الذي كان يمثل أسوأ ما يمكن أن يصاب به أي شخص، خصوصًا أنه كان في ذلك الوقت مرضًا بلا علاج. كان الناس غير معتادين على فكرة هذا المرض الذي يصيب الجهاز المناعي مما يتسبب في التقليل من فاعليته تدريجيًّا، ليترك المصابين به عرضة للإصابة بأنواع من العدوى الانتهازية والأورام، وفي النهاية ينتهي الأمر بالموت.

مع مرور الوقت حاول الإنسان إيجاد علاج لهذا المرض المخيف. وعلى الرغم من عدم التوصل إلى علاج نهائي حتى الآن يمكنه القضاء على المرض تمامًا، توصل العلماء إلى علاجات تبطئ عملية تطور المرض، وتعمل على تقليل معدل الوفيات الناتجة عن الإصابة به، والحد من انتشار المرض في المنطقة التي تظهر فيها العدوى به.

علوم

منذ 4 سنوات
التعديل الجيني للأجنة.. حياة أفضل أم مستقبل مرعب؟

الأمر الواضح في مرض الإيدز أن العلماء يعرفون ما يتعاملون معه، يعرفون طبيعة الفيروس وتركيبه الخلوي وتسلسله الجيني، يعرفون أين مواطن القوة التي تجعل من الفيروس وحشًا كاسرًا، ويحاولون إيجاد مواطن الضعف لإيجاد علاج. لكن هناك أمراضًا أخرى تبدو أكثر رعبًا، ليس لأننا لا نملك علاجًا ضدها، ولكن لأننا لا نعرف أسباب الإصابة بها من الأساس، وتتعلق بهجوم داخلي من الجسم ضد الجسم.

نحن نتحدث هنا عن «أمراض المناعة الذاتية»، والأمر الذي يثير الحيرة في هذه الأمراض، هو أن جهاز المناعة الذي يفترض أنه خط الدفاع الأول ضد الهجمات الخارجية، يتحول هو نفسه للهجوم ضد الإنسان. تخيل أننا نتحدث مع عدو يعرف كل شيء عنك وكل نقاط ضعفك ويهاجمك دون سابق إنذار! الأمر يبدو مرعبًا بالفعل.

ما هي أمراض المناعة الذاتية؟

مرض المناعة الذاتية هو تلك الحالة التي يهاجم فيها الجهاز المناعي جسمك عن طريق الخطأ. في الوضع الطبيعي، يحمي الجهاز المناعي الإنسان عادة من الجراثيم مثل البكتيريا والفيروسات. عندما يستشعر جهاز المناعة وجود هؤلاء الغزاة الأجانب، يرسل جيشًا من الخلايا المقاتلة لمهاجمتهم. في المعتاد، يمكن للجهاز المناعي معرفة الفرق بين الخلايا الغريبة والخلايا الخاصة بجسم الإنسان.

لكن في أمراض المناعة الذاتية، يخطئ الجهاز المناعي في جزء من جسمك، مثل المفاصل أو الجلد، ويصنف مجموعة ما من خلايا أو أنسجة جسم الإنسان على أنها العدو، فيطلق ضدها نوعًا من البروتينات التي تسمى (الأجسام المضادة) لتهاجم الخلايا السليمة، بدلًا من الخلايا الغريبة الخارجية. بعض أمراض المناعة الذاتية تستهدف عضوًا واحدًا فقط. بينما أمراض أخرى، مثل الذئبة الحمامية الجهازية (SLE)، تؤثر في الجسم كله.

لا علاج لها.. كابوس أمراض المناعة الذاتية

المشكلة الأساسية في هذه الأمراض أن تشخيصها لا يحدث بسهولة في المعتاد، بل يحتاج إلى وقت وزيارات متكررة لعدة أطباء. يمكن الخلط بسهولة بين الأعراض والمشكلات البسيطة؛ هل هذا الطفح من أعراض مرض الذئبة أم مجرد حساسية؟ هل هؤلاء المرضى المتألمون دائمًا يعانون من مجرد ألم شديد أم التهاب المفاصل الروماتويدي؟ هل فقدان الشعر هذا مرتبط بالهرمونات أم الثعلبة؟ هل هذا الإرهاق ناتج عن الإجهاد أم التهاب الدماغ النخاعي العضلي (ما يطلق عليه الناس متلازمة التعب المزمن)؟

Embed from Getty Images

(لا شفاء من أمراض المناعة الذاتية حتى الآن)

الأعراض التي تظهر على المرضى غالبًا ما تتشابه مع أمراض أخرى كثيرة، وبالتالي يمر المريض في البداية بحلقة مفرغة من الآراء الطبية والعلاجات والتشخيصات، حتى يصل بعد معاناة إلى هذا التشخيص المخيف، مرض مناعة ذاتية. الذئبة يمكن أن تكون خفيفة، أو يمكن أن تكون شديدة، مما يؤدي إلى الفشل الكلوي والموت. المشكلة أن اختبارات الدم المستخدمة لتشخيص مرض الذئبة يمكن أن تربك الأطباء في البداية.

استغرق الأمر ما يقرب من ثلاث سنوات، وعشرات الأطباء قبل تشخيص بعض المرضى بداء «هاشيموتو»، وهو اضطراب المناعة الذاتية الذي يسبب التهاب الغدة الدرقية وعددًا من المشكلات المرتبطة بها، مثل التعب وتقلب الوزن. قد يستغرق تشخيص إصابة الشخص باضطراب المناعة الذاتية خمس سنوات في المتوسط ​​وخمسة أطباء، وفقًا للجمعية الأمريكية للأمراض المتعلقة بالمناعة الذاتية (AARDA) على الرغم من أن حوالي 50 مليون أمريكي يعانون من أحد هذه الأمراض.

ربما يشخصك الطبيب بحالة خفيفة من حالات الأمراض الذاتية التي لا تسبب للإنسان الكثير من المشقة، مثل داء الذئبة. ويمكن أن يتحول الأمر إلى أمر أصعب مثل داء الثعلبة، الذي يبدأ بمناطق صلعاء من شعر الرأس، التي يمكن أن ينمو بها الشعر من جديد، ثم قد يعود الأمر ويسقط الشعر مجددًا، قبل أن يتحول المرض إلى «داء الثعلبة الكلي» الذي يتسبب في تساقط الشعر في كل الرأس، ثم يتحول إلى «داء الثعلبة الشامل» فيسقط الشعر في كافة أنحاء الجسد.

يمكن أن يعود الشعر للنمو من جديد، لكن المرعب للنساء تحديدًا أنه يمكن أن تعود وتفقد الشعر من جسمها في أي لحظة من جديد. والأسوأ من هذا لو أصابك مرض مثل «داء بهجت» الذي يسبب التهابات في جدران الأوعية الدموية، وبالتالي يمكن أن يتسبب في ضرر حقيقي في أي منطقة من الجسم، بدءًا من العين وفقدان البصر، وحتى العظام والمفاصل، والقلب نفسه. الأمر يكون صعبًا، خصوصًا أن كل هذه الأمراض بلا علاج حتى الآن.

Embed from Getty Images

أحد أكثر المشكلات التي تواجه المرضى هنا هو العامل الاقتصادي. فطول فترة التشخيص – من جهة – تستلزم مصاريف كبيرة بين كشوفات، واختبارات، وأدوية، وعلاجات، وهو ما يتسبب في إرهاق كبير للأسر المتوسطة والفقيرة خصوصًا في عالمنا العربي. ومن جهة أخرى فإن اختبارات أمراض المناعة الذاتية نفسها – بعد التشخيص – تكون مكلفة جدًّا من أجل المتابعة ومعرفة مدى تطور المرض واستجابته للعلاجات.

ليس هذا فحسب، بل إن عدم وجود شفاء من هذه الأمراض يعني ظهورًا متكررًا لأعراض متعددة تستلزم تناول علاجات وأدوية كثيرة. بعض الأمراض، مثل مرض «بهجت»، يمكن أن يتسبب في مشكلات حقيقية لشبكية العين والعصب البصري؛ مما يعني علاجات كثيرة وربما تدخل جراحي. وبعد أن تهدأ العين، يمكن أن تصاب المفاصل بالتهابات، فيلزم تناول أدوية جديدة لعلاجها، ثم تشفى ليصاب جزء جديد من الجسم بالالتهابات والمشكلات، وهكذا دوامة قد لا تنتهي.

السر الكبير.. من أين أتت أمراض المناعة الذاتية؟

يجمع الأطباء والعلماء أنه ما يزال هناك الكثير من الغموض المرتبط بأمراض المناعة الذاتية. ورغم أنهم يعرفون أن أمراض المناعة الذاتية تحدث عندما ينقلب الجهاز المناعي ويهاجم خلايا الجسم وأنسجته، فإن هناك القليل من الإجماع حول سبب حدوث ذلك، وما الذي يمكن فعله لوقفه. بل إن هناك اختلافات بين العلماء على الأمراض التي يمكن تصنيفها على أنها أمراض المناعة الذاتية.

