منذ الثمانينات، وعلى مدار عقود تربو على الثلاثة، اعتبرت كل من إيران وسوريا نفسيهما ممثلين للمقاومة الشرق أوسطية في وجه “الإمبريالية الغربية/ الأمريكية” وغرسها في المنطقة المتمثل في إسرائيل. عقود صنعت فيها الدولتان حلفاء لها في المنطقة على درجة جاهزية عسكرية جعلت بعضهم يُصنّف كأقوى الميليشيات العسكرية في العالم.
وعلى مر تلك العقود أيضًا دار الجدل حول ماهيّة ما صار يُعرف بـ”محور الممانعة أو المقاومة”، توجهاته وغاياته في المنطقة، وحقيقة ادعاءاته في ظل انقسام عالمي بين مُعسكرين، ظنّ الناس أنّه سينتهي بانتهاء الحرب الباردة بين السوفييت والأمريكان، لكنّ على ما يبدو تطوّر الأمر لانقسام مُتماهٍ مع الدبلوماسية الدولية وإستراتيجيات القوّة الناعمة على المستوى الرسمي. وعلى جانب آخر من هذا المستوى المشوش في ذاته، تدخلت الأدوات العسكرية، أو قل الحلفاء العسكريين -أحيانًا- لحسم بعض الأمور العالقة.
الوريث الشرعي لـ«معسكر الشرق»
السنوات الأخيرة للاتحاد السوفيتي تزامنت مع صعود إيران الخمينية، التي انتقل لها مركز “المعسكر الشرقي” تحت مُسمى آخر هو محور الممانعة، وانتقل معه الولاء المُباشر لسوريا تجاه إيران. وعقب انتهاء الحرب الباردة وإعلان حل الاتحاد السوفيتي تقلّص الدور السابق لروسيا الاتحادية لانخراطها في دور دولي رسمي، حدّ من نفوذها على أرض الواقع، وإن استمر دورها اللوجيستي بتحالفها مع محور الممانعة.
استطاعت إيران تأسيس وجذب حلفاء لها في المنطقة، بدايةً من سوريا، انتقالًا للبنان حيث حزب الله، ثم في الأراضي المحتلة بدعمها حركات مقاومة كحماس والجهاد الإسلامي.
يُفضل البعض تسمية محور الممانعة بالهلال الشيعي، إذ يتصادف أن 3 من أهم أعضاء هذا المحور ينطلقون من معتقدٍ شيعي: إيران بالطبع، وسوريا العلوية وحزب الله الذي أعلن رسميًّا في غير موقف ولاءه المُباشر لنظام ولاية الفقيه والمرشد الأعلى للثورة الإسلامية في إيران. والآن بات لإيران ومحورها حُلفاء مُباشرون في الجزيرة العربية (الحوثيون في اليمن)، وفي العراق مع صعود الحكومة الشيعية بُعيد الغزو الأمريكي لها.
من جانبهم، يُفضل دول المحور وحلفاؤهم تسمية أنفسهم بمحور “المقاومة”. يقصدون -كما ذكرنا- مُقاومة التدخل الغربي/ الأمريكي في المنطقة، وحليفه الأوّل إسرائيل.
محور الممانعة: لا بأس بـ«الاستعمار» الروسي!
غالبًا ما تنطلق الخطابات السورية الرسمية من التأكيد على موقفها الرافض للتطبيع مع إسرائيل، بعد مبادرة كامب ديفيد للسلام مع مصر، ثُم اتفاقية أوسلو مع منظمة التحرير الفلسطينية، وما أتبعها من عدة اتفاقيات سلام مع عدد من الدول العربية.
وفي الوقت الذي تعتبر فيه سوريا أن موقفها هذا، موقف عربي نادر يُعبر عن دورها كداعم رئيس لحركات التحرر الوطني العربية المُناهضة للوجود الاستعماري وعلى رأسه إسرائيل؛ لا تألو سوريا جُهدًا في التكريس لوجود آخر داخل المنطقة مُتمثلًا في روسيا الاتحادية.
بدأت العلاقات الروسية السورية منذ إعلان استقلال الأخيرة، الذي أعقبه فورًا اعتراف روسي عُدّ من أوائل الاعترافات باستقلالها. وفيما كان روسيا تبحث عن نفوذ في المنطقة في مُقابل النفوذ الأمريكي، لم يكن أفضل من سوريا تحقيقًا لهذا النفوذ.
حافظت روسيا على حليفتها في المنطقة كما لم تفعل مع العراق مثلًا، وقبلها مصر التي اتجهت إلى الولايات المُتحدة مع معاهدة السلام، بل في عهد عبد الناصر أيضًا إبان العدوان الثلاثي.
في الستينات أقام السوفييت ما يُسمى رسميًّا بـ”مركز الدعم المادي التقني للأسطول السوفيتي” في ميناء طرطوس السوري. وعلى الرغم من عدم تصنيف هذه المنشأة باعتبارها قاعدة عسكرية وفقًا للمتعارف عليه دوليًّا، إذ إن روسيا تستأجر مقر المُنشأة مقابل مبلغٍ مالي؛ إلا أن النشاط الروسي فيها قد يرقى لاعتبارها قاعدة عسكرية فعلية، فعبر هذه المنشأة تمد روسيا سوريا بالسلاح، فضلًا عن كونها نقطة انطلاق لعمليات عسكرية استطلاعية روسية في المنطقة.
في الثمانينات وعقب اندلاع الانتفاضة السورية في حماة، روّجت وسائل إعلام عربية وغربية استنجاد سوريا بالاتحاد السوفيتي، بل إنّ خطابًا شهيرًا للرئيس المصري الراحل محمد أنور السادات، زعم فيه اتجاه حافظ الأسد نحو توقيع اتفاقية دفاع مُشترك مع روسيا، وهو الأمر الذي تنفيه سوريا حتى الآن.
https://youtu.be/Gn-9ib7nXNo
منذ مُنتصف شهر سبتمبر المنصرم، أعلنت روسيا الاتحادية عن تعزيز وجودها العسكري في الأراضي السورية، هذا التعزيز ما لبث أن أُلحق بهجمات وغارات عسكرية روسية ضد معاقل القوات المُعارضة بما فيها الجيش الحُر المُعترف بشرعيته دُوليًّا. روسيا تقول إن هجماتها تستهدف “الجماعات الإرهابية” مُتضمّنة تنظيم الدولة الإسلامية (داعش)، لكنّها أيضًا لا تُخفي أنّها بغرض حماية نظام بشّار الأسد.
على جانب آخر، يُرجع البعض التدخل لتأسيس نفوذ روسي أقوى في المنطقة عبر وجودٍ رسمي لقطع عسكرية رُبما يتبعه إنشاء قواعد عسكرية كاملة بحرية وجوية في طرطوس، وكذا اللاذقية حيث مطار حميميم الجاهز تقريبًا لاستضافة مئات القطع العسكرية الجوية والبرية فضلًا عن مئات الجنود.
روسيا جزء من صمودنا. – وليد المعلم، وزير الخارجية السورية (2013)
اقرأ أيضًا: هل ثمة أوجه تشابه بين تدخل روسيا العسكري في سوريا اليوم وأفغانستان عام 1978؟
أمريكا ليست «الشيطان الأعظم» طوال الوقت!
حدّة الخطاب الإيراني الرسمي ضد الولايات المتحدة الأمريكية لا تخفى على أحد، بخاصة قبل توقيع الاتفاق النووي بين إيران والدول الكبرى. لكن على ما يبدو لم تكن تلك سياسة إيران على طول الخط. ثمّة مساحات بينية توضح حقيقة أن الأمر يتجاوز مقولات “المقاومة” و”الممانعة” إلى “المصلحة” و”النفوذ”.
· أفغانستان ليست آخر الأحزان
للحكاية عدة مشاهد، نذكر منها على سبيل المثال (وما يُمكن الاستدلال به في سياق موضوع الممانعة/ المقاومة) دخول إيران في حلف مع أمريكا إبان غزوها لأفغانستان. على الرغم من الشجب والتنديد الرسمي لهذا الغزو على لسان المرشد الأعلى للثورة الإسلامية الإيرانية علي خامنئي، إلا أنّ أرض الواقع شهدت خلاف ذلك.
تتفق إيران مع الولايات المتحدة الأمريكية على ضرورة القضاء على الإرهاب بالتعريف الغربي/ الأمريكي. قد يختلف كلاهما في توصيف نظام بشار الأسد، لكنّهما يتفقان على عدم وسمه بالإرهاب، ربما ما بين الحين والآخر تصدر تصريحات أمريكية تُشير إلى أنّ نظام بشار هو المتسبب في الإرهاب، لكنها حتمًا لا تضمنه قوائم الإرهاب السوداء.
كلاهما أيضًا يتفقان على اعتبار التنظيمات المسلحة الإسلامية في أفغانستان بالإرهابية. بالنسبة للولايات المتحدة الأمريكية فإن تفاقم حجم ودور تلك التنظيمات (طالبان والقاعدة تحديدًا) مُقلق بصورة مشهودة، وقد يكون حادث 11 سبتمبر 2001 القشة التي قسمت ظهر البعير ودفعت نحو غزو أفغانستان. أما بالنسبة لإيران، فتلك التنظيمات تقف عائقًا بينها وبين طموحها في التوسع داخل الدولة الجارة، بسبب الخلافات العقدية الحادة.
إننا لن نسمح أن تكون هناك دولة سنية في أفغانستان. –علي أكبر ولايتي، وزير الخارجية الإيراني الأسبق (2001)
هذا الاتفاق النظري، أُتبع بآخر إجرائي عندما فتحت إيران مجالها الجوي أمام الطائرات الأمريكية المتجهة نحو أفغانستان. كان ذلك بدايةً من أكتوبر 2001، واستمر على مدار المرحلة الأولى لغزو أفغانستان حتى السيطرة على العاصمة الأفغانية كابول. إيران أيضًا، وبأمر مُباشر من وزير دفاعها آنذاك علي شامخاني (يشغل الآن منصب رئيس جهاز الأمن القومي)، أمّنت عملية إنزال قوات أمريكية على الحدود الإيرانية-الأفغانية، كما أنّها فتحت مستشفياتها العسكرية الحدودية للمصابين من الجنود الأمريكان، وسمحت غير مرة للولايات المتحدة باستخدام موانيها لشحن موادٍ غذائية لجنودها على الجبهة. وبالجملة، فالتصريحات الإيرانية الرسمية المُؤكدة لمشاركة إيران كحليف إستراتيجي لأمريكا في غزوها لأفغانستان، كثيرة، بينها على سبيل المثال لا الحصر تصريح محسن رضائي قائد الحرس الثوري الإيراني آنذاك، والذي قال فيه: “يجب أن تعلم أمريكا أنه لولا الجيش الإيراني الشعبي، لما استطاعت أمريكا أن تُسقط طالبان”.
· العراق وسياسة «الحياد الإيجابي»
ومما يستدل به في قصتنا أيضًا الغزو الأمريكي للعراق. وللمرة الثانية تتحول الولايات المتحدة من شيطانٍ أعظم إلى حليف إستراتيجي يُمهد الطريق نحو مكسب ثمين لإيران.
رغم أن العراق كانت -بحكم الواقع- من دول ما يعرف بمحور الممانعة، إلا أنها لم تتفق يومًا وسوريا أو إيران. خاضت العراق مع إيران حربًا طويلة مُهلكة دامت 8 سنوات. ودخلت مع سوريا في صراع مُخابراتي طويل حتى سقوط بغداد في أيدي الحلف الأمريكي. لم يتوقف الأمر عند هذا الحد، ليتجاوزه إلى دعم لوجيستي إيراني للأمريكان في غزوهم للعراق. هذا الدعم فضّلت إيران تسميته آنذاك بـ”الحياد الإيجابي”!
ربما السنوات اللاحقة على الغزو الأمريكي للعراق (في 2003) هي أفضل دليل على ما قدمته إيران من تسهيلات عبر حلفائها من رموز وتنظيمات شيعية عراقية للقوات الغازية، حيث الصعود القوي للحكومات الشيعية المتعاقبة في العراق، والقوات العسكرية غير النظامية المنتشرة في أرجاء البلاد، بل القوات العسكرية النظامية (الجيش) التي تحوّل ولاؤها تجاه طهران، بل قل تجاه قُم.
اقرأ أيضًا: كيف تسعى إيران للسيطرة على العراق؟
التصريحات الإيرانية الرسمية في هذا الصدد أكثر من أن تحصى، منها تصريحات لرموز يصنفون على التيار الإصلاحي كمحمد علي أبطحي الذي قال: “لولا التعاون الإيراني لما سقطت بغداد بهذه السهولة”. الجنرال يحيى رحيم صفوي مستشار الشؤون العسكرية للمرشد الأعلى علي خامنئي قال في تصريحات صحافية:
إيران هي الرابح من هاتين الحربين (حرب العراق وأفغانستان) لأن الولايات المتحدة قضت على اثنين من أبرز أعداء إيران: حركة طالبات وصدام حسين.
أخيرًا، في رأيك، هل ترى أن “محور الممانعة” كان جادًا بما يكفي في ممانعته؟ أم كان سبيلًا نحو مزيد من النفوذ الإيراني- الروسي في المنطقة، بل مزيدٍ من التقسيم؟