صور أعياد ميلاد أول صورة مع الأقارب، كيف كان يومه الأول بالمدرسة؟ أين يقضي العطلة مع أسرته؟ من أي المولات يختار والداه ملابسه؟ كيف رقص لأول مرة في فرح قريبته. إصابته بالحمى. كيف أصابه الفيروس. جميعها لحظات يراها الأب والأم هامة في حياة طفلهم، هامة لدرجة توثيقها بالصورة والكتابة ونشرها على «فيسبوك» و«إنستجرام»، ثم ينعتون كل من لا تعجبه تحديثاتهم الخاصة جدًا والمتكررة على نحو ملحوظ بالغيرة والحسد أحيانًا.
وفقًا لبعض الإحصاءات فإن أكثر من 80% من الأطفال أقل من عمر عامين، أصبح لديهم اليوم تواجد على مواقع التواصل الاجتماعي، ويشارك ما نسبته 42% من الآباء صور أطفالهم عبر الإنترنت مرة واحدة على الأقل كل شهر، فيما يشارك الوالدان في المتوسط حوالي 1500 صورة لطفلهما على الإنترنت قبل عيد ميلاد الطفل الخامس، ويشارك 51% من الآباء صورًا ومعلومات تساعد في تحديد مكان الطفل بسهولة.
في تقرير لمركز الاستطلاع الوطني لصحة الأطفال بجامعة ميتشجان يستخدم ما نسبته 84% من الأمهات، و70% من الآباء وسائل التواصل الاجتماعي مثل: فيسبوك، والمنتديات، والمدونات، وأكثر من 56% من الأمهات مقابل 34% من الآباء يناقشن تفاصيل حول صحة أطفالهن وتربيتهم على مواقع التواصل الاجتماعي تلك.
رغبة في توثيق كل لحظة تمر
على الرغم من مخاوفهم المعهودة، فإن الآباء أنفسهم ينشرون على نطاق واسع معلومات عن أطفالهم عبر الإنترنت، وغالبًا ما يشاركون محتويات شخصية، وخاصة عن سلوك الأطفال ونموهم ومظهرهم. فتنشر الأمهات يومًا بعد يوم صور أطفالهن منذ يومهم الأول على وسائل التواصل الاجتماعي، مع تحديث دائم بحالة الطفل احتفالًا بوجوده في الحياة؛ ما يعبر عنه بدقة مصطلح «توثيق».
ويمكن اعتبار الرغبة في التوثيق على أنها توظيف للحظات من الفخر، ولكن، هناك انتقادات توجه للآباء والأمهات المدمنين لهذا السلوك. فغالبًا ما يُقابل تصرف الأم برفض واسع وأحكام على تصرفاتها ووصف منشوراتها بـ«المملة» و«المزعجة» و«المتكررة»؛ ما يدفع الأم والأب أيضًا للانضمام لمجموعات مغلقة من الآباء والأمهات على وسائل التواصل الاجتماعي، يمارسون عليها رغبتهم المتزايدة في نشر تفاصيل يومهم مع أطفالهم. حيث يتم أحيانًا انتقاد تصرفات الأبوين بشأن نشر تفاصيل حياة الطفل ويصفه البعض بـ«النرجسية الرقمية».
علم النفس يتدخل
قدمت ليزا لازارد أستاذ علم النفس في الجامعة المفتوحة الإلكترونية، بحثها حول الأمومة الرقمية وتفسير علم النفس لسبب تحميل الوالدين صور أطفالهم على وسائل التواصل الاجتماعي، والذي قد يخلق مساحات وفرصًا للتواصل مع الأمهات الأخريات وحشد الدعم الاجتماعي، وكسب معلومات دون البحث على الإنترنت أو بالكتب، ولكن مقابل ذلك فإن مشاركة التفاصيل الأسرية سواء المكتوبة أو المصورة غالبًا ما تُوصف بأنها محفوفة بالمخاطر.
في هذه الدراسة قوبلت 14 أمًا، طُلب منهن مناقشة مجموعة مختارة من مشاركاتهن على مواقع التواصل الاجتماعي التي يستخدمونها، وكانت المشاركات المطلوبة بين صور للأسرة، أو أخبار عنها، وما يظهر وحدة الأسرة ويُتشارك مع المتابعين، وتصنيف أسباب النشر المستمر على أنها اضطراب استخدام وسائل التواصل الاجتماعي، أو الأمومة التنافسية.