أمراض المناعة الذاتية هي الآن واحدة من أكثر فئات الأمراض شيوعًا، خلف السرطان وأمراض القلب. وفي الوقت الذي يتناقص فيه معدلات الإصابة بأمراض القلب مثلًا، يجري تشخيص أمراض المناعة الذاتية ضمن النطاقات التي يطلق عليها بعض الخبراء الطبيين «الوباء».

يفترض الباحثون إلى حد كبير أن سبب الارتفاع في معدلات الإصابة بهذه الأمراض يمكن تحديده بالتغيرات التي طرأت في بيئتنا، والتي بدورها تسبب تغيرات في أجسامنا. على مدى المائة عام الماضية، غيرت البشرية بشكل جذري الطريقة التي تعيش بها بالنسبة لغالبية البشر. وبينما دفعنا التقدم في التكنولوجيا والظروف المعيشية إلى الاعتقاد بأننا يجب أن نكون أكثر صحة من أي وقت مضى، خصوصًا وأن العديد من الدول لديها الآن إمكانية الحصول على دواء أفضل، ومياه نظيفة، وطعام وفير.

لكن رغم هذا، بدأ الأطباء في فهم بعض العواقب غير المقصودة لهذه التغييرات. فمع وجود دواء أفضل، على سبيل المثال، يأتي الإفراط في استخدام المضادات الحيوية وبروز الجراثيم الخارقة. ومع انتشار التكنولوجيا الجديدة في الزراعة، يأتي ظهور المواد الكيميائية والأطعمة المصنعة، وكل ذلك يمكن أن يكون له علاقة بمشكلات المناعة الذاتية.

أمراض المناعة الذاتية: لغز الطب الحديث

أمراض مثل مرض الذئبة ومرض الثعلبة، يمكن أن تكون أكثر أو أقل علاجًا، لكنها في النهاية غير قابلة للشفاء. أمراض أخرى ضمن قائمة تضم أكثر من 110 مرض، مثل مرض السكري من النوع الأول، ومرض هاشيموتو، وقصور الغدة الدرقية، وأمراض الاضطرابات الهضمية، والصدفية، والتهاب المفاصل الروماتويدي، ومرض غريفز، وغيره من اضطرابات المناعة الذاتية، تعد الآن بالفعل أحد أبرز الأسرار التي يواجهها الطب الحديث.

حتى الآن، يمكن للأطباء في أفضل الأحوال إدارة «أعراض» هذه الأمراض أثناء محاولتهم تحديد سبب حدوث ذلك بالضبط وكيفية إصلاحه، لكن لا شفاء. المشكلة كما ذكرنا تتعلق بخطأ في تحديد هوية الخلايا المصنفة كعدو للجسم من قبل جهاز المناعة، إذ تتحول أنسجة الجسم وخلاياه إلى بكتيريا وفيروسات في نظر جهاز المناعة ويبدأ بمهاجمتها.

(خلايا الدم)

مع مثل هذا النظام المعقد لجهاز المناعة وما يحدث له من تغيرات غير مفهومة، ليس من المستغرب أن تسوء الأمور. ولجعل الأمور أكثر تشويشًا، يبدو أن مشكلة الهوية الخاطئة هذه يمكن أن تحدث عند مستويات منخفضة دون التسبب في المرض، هذا شيء شائع للغاية. لكن في بعض الناس، يصبح رد الفعل أقوى، وقد يبدأ في الانتشار إلى خلايا وأنسجة أخرى تسبب المرض.

علاوة على ذلك، يمكن لأمراض المناعة الذاتية أن تتجمع، لذا فإن الإصابة بأحد أمراض المناعة الذاتية يجعلك عرضة للإصابة بأمراض أخرى من أمراض المناعة. على سبيل المثال، يمكن أن يعاني هؤلاء المصابون بالتهاب الغدة الدرقية نتيجة الإصابة بمرض «هاشيموتو»، من آلام المفاصل والعضلات، والتعب وأعراض أخرى.

أمراض المناعة الذاتية غير معروفة العدد!

تتمثل إحدى المشكلات الرئيسية في فهم صعود أمراض المناعة الذاتية هو أن تصنيف اضطرابات المناعة الذاتية كفئة من الأمراض ما يزال جديدًا نسبيًا. حتى وقت قريب، كان ينظر إلى كل مرض منها على أنه مرض فريد ونادر، وما يزال الأطباء اليوم لا يتفقون على معيار ما يشكل التعريف الأوسع. حتى عدد الأمراض التي تعترف بها الجمعية الأمريكية للأمراض المتعلقة بالمناعة الذاتية (AARDA) على أنها أمراض مناعة ذاتية وعددها حاليًا 100، هي محل نقاش.

ما يزال تحديد مرض المناعة الذاتية أمرًا صعبًا للغاية. واعتمادًا على كيفية تعريفك للمرض، سيتغير الرقم السابق. بل إن عددًا من الباحثين يقولون إن 100 هو رقم محافظ للغاية. مشكلة أخرى تواجه مجال المناعة الذاتية هو أن كل مرض داخل هذه الفئة ما زال قيد الدراسة والعلاج والبحث بشكل مستقل.

(خلايا سرطانية تحت المجهر)

لهذا السبب، يكافح الخبراء كثيرًا من أجل معرفة نسبة ارتفاع أمراض المناعة الذاتية وأين تزداد النسب بالضبط. بخلاف السرطان، لا تحتاج أمراض المناعة الذاتية إلى إبلاغ المراكز الأمريكية للسيطرة على الأمراض والوقاية منها (CDC)، أو المعاهد الوطنية للصحة (NIH) على سبيل المثال، مما يعني أنه لا توجد قاعدة بيانات لمساعدة الباحثين على فهم عدد الأشخاص المصابين، حيث تقع الحالات، ومدى ارتفاع حالات الإصابة بأمراض معينة منها.

العامل الجيني.. هل تنتقل أمراض المناعة الذاتية بين الأجيال؟

حتى الآن مايزال الباحثون في المراحل الأولية من عملية فتح ألغاز اضطرابات المناعة الذاتية. الآن عندهم بعض القدرة على وصفها بشكل أفضل. فكما أن هناك عوامل بيئية قد تكون هي السبب في زيادة معدلات الإصابة بأمراض المناعة الذاتية، يقول الباحثون إن بعض هذه الأمراض يرتبط بالعوامل الوراثية والجينات، بالإضافة أيضًا إلى البكتيريا في الأمعاء.

على سبيل المثال، وجدت دراسة أجريت عام 2013 في جامعة نيويورك، أن الأشخاص المصابين بالتهاب المفاصل الروماتويدي كانوا أكثر عرضة للإصابة بالميكروبات المعوية في أمعاءهم مقارنة بالأشخاص الذين لا يعانون من هذا المرض. في الآونة الأخيرة، وجد المختبر نفسه وجود صلة بين البكتيريا المعوية والتهاب المفاصل الصدفي، وهو مرض آخر من أمراض المناعة الذاتية.

معظم أمراض المناعة، إن لم يكن جميعها، يوجد عامل وراثي وراءهم. تميل المناعة الذاتية إلى التجمع في العائلات. قد تصاب الأم بقصور الغدة الدرقية وقد تكون الابنة مصابة بمرض الذئبة. قد يكون هناك عدة عشرات من الجينات التي يمكن لوجود متغيرات تحدث فيها معًا، فإنه يوجد بعض الأمراض أو الاضطرابات مثل الإصابة بالعدوى أو التأثيرات الغذائية، وهو ما يدفع شخص لديه ميل إلى المناعة الذاتية لتطوير مرض منها.

الإجهاد يمكن أيضًا أن يكون عاملًا مهمًّا. الإجهاد بطبيعته يخلق «حالة التهابية» في جسمك، وبالتالي هو يؤثر في نظام المناعة لديك. يعتقد بعض الأطباء أن هذا جزء كبير من السبب وراء إصابة أجهزتنا المناعية بهذا النوع من الاضطراب الذي يجعله يهاجم الجسم، وتصاعد الإصابة بأمراض المناعة الذاتية.

من منظور تطوري، نحن البشر لم نقم بعمل تكيف بين استجابتنا للإجهاد مع طبيعة العالم الذي أنشأناه، فالإجهاد يساهم في زيادة معدلات الإصابة بهذه الأمراض، والفيروسات والأدوية تساهم أيضًا على الأرجح. المفارقة في ذلك، بطبيعة الحال، هي أن الإصابة بمرض غير قابل للشفاء هو أمر مرهق في حد ذاته، حيث يمكنك فقط الأمل في إدارة الأعراض أثناء انتظار الإجابات والعلاج.

تكنولوجيا

منذ 4 سنوات
أن تلاحقك القنبلة بسبب «جيناتك».. تعرف إلى «الأسلحة المبرمجة وراثيًّا»

المصادر

تحميل المزيد