عندما نذكر إمكانية توليد الكهرباء من الهواء، يتبادر إلى أذهاننا على الفور طاقة الرياح وتلك الطواحين الهوائية الضخمة، التي نشاهدها في كثير من المناطق. لكننا هنا نتحدث عن شيء أكثر بساطة بكثير، والذي قد يقلب عالم شحن الأجهزة الكهربائية والإلكترونية رأسًا على عقب. إذ هل تتخيل أن تشحن هاتفك من اللاشيء، فقط من الهواء المحيط بك ودون أي طواحين هواء!
البداية.. اكتشاف بكتيريا جديدة
بداية هذا الاكتشاف الكبير كان ذلك النوع من البكتيريا الذي اكتشفه العلماء مدفونًا في الشواطئ الموحلة لنهر بوتوماك، الذي يجري شرق الولايات المتحدة، قبل أكثر من ثلاثة عقود. أثار هذا الكائن الكثير من الدهشة عند العلماء؛ لأن بإمكانه فعل أشياء لم يسبق أن شاهدها أحد من قبل في البكتيريا.
في البداية لاحظ العلماء قدرة هذه البكتيريا، التي تنتمي إلى جنس «Geobacter» المذهلة، على إنتاج مادة «الماجنتيت» أو أكسيد الحديد في غياب الأكسجين. كان هذا أمرًا عجيبًا لأن أكسدة الحديد تتطلب ضمنيًّا وجود أكسجين. لكن البكتيريا العجيبة كانت قادرة على أكسدة الحديد حتى في غياب الأكسجين. لكن مع مرور الوقت، وجد العلماء أن بإمكان هذا الكائن فعل أشياء أخرى أيضًا، مثل إنتاج الأسلاك النانوية البكتيرية التي توصل الكهرباء.
فيديو يشرح كيف يمكن للميكروبات إنتاج الكهرباء:
ويشار إلى جنس «Geobacter» البكتيري هذا باسم «electrigens»؛ لقدرتها المعروفة على توليد شحنة كهربائية. وظل الباحثون لسنوات يحاولون اكتشاف طرق لاستغلال تلك الهدية الطبيعية بشكل مفيد؛ إذ كيف نستغل قدرة هذه البكتيريا على توصيل الكهرباء. هذا العام، ربما يكونون قد توصلوا إلى وسيلة مفيدة لاستغلال قدرات هذه البكتيريا عبر جهاز يسمى «Air-gen». ووفقًا للفريق البحثي الذي اخترع الجهاز، يمكن له توليد الكهرباء من لا شيء تقريبًا.
بفضل البكتيريا.. صناعة الكهرباء من الهواء الرقيق
يذكر الفريق البحثي أنهم «يصنعون الكهرباء حرفيًّا من الهواء الرقيق». إذ يولد «Air-gen» طاقة نظيفة على مدار الساعة طوال أيام الأسبوع. قد يبدو هذا الادعاء مبالغًا فيه، ولكن دراسة حديثة أجراها الفريق تصف كيف يمكن لهذا الجهاز المولد للكهرباء، والذي يعمل بالهواء، أن يولد الكهرباء بدون أي شيء سوى وجود الهواء حوله.
وبالطبع، كل ذلك بفضل الأسلاك النانوية للبروتينات الموصلة للكهرباء، التي تنتجها البكتيريا المميزة التي ذكرناها، والتي تسمى «G. sulfureducens». ويتكون «Air-gen» من طبقة رقيقة من الأسلاك النانوية البروتينية بسُمك سبعة ميكرومتر فقط، والتي توضع بين قطبين، ولكنها معرضة أيضًا للهواء.
وبسبب هذا التعرض للهواء، فإن طبقة الأسلاك النانوية الرقيقة قادرة على امتصاص بخار الماء الموجود في الغلاف الجوي، مما يتيح للجهاز توليد تيار كهربائي مستمر يجري بين القطبين. ويبدو أن هذه الشحنة الكهربائية تأتي نتيجة وجود تدرج في الرطوبة «moisture gradient»، والذي ينتج منه حدوث عملية انتشار للبروتونات ذات الشحنة الموجبة في مادة الأسلاك النانوية.
وأوضح الباحثون في دراستهم أن انتشار هذه الشحنة، من المتوقع أن يحفِّز إنشاء مجال كهربائي متوازن، يماثل ذلك الجهد الكهربي الذي ينشأ على طرفي الأغشية الحيوية في الكائنات الحية والأنظمة البيولوجية المختلفة. بكلمات أخرى هو مشابه لنشأة الكهرباء في أجساد الكائنات الحية، والتي نشعر بوجودها عندما يصطدم كوعنا بسطح صلب مثلًا.
وحتى ينشأ تيار كهربائي لا بد من وجود تدرج في الجهد الكهربي بين الطرفين أو القطبين. هذا التدرج في الجهد في حالة هذا الجهاز الجديد، ينتج من وجود تدرج دائم في الرطوبة بين القطبين، والذي يختلف اختلافًا جوهريًّا عن أي شيء شوهد في الأنظمة السابقة، وهو ما يفسر خروج الجهد الكهربائي المستمر من هذا الجهاز ذي الأسلاك النانوية.
تطبيقات محتملة لهذه الكهرباء النظيفة
وكعادة بعض الاختراعات الكبرى التي غيرت العالم، جاء اكتشاف هذا الجهاز أو هذه الصفة لبروتينات هذه البكتيريا، عن طريق الصدفة تقريبًا، عندما لاحظ كبير فريق الباحثين أن الأجهزة التي كان يجربها توصل الكهرباء على ما يبدو بمفردها. فقد ذكر أنه عندما وصلت الأسلاك النانوية بالأقطاب الكهربائية بطريقة معينة، ولدت الأجهزة تيارًا كهربائيًّا.
وأظهرت الأبحاث السابقة إمكانية توليد الطاقة الكهرومائية باستخدام أنواع أخرى من المواد النانوية – مثل الجرافين – لكن هذه المحاولات لم تنتج إلى حد كبير سوى دفقات قصيرة من الكهرباء، واستمرت لثوانٍ فقط. وعلى النقيض من ذلك، ينتج جهاز «Air-gen» جهدًا مستمرًّا يبلغ حوالي 0.5 فولت، بكثافة حالية تبلغ حوالي 17 ميكروأمبير لكل سنتيمتر مربع.
هذه ليست طاقة كبيرة، لكن الفريق البحثي قال إن توصيل أجهزة متعددة يمكن أن يولد طاقة كافية لشحن الأجهزة الصغيرة مثل الهواتف الذكية، والأجهزة الإلكترونية الشخصية الأخرى، كل ذلك بدون أي نفايات، ولا يستخدم سوى الرطوبة المحيطة حتى لو كنا في مناطق جافة مثل الصحراء الكبرى.
وتتميز هذه التقنية الجديدة بأنها غير ملوثة للبيئة، وتنتج طاقة متجددة كما أنها – وهذا أمر مهم – منخفضة التكلفة. كل هذه المزايا يجعلها تتفوق بشكل واضح مقارنة بمصادر الطاقة النامية الأخرى، مثل الطاقة الشمسية، وطاقة الرياح، رغم أن كلاهما طاقة متجددة. الفارق الأبرز هنا هو أن التقنية الجديدة يمكنها العمل وتوليد الطاقة داخل البيوت، ولا تحتاج إلى التعرض للشمس أو وجود رياح.
ويخطط الفريق البحثي لإدخال تعديلات على جهاز «Air-gen»، التي تسمح له باستبدال البطاريات المستخدمة في الأجهزة الإلكترونية القابلة للارتداء، مثل الساعات الذكية، وأجهزة الصحة، واللياقة البدنية الأخرى لتوفير طاقة متجددة ذاتيًّا. ويتوقعون أيضًا أنه سيوفر قريبًا الطاقة للهواتف المحمولة التي لن يحتاج المستخدم إليها لإعادة الشحن.
وأوضح الفريق البحثي أن الهدف النهائي لأبحاثهم حول هذا الجهاز يتعلق بإنشاء أنظمة واسعة النطاق، موضحًا أن الجهود المستقبلية يمكن أن تستخدم هذه التكنولوجيا لتشغيل المنازل عبر الأسلاك النانوية المدمجة في طلاء الجدران. فبمجرد أن نصل إلى نطاق صناعي لإنتاج هذه الأسلاك النانوية، يتوقع الباحثون أن نتمكن من إنشاء أنظمة كبيرة من شأنها أن تسهم بشكل كبير في إنتاج الطاقة المستدامة.
قلة الأسلاك المشكلة الوحيدة ولكن..
إذا كان هناك تأخير يمكن أن يتسبب في تحقيق هذه التكنولوجيا ذات الإمكانات التي تبدو مذهلة، فسيكون نتيجة الكمية المحدودة من الأسلاك النانوية التي تنتجها بكتيريا «G. sulfurreducens». لكن هناك بحثًا ذا صلة الذي أجراه أحد أعضاء الفريق الذي اكتشف لأول مرة بكتيريا «Geobacter» في الثمانينيات، يمكن أن يكون عنده حل لهذه المشكلة.
الحل سيكون من خلال هندسة الجراثيم الأخرى وراثيًّا، مثل بكتيريا الإيشريشيا كولاي (E. coli) المنتشرة على نطاق واسع في الطبيعة، بل داخل أجسامنا، لأداء الحيلة نفسها في الإمدادات الضخمة. هذا يعني أن نتلاعب بجينات بكتيريا الإيشريشيا كولاي، ونضع فيها جزءًا من الجينات المسؤولة عن إنتاج هذه البروتينات النانوية من أجل تحويلها إلى مصنع للبروتينات النانوية.
مع هذه العملية الجديدة القابلة للتوسعة والاستخدام، لن يكون نقص تزويد الأسلاك النانوية عقبة أمام تطوير هذه التطبيقات الواعدة، والتي يمكن أن تغير من شكل المستقبل.