في نتيجة الدراسة التي أجرتها لازارد وُجد أن الأمهات أكثر استخدامًا لكلمة «فخورة» عند كتابة منشور عن طفلها عندما يتعلق الأمر بإنجازات محددة، مثل: المسابقات، أو اجتياز الامتحان، وبررن فخرهن بأنه شعور طبيعي منتشر من قِبل أولياء الأمور، وفسرت لازارد ذلك على أن المشاركات في الدراسة استخدمن فخرهن كمبرر أساسي لنشر محتوى متعلق بأطفالهن.
أشارت لازارد في نتيجة دراستها أيضًا إلى أن تعبيرات الوالدين المتعلقة بالفخر الأبوي على وسائل التواصل الاجتماعي مرتبطة في الواقع بزيادة المتطلبات الاجتماعية المفروضة على الوالدين، فمن المنتظر من الأب والأم قضاء قسط كبير من الوقت في رعاية الطفل، وبذل الجهد معه، وفي العمل؛ لتلبية احتياجاته، ومع ذلك فليس من المتوقع منهم أن ينشئوا طفلًا جيدًا، بل أن يتفوقوا على نظرائهم من الآباء؛ ما يدفعهم لتصوير وتوثيق تلك اللحظات التي يظهر فيها كيف يلبون مطالب الأبوة هذه، من سهر طوال الليل بجوار الطفل، إلى العمل لساعات متأخرة لكسب المال، إلى إلحاقه بمدرسة بمصاريف باهظة الثمن والاهتمام بإلحاقه بأحد النوادي الشهيرة، وغير ذلك من المتطلبات التي أصبحت ضرورية اليوم من منظور مجتمعي وسط منافسة غير متكافئة بين الآباء.
افترضت الدراسة أيضًا أن بعض الأمهات يحاولن البقاء ملحوظات على الإنترنت من كل شخص، ويقمن بذلك من خلال نشر تحديثات حالة أطفالهن، والعمل على ذلك كوسيلة للحفاظ على العلاقات المقربة والبعيدة مع كل فرد في شبكتهم الاجتماعية، ما يوازي في نتائجه الاتصال الدوري بأفراد العائلة؛ ما يوحي بأن النساء تشارك تفاصيل الأطفال أكثر من الرجال المتواصلين مع العائلة والأصدقاء باستخدام المكالمات الهاتفية والرسائل.
اقرأ أيضًا:-
ما يفعله الأب وما تفعله الأم
يشترك الوالدان في مسؤولية تحديد ما يمكن نشره عن هوية صغيرهم عبر الإنترنت من أجل الحفاظ على خصوصيته وتعزيز علاقة صحية داخل الأسرة. وفي دراسة لتوفيق عماري وفريق بحثه بجامعة ميتشجان بعد مقابلة 102 ولي أمر للتحري عن كيف يقرر الوالدان ما ينشرونه عن أطفالهم على وسائل التواصل الاجتماعي، وجدوا أن الأمهات تتحمل مسؤولية نشر معلومات وتفاصيل عن أطفالهن أكثر من الآباء الذين بدوا أكثر تحفظًا حول نشر نفس المضامين أمام جمهور واسع.
ربما يعود ذلك إلى إن معظم تقييم المرأة لنفسها كإنسانة يتم بِناء على نجاحها كأم، وهذا يجعل الكثير من النساء تتنافسن مع أمهات أخريات. فقامت الطبيبة النفسية جانا مالامود سميث في كتابها «السحر الأقوى» بمقابلة الكثير من النساء، ولم تجد واحدة متأكدة من أنها فعلت ما عليها كأم على أفضل وجه. وفسرت سميث بأن الأمهات اليوم يواجهن الكثير من النقد والمتطلبات المتنوعة والمتناقضة، حيث انتهى الأمر إلى الشعور بعدم الاتزان، وعدم اليقين، وعدم الاطمئنان تجاه أنفسهن، وتجاه تصرفاتهن كأم؛ لذا يلجأن للغير لاستمداد الدعم النفسي والثقة في الذات بنشر إنجازاتهن كأم على الإنترنت.
ركزت أبحاث توفيق عماري وفريقه أيضًا على سلوك الآباء والأمهات، وعلى الرغم من أن الأمهات تشاركن صور أطفالهن بنسبة أكبر من الآباء، إلا أن الآباء يهتمون بنشر صور لأطفالهم تجعل الأسرة تبدو مثالية وسعيدة وصحية، وتظهر الترابط مع العائلة، ويشارك الآباء المعلومات والقصص والصور الفوتوغرافية الخاصة بأطفالهم بنشاط على فيسبوك وإنستجرام، في الوقت الذي تشارك فيه الأم معظم حديثها عن الزوج والطفل على مواقع مجهولة، وربما لا يكون التواصل عليها مباشرًا مثل: فيسبوك، ولكن ذلك بسبب كون النساء أكثر قلقًا حول خصوصياتهن على فيسبوك من الرجال، فتضع قيودًا أعلى حول ما تنشره، وتحذف بعض الحسابات الفيسبوكية غير المرغوب بها، مقابل الأب الذي يبحث عن الدعم الاجتماعي، ويتطلع له، ويبحث عمن يشجعه، مستخدمًا لغة الفكاهة بينه وبين الآباء الذين يدعمونه اجتماعيًا.
اقرأ أيضًا:-
ممارسات الآباء غير الحكيمة قد تدع القانون للتدخل
وفق بيان مركز الاستطلاع الوطني لصحة الأطفال بجامعة ميتشجان فإن 27% من الآباء ينشرون صورًا مسيئة لأطفالهم، 51% ينشرون معلومات يمكن من خلالها تحديد مكان الطفل، و56% منهم ينشرون قصصًا محرجة عن أطفالهم
يمكن أن يكون فخر الآباء والأمهات أحيانًا مصدرًا لخلل في حياة أطفالهم؛ ففي دراسة على أولياء الأمور اهتم توفيق عماري وفريق بحثه بجامعة ميتشجان بالبحث عن حق فتاة صغيرة في حذف صورة مدرسية لها نشرها والدها بداعي الفخر، وأبلغت الفتاة عن أبيها على فيسبوك عندما رفض حذف الصورة عند طلبها ذلك منه، وتأييد الأم لحق الأب في الرفض، رغم إعرابها عن قلقها من أن يراها زملاؤها بالمدرسة.
وإذا كان الحديث دائر حول أن هناك حاجة لمنح الوالدين مزيدًا من حقوق الوكالة على هويات أطفالهم على الإنترنت وهم صغار، فأيضًا هناك حاجة لضمان حقوق الأطفال الخاصة بهم. وسط مخاوف متزايدة عند الإفراط في التوثيق والمشاركة بمعلومات غير ملائمة؛ فقد يؤدي التفاخر إلى تحديد منزل الطفل، أو روضته، أو مكان اللعب، والكشف عن معلومات قد تعرض حياة الطفل للخطر.
وقد أظهر تقرير لمجلس اللوردات البريطاني حول هذه المسألة أن بعض الآباء يتشاركون معلومات يعرفون أنها ستحرج أطفالهم، وبعضهم لا يفكر أبدًا في رأي طفله قبل النشر، في الوقت نفسه الذي حذر استطلاع رأي من أن ربع الأطفال الذين التقط آباؤهم لهم صورًا ونشروها قد أصيبوا بالإحراج والقلق بسبب هذه التصرفات.
ولذلك ففي فرنسا وألمانيا اتخذت الشرطة خطوات واسعة لعلاج هذه المشكلة، حتى أنهم نشروا تحذيرات على فيسبوك لإخبار الآباء بمخاطر مشاركة تفاصيل حياة الطفل وأهمية حماية حياته الخاصة، في الوقت الذي اقترح فيه الأكاديميون البريطانيون على الحكومة تثقيف الآباء لضمان فهمهم أهمية حماية هوية الطفل الرقمية، مع وعد من الملكة بأن يتمكن الأفراد من مسح بياناتهم الشخصية تمامًا من على الإنترنت؛ وذلك من أجل حماية الأطفال القصر.
اقرأ أيضًا:-