منذ دخول الإسلام إلى منطقة المغرب العربي، توالت نشأة الدول والإمارات المختلفة، مع اختلاف ولاءاتهم وانتماءاتهم السياسية والدينية. وقد أثارت إمارة بورغواطة اهتمام الباحثين، وأصبحت محورًا للحديث عن أصول فكرها العقائدي، وهل تتبع تعاليم الإسلام أم دينها الجديد كان أقرب للوثنية؟ في هذا التقرير، نوضح لك كل ما تريد معرفته عن إمارة بورغواطة منذ نشأتها حتى نهايتها على أيدي المرابطين.
الفتح الإسلامي يصل بورغواطة وكذلك مبادئ الخوارج
يعود أصل بورغواطة إلى قبائل بربرية مصمودية نشأت في إقليم تامسنا، المعروف حاليًا بالشاوية، ويقع على الساحل الغربي للمغرب، بين نهري أبي رقراق شمالًا، وأم الربيع جنوبًا.
كانت المنطقة خاضعة لنفوذ يليان حاكم سبتة قبل الفتح الإسلامي، وكان وصول عقبة بن نافع إلى المنطقة في ولايته الثانية على المغرب أول احتكاك مباشر لسكان المنطقة مع الإسلام. لكن هذه الحملة لم تسفر عن انتشار الإسلام. ولكن عندما جاءت حملة موسى بن نصير في عام 87 هجريًّا إلى بلاد درعة القريبة من منطقة بورغواطة، عهد إلى طارق بن زياد بتعليم أهل بورغواطة تعاليم الإسلام وشرائعه.
حينما وُليّ عبيد الله بن الحبحاب واليًا على المغرب، أسند منطقة تامسنا إلى ابنه إسماعيل، ومنطقة المغرب الأقصى إلى ابنه عمر الذي فضل العرب على البربر، فخرجوا عليه. حينئذ، أرسل إليهم ابن الحبحاب جيشًا على رأسه حبيب بن أبي عبدة بن عقبة بن نافع في عام 116 هجريًّا، فتمكن من السيطرة على المنطقة المغربية بأسرها بما فيها تامسنا.

نهر أبي الرقراق في المغرب
في تلك الأثناء، عزم الخوارج على غرس مبادئهم مستغلين العداء بين العرب والبربر، ولقي مذهب الخوارج قبولًا في تلك المنطقة. خلال تلك الأحداث برز اسم ميسرة المطغري الذي كان قد ذهب إلى دمشق لرفع شكواه إلى الخليفة الأموي هشام بن عبد الملك، لكنه لم يتمكن من مقابلته، فعزم وأصحابه على القيام بثورة عارمة للتخلص من الحكم الأموي في المغرب، وانضم إلى الثورة بربر بورغواطة.
نشبت معركة ضخمة انتهت بهزيمة العرب، ولكن قُتل فيها المطغري على أيدي أتباعه لأنه أراد أن يستسلم قبل بدء المعركة، فانسحب قائد جيوشه طريف أبو صالح إلى إقليم تامسنا، وبدأ تأسيس دولة قوية هناك.
لكن.. من هو طريف أبو صالح؟
وفقًا لقاموس معلمة المغرب فإن قصة تأسيس إمارة بورغواطة في أغلب المصادر متقاربة إلى حد كبير، فلا خلاف حول اسم مؤسسها «طريف»، ولكن الخلاف على أصله، فقيل إن أصله يهودي من ولد شمعون بن يعقوب من برباط بالأندلس، أسلم مع بداية الفتح الإسلامي للأندلس، وتحول نسبه البرباطي إلى بورغواطي على لسان البربر.
فيما قال بعض المؤرخين إن طريف مؤسس بورغواطة هو ذاته طريف صاحب الحملة الاستطلاعية إلى الأندلس عام 91 هجريًّا، وأنه من العرب ويدعى طريف بن ملوك. وفي الحالتين كلتيهما، فإن طريف مؤسس بورغواطة كان قائدًا لجيوش «ميسرة المطغري» في ثورة الخوارج.
بنو طريف.. دعاة الدين الجديد!
بعد وفاة المطغري، ذهب طريف إلى إقليم تامسنا، وعندما وصل، اتفق سكان الإقليم على أن يتولى طريف أمرهم، وأسس إمارة بورغواطة في عام 122 هجريًّا/ 741 ميلاديًّا.
بعد وفاة طريف في عام 127 هجريًّا، خلفه ابنه صالح، وأسس لديانة جديدة، وادّعى النبوة، وقال إنه «صالح المؤمنين» الذي ذكر في سورة التحريم، وادعى أنه المهدي المنتظر الذ سيعود في آخر الزمان لقتل الدجال وملء الأرض عدلًا. وعند اقتراب أجله، ذهب إلى المشرق بعد أن وعد ابنه إلياس أنه سيعود في دولة السابع من ملوكهم.
وقد أوصى صالح ولده إلياس بنشر الديانة الجديدة عندما يشتد عضده، وأمره بموالاة أمير الأندلس، لكن إلياس تمسك بعقيدته الإسلامية، وظل في الحكم حوالي 50 عامًا، لكنه على جانب آخر لم يتخلص من تعاليم والده صالح وظلت محفوظة، وهو ما جعل بعض المؤرخين يعتقدون أن إلياس كان يتظاهر بالإسلام، وعمل على تهيئة من حوله لتقبل عقيدة صالح حتى ينشرها ابنه يونس من بعده عندما يتأكد من تقبل المجتمع لها.
ازدهار بورغواطة ونشر الدين الجديد
حينما تولى يونس بن إلياس بن صالح أمر بورغواطة في عام 224 هجريًّا، وجد تعاليم جده محفوظة، فتولى نشرها بحد السيف، وبدأ عهد ازدهار بورغواطة. وكان يونس قد سافر إلى المشرق وأدى فريضة الحج، وربما كان هذا تظاهرًا بالإسلام وتسترًا على نواياه المستقبلية في نشر الديانة البورغواطية، وفقًا لرأي المؤرخين.
قتل يونس الكثيرين من صنهاجة وزناتة، وأرغم المصامدة على اتباع الديانة الجديدة، وفي تلك الأثناء، دانت بعض القبائل بالطاعة لبورغواطة.

خريطة المغرب الإسلامي في القرن الثالث الهجري/ مصدر الصورة
استمر يونس في السلطة نحو 40 عامًا، وانتقلت من بعده إلى أبو عفير، ثم ابنه أبو الأنصار في عام 300 هجريًّا، ومن بعدهما أبو منصور عيسى في عام 342 هجريًّا، والذي أبلغه والده قبل وفاته أنه سابع الأمراء من أهل البيت ومن المنتظر أن يأتيه صالح بن طريف.
كانت الولاية في عهدهم أكثر قوة، وامتلكوا جيشًا يتكون من 25 ألف رجل. لكن هذا العصر الذهبي انتهى بمقتل أبي منصور في عام 369 هجريًّا، ولكن هذا لم ينهِ الإمارة! إذ تمكنت من استعادة نفسها شيئًا فشيئًا، حتى أنها تمكنت من الصمود في وجه المرابطين وقتل زعيمهم عبد بن ياسين بعد قرابة 80 عامًا.
في عصر المرابطين عام 451 هجريًّا، حاربهم يوسف بن تاشفين، وقضى على ملكهم عيسى بن عبد الله، وقيل إن هذه كانت نهاية بورغواطة نهائيًا، وتوحدت المغرب تحت سلطة واحدة، ومن ظل منهم على قيد الحياة، أُرغم على تجديد إسلامه.
لكن نزعتهم الاستقلالية ظلت قائمة واتضحت في الانتفاضات اللاحقة للبورغواطيين، وقد أشار أحد المؤرخين لهذا حينما قال إن المرابطين لم ينهوا أمر بورغواطة تمامًا، فقد تمردت طائفة من بقاياهم على دولة الموحدين، وشاركوا في الثورات، لكن الموحدين أخمدوها سريعًا لتنتهي دولة بورغواطة.
علاقة بورغواطة بالإمارات المجاورة
رغم اختلاف المؤرخين حول الكيان السياسي لبورغواطة في العصر الإسلامي، إلا أن أغلبهم اتفق على أن الظروف أتاحت لها أن تكون دولة مستقلة بفضل ثرواتها الاقتصادية الهائلة فقد أهَّلها موقعها إلى امتلاك مقومات البيئة الزراعية عن جدارة، بالإضافة إلى إمكاناتها العسكرية وطبيعة تضاريسها حيث إن الجبال المحيطة وفرت لها حماية طبيعية. كما كانت معبرًا تجاريًا بريًا من شمال المغرب إلى جنوبه مما منح حكامها القدرة على الاستقلال بمقوماتها الاقتصادية الداعمة لأساس حكمهم. وتسببت كل المقومات في جعل بورغواطة هدفًا للطامعين من الإمارات المجاورة.
ضمت إمارة بورغواطة حوالي 29 قبيلة بيهم 12 فقط يدينون بالديانة البورغواطية، والقبائل الأخرى مسلمة خضعت لسلطة بورغواطة السياسية فقط. تمكنت الإمارة من البقاء ومقاومة القوى الإسلامية المتعاقبة على عرش المغرب حتى عصر المرابطين.
في عام 172، حينما هرب إدريس بن عبد الله بن الحسن من العباسيين ووصل إلى المغرب، التفت حوله الكثير من القبائل وبايعوه بالإمامة، ولكن حدث تنافس بين إدريس الأول وإلياس بن صالح على المناطق الممتدة بين منطقتي نفوذهما.
نجح الأدارسة من فرض نفوذهم على تامسنا فترة من الزمن في عهد محمد بن إدريس الثاني في فترة الانتقال بين حكم يونس بن إلياس وأبي غفير، لكنه تمكن من التصدي للأدارسة وأعاد عقيدة أسرته وأجداده إلى الظهور.
علاقة بورغواطة ببلاد الأندلس
كما ذكرنا، فإن صالح بن طريف قد أوصى ابنه إلياس بالموالاة لأمراء الأندلس، وانتقلت الوصية من إلياس إلى ابنه يونس. كما شهد القرنين الرابع والخامس على الازدهار السياسي لإمارة بورغواطة، وتباينت علاقتها مع دولة بني أمية في الأندلس، فقد كانت العلاقات ودية في عهد الخليفة عبد الرحمن الناصر والحكم المستنصر بالله، وقد أكد هذا استقبال الحكم المستنصر بالله لوفد رسمي من بورغواطة في عام 352 هجريًّا برئاسة زمور بن صالح.
في عهد المؤيد بالله ابن الحكم المستنصر، شهدت الدولة الأموية بداية انحسار سطوتها، وسيطر المنصور بن أبي عامر على مقاليد الحكم لمدة 20 عامًا، واتسمت تلك الفترة بسوء العلاقة بين بورغواطة والعامريين بعدما قاد جعفر بن علي والي المنصور حملة على بورغواطة في عام 366 هجريًّا، وتكرر غزو العامريين مرة أخرى في عام 389 بمساعدة المغاربة الموالين للمنصور بن أبي عامر.
لا يأكلون الدجاج ويفطرون رمضان! ملامح الديانة البورغواطية
عندما تولى صالح بن طريف أمر ولاية بورغواطة، وضع ديانة بورغواطية جديدة، ولما جاء حفيده يونس بن إلياس أعلنها كما ذكرنا.
اختلف الباحثون حول طبيعة الديانة البورغواطية، فقد اعتبرها الكثيرون خروجًا فجًا عن الدين الإسلامي وتعاليمه ووصفوها بالمجوسية والهرطقة، فيما دافع القليل منهم عن عقيدة البورغواطيين ونسبوها إلى الإسلام.
كان للديانة الجديدة كتاب مقدس باللغة البربرية، يضم 80 سورة تجمع بين أسماء الأنبياء والحيوانات. واشتملت الديانة البورغواطية بعض العبادات، ولكنها محرفة أو مبالغة عن العبادات الإسلامية، ويتضح هذا في الوضوء، فقد وجب غسل الصرة والخاصرتين والرجلين إلى الركبتين ومسح الرقبة. أما بالنسبة للصلاة، فكانت 10 صلوات بعضها كصلاة المسلمين، وبعضها سجدات متوالية أو إيماءات فقط، وكانوا يصومون رجب ويفطرون رمضان!
شرعت ديانة البورغواطيين تعدد الزوجات حسب القدرة، والطلاق والعودة دون شروط، ومنعوا الزواج من ابنة العم إلا بعد مرور ثلاثة جدود. كما حرمت الديانة الزنا والزواج بالمرأة المسلمة. وقد شرع البورغواطيون قتل السارق، ونفي الكاذب، وفرض الدية على القاتل لتصل إلى 100 بقرة، فيما أضاف البورغواطيون طقوسًا أخرى كالاستشفاء ببصاق الأولياء، وتحريم أكل الديك والبيض وكره أكل الدجاج!