لن ينسى السوريون الصورة النمطية لعنصر المخابرات في مسلسلاتهم، ظهر كرجل يرتدي نظارات سوداء، وبذلة رسمية، وحذاءً أسود، ويجلس على مقهى يتوسَّطهم وهو يحتسي «المتّة»، كان هذا المشهد في الدراما يضحكهم، لكنه في الواقع يرعبهم للغاية.

بعد اندلاع الثورة السورية عام 2011، التي منحت المعارضين السوريين حرية القول على الأقل لم تنفك عنهم المخابرات، بل تعمقت في اختراق صفوفهم، ووصل الأمر لحد اغتيالهم  على يد عملاء النظام، الذين وصلوا حتى في مناطق اللجوء ذات السيادة الدولية.

شواهد اختراق النظام السوري للمعارضة

بدءًا بما حدث في شهر أغسطس (آب) الماضي، يمكننا ذكر جريمة قتل سبعة من أعضاء مجموعة الإنقاذ السورية الشهيرة، ‏المعروفة بـ«الخوذ البيضاء»، فالنظام السوري «قد يكون الجاني الوحيد الذي يمكن أن يُحمِّله الناس في إدلب المسؤولية بأمان؛ خاصةً أن عملاء الأسد كانوا يحاولون إثارة عدم الثقة بين الجماعات المعارضة؛ وربما ليجبروا عمال الخوذ البيضاء على التخلي عن استقلالهم، والسعي للحصول على الحماية من الجهاديين؛ مما يجعلهم أقل استساغة للحكومات الغربية»، حسبما جاء في تقرير «التليجراف» البريطانية، والتي نقلت عن رئيس منظمة الخوذ البيضاء في محافظة إدلب «أحمد شيخو» قوله إنه: «يعتقد أن رجاله قُتِلوا على أيدي عناصر من نظام الأسد، الذين يعيشون إما خفيةً داخل إدلب، وإما تسلَّلوا إلى المنطقة لتنفيذ عملية القتل».

ولم يتوان النظام عن زرع عملائه بغية تصفية قادة عسكريين في المعارضة السورية، فقد كان الحل الأمني في بعض الأحيان بديلًا عن الفشل العسكري، ونستشهد هنا بما حدث عام 2014، فبعد عدة محاولات فاشلة من قبل النظام لاقتحام مخيم (خان الشيح)، شكّل النظام السوري مجموعات سرية مهمتها إشعال نار الفتنة بين الفصائل، واغتيال بعض الشخصيات المهمة عن طريق تفخيخ سياراتهم أو قتلهم باستخدام أسلحة مزودة بكواتم للصوت، وقد استعان النظام حينها بشخصيات مؤيدة للنظام خارج المخيم وداخله.

المقدم المنشق «حسين هرموش» (أورينت)

وتعد واحدة من أهم الحوادث التي تذكر عن الاختراق الأمني من قبل النظام، ما حدث في أغسطس (آب) عام 2011، عندما تمكنت المخابرات السورية من اعتقال المقدم المنشق «حسين هرموش» من داخل الأراضي التركية، إذ لم يمض ثلاثة أشهر على انشقاق «هرموش» حتى استعاد النظام أول ضابط ينشق عن جيشه النظامي، ويؤسس لواء الضباط الأحرار الذي شكل النواة الأولى للجيش السوري الحر في 29 يوليو (تموز) 2011.

يقول مدير مكتب الارتباط الداخلي في مخابرات الثورة السورية «خالد الحمود»: «ضباط من المخابرات السورية تمكنوا من استجراره من مخيم كلس للاجئين السوريين بتركيا إلى فندق في مدينة عنتاب بحجة تسلميه سلاحًا للثوار، ودسوا في شرابه مخدرًا، ثم اقتادوه إلى دمشق»، أما رواية ابن أخيه «محمود الهرموش»، فيقول إن عمه: «لم يكن يثق بسرعة في الناس، ولكنه كان يثق بالمعارضة السورية وبمن ترسلهم من طرفها، وهذا خطأ كبير وقع فيه الهرموش».

ويكشف تقرير لشركة (FireEye) الأمريكية المتخصصة بأمن الشبكة الإلكترونية عن تعرض مقاتلين من المعارضة السورية للقرصنة، وقد سرقت خططهم العسكرية عن طريق نساء  مجندات من قبل المخابرات قمن بإغوائهم على الإنترنت، كما يمكن هنا الاستشهاد بحوادث اختراق النظام للمعارضة عبر الإعلاميين والناشطين، الذين اكتشف أمرهم عندما هربوا إلى «حضن النظام» خاصة بعد معركة حلب، فقد كان هؤلاء يتمتعون بعلاقات وثيقة بمقاتلي المعارضة المسلحة، ووفرت لهم فرصة دخول مقرات الفصائل، ومخازنها، وتواجدوا في الخطوط الأولى بجبهات القتال.

تغلغُل مُخبري النظام من داخل الوطن إلى اللجوء

تمكن النظام السوري عبر عشرات السنين من خلق مستويات متعددة من المخابرات، فبالإضافة إلى أجهزته الأمنية الرسمية، تغلغَلَ المخبرون والمندوبون في المجتمع السوري، الذين جنّدهم النظام بالترهيب أو الترغيب. يضعنا الإعلامي السوري «فراس ديبة» في حقيقة الأوضاع قبل الثورة السورية، فيقول إنه كان هناك شعور عام لدى المجتمع أن أي حديث يمكن أن ينقله أحد الحاضرين إلى الأجهزة الأمنية، ويحاسب عليه كل من كان حاضرًا في تلك الجلسة، وكان الخوف هو الكلمة السحرية لحكم المجتمع السوري.

ويواصل «ديبة» الحديث لـ«ساسة بوست»: «مع انطلاق الثورة السورية اندس الكثير من المخبرين في أوساط الثوار وتغلغلوا في المظاهرات، مما أودى بحياة الكثير من الثوار منذ البدايات، كما كانت هناك حالات انشقاق لضباط وعناصر من الجيش بتوجيه من الأجهزة الأمنية، بمهمات متعددة منها التجسس والاغتيالات والتلاعب ببعض المعارك»، منوهًا لوجود اختراقات أمنية متعددة على مستوى المعارضة السياسية، فما لبثت في الأشهر الأخيرة أن تكشفت من خلال أصوات تدعي أنها معارضة، أصبحت تنادي ببقاء الأسد والحفاظ على الجيش الطائفي والأجهزة الأمنية المتسلطة على رقاب الشعب، ويحجم «ديبة» عن تحميل أية جهة المسؤولية عن هذه الاختراقات، مبررًا ذلك بالقول: «إننا أمام ثورة شعبية مفتوحة، ولسنا أمام حالة تنظيمية مغلقة أو سرية، مما يجعل تنقية صفوف الثورة شعبيًّا أو عسكريًّا أو سياسيًّا أمرًا مستحيلًا».

كيف خُلقت في بيئة المعارضة ظروفٌ ملائمة للاختراق؟

في سبتمبر (أيلول) 2014، تمكن المكتب الأمني التابع لـ«لواء خالد بن الوليد» في مدينة الرستن الواقعة تحت سيطرة المعارضة السورية من إلقاء القبض على مجموعة من عملاء النظام. وسلم المكتب هؤلاء إلى المحكمة الشرعية، لكن المفاجأة كانت أن المحكمة أطلقت سراح العملاء بالرغم من وجود إثباتات وبراهين لإدانتهم، كاعترافات مسجلة وخرائط وأجهزة كانت بحوزتهم، ويعد الأكثر مفاجأة أنها لم تكن المرة الأولى التي يتم فيها إطلاق سراح عملاء من قبل الهيئة الشرعية، فقد شهدت درعا إطلاق سراح عميل تم اعتقاله من قبل الجيش الحر، وأثبتت الأدلة إدانته بالعمالة لصالح النظام السوري، لتضع هذه الحوادث نقاطًا كثيرة حول تورط هذه المحاكم بأمور اختلاس ورشوات وارتباطات مع النظام.

أحد مؤيدي النظام السوري يرفع صورة «بشار الأسد»

وتضعنا الحادثة السابقة في البحث عن أسباب وصول الاختراق داخل المعارضة لهذا الحد، فيؤكد الباحث بمركز عمران للدراسات الاستراتيجية «معن طلّاع» إن سيولة بنية المعارضة وهشاشتها وعدم وضوح محدداتها التنظيمية، وانتفاء الأجسام الثورية الاستخباراتية المحترفة، ساهمت في خلق ظروف ملائمة للاختراق من قبل النظام، ناهيك عن أن كافة تفاعلات المعارضة تتم في المجال الافتراضي ووسائل التواصل الاجتماعي، الأمر الذي يجعل الحصول على معلومة أسهل وأقل تكلفة.

أما فيما يرتبط باختراق النظام لصفوف المعارضة استخباراتيًّا، فيعتقد «طلّاع» أن الأمر متوقع ولم تتحصن المعارضة منه، ويقول: «أبجد هوز عمل أية أجهزة استخبارات دولتية في أي صراع هو العمل على اختراق بنية الآخر، وفهم طبيعته واتجاهاته وحدوده وحجمه، ثم العمل على تمكين عناصر الاختراق وصولًا للتحكم في خيارات تلك البنية، أو العمل على ضربها، أو تشتيت قراراتها»، مشيرًا إلى أن أجهزة المخابرات السورية عملت منذ بدء الحراك على تحقيق الاختراق وبعدة مفاهيم منها: الاختراق العضوي الذي يضمن وصول (تابعين لها) لهذه البنى، وتضمين مجموعات سياسية وعسكرية قابلة للتوظيف التطويع (بحكم فهم تلك الأجهزة لهذه البنى ومستنداتها الفكرية) في صفوف المعارضة.

علي مملوك، رئيس المخابرات السورية (المصدر: i24NEWS)

ويعتبر «طلّاع» أخطر أدوات الاختراق تتمثل في تعميق (سياسات ردة الفعل) داخل المعارضة، وسلبها أي قدرة على التفكير الاستراتيجي، وهو أمر أبلغ من الاختراق المعلوماتي، ويوضح أن: «هذه السياسات تمت عبر أمرين، الأول جرها للخيار العسكري والأمني الذي فرض عليها قبول عدة شخصيات وأجسام عابرة للثورية وتخدم سردية النظام، والثاني جرها للتحدي الإداري الذي يدرك النظام أنها لن تنجح به، خاصة بعد سحبه لكافة مؤسسات الدولة التنفيذية والقضائية منها».

من جانبه، يرى الباحث السياسي السوري «خليل مقداد» أن من أسباب اختراق المعارضة: «الثقة المفرطة بكل من ينشق عن عصابة الأسد واعتباره بطلًا، وقبول الكثيرين منهم في مواقع القيادة والتمثيل الثوري، وهو ما سمح لهؤلاء بمساعدة المزيد من الفاسدين والعملاء على تبوء مراكز قيادية»، ويضيف «مقداد» في مقاله «عن الثورة واختراقها والعودة لحضن بشار» أن غياب أنواع الرقابة المؤسساتية، بسبب فساد شريحة واسعة من القائمين على مؤسسات التمثيل الثوري، سهّل أيضًا من اختراق صفوف المعارضين، وكذلك «التدخل الدولي والإقليمي الهائل، إضافة لصراع الأجندات والمحاصصة الذي سمح لهذه الدول بتهميش وتصفية الفاعلين، واستقطاب الكثير من السوريين الباحثين عن الدعم المالي والعسكري والإغاثي».

اختراق المعارضة.. تركيا نموذجًا

بالعودة قليلًا إلى حادثة اختطاف المقدم السوري المنشق «حسين هرموش» من مدينة أنطاكيا التركية، رُجحت مشاركة عناصر من المخابرات التركية ينتمون إلى الطائفة العلوية في تسهيل تلك العملية. وبدءًا بهذه الطائفة يمكننا الحديث عن امتلاك المخابرات السورية نفوذًا تاريخيًّا كبيرًا في تركيا، حيث جند النظام أعضاءً من الطائفة العلوية التي كانت على اتصال وتعاون مباشر معه.

الناشط الإعلامي الراحل، ناجي الجرف (مصدر الصورة: فيسبوك)

كما خلقت موجات اللجوء إلى تركيا فرصة لدخول عناصر على ارتباط بالمخابرات السورية إلى الأراضي التركية، يقول الصحافي السوري إبراهيم العلبي: «أعتقد أنه لم ينقطع وجود خلايا ونشاطات لمخابرات الأسد في تركيا منذ 30 عامًا، فالعلويون قاموا بتفجيرات بالتزامن مع عمليات لحزب العمال الكردستاني (بي كا كا)، والمسلحون الأكراد كانوا أنفسهم ممرًا للمخابرات السورية من أجل الولوج إلى الساحة التركية»، ويتابع القول لـ«القدس العربي»: «في الثمانينيات والتسعينيات كان يتركز عمل المخابرات السورية على إثارة القلاقل، وزعزعة الأمن في تركيا، ومع بداية الثورة أول تفجير استهدف معبر باب الهوى ـ معبر حدودي بين تركيا وسورياـ وأول تفجير حصل في أنطاكيا قبل 3 أعوام كان بأيدي المخابرات السورية».

يذكر أن تركيا شهدت حوادث اغتيال اتهم بتنفيذها «تنظيم الدولة»، من أبرزها قتل عضو حملة «الرقة تذبح بصمت» إبراهيم عبد القادر، وصديقه الإعلامي «فارس حمادي»، كما اغتيل الناشط الإعلامي البارز، ناجي الجرف، والصحافي السوري زاهر شرقاط.

المعارضة مخترقة دوليًّا أيضًا

عند النظر في نتائج الصراع الصلب الذي استمر لأكثر من 6 سنوات، نجد أن هوامش القرار الوطني لكلٍّ من النظام والمعارضة كانت هوامش ضيقة جدًّا، الأمر الذي كان سببًا رئيسيًّا لانعكاس هذا التدخل حتى على المعنى العسكري الذي خلق مناطق نفوذ ترسم وفق معايير وطرحات أمنية بالدرجة الأولى، تراعي مفهوم أمن الجوار، والأمن الإقليمي للمنطقة بشكل عام.

لاجئون سوريون (المصدر: الشرق القطرية)

يضعنا ذلك أمام التطرق للاختراق الدولي للمعارضة والنظام السوري معًا، فأغلب الدول التي تدخلت في القضية السورية شهدت بمكان ما تعارض بين الأداة السياسية والأمنية لتسلم دفة الأمور في أغلب هذه الدول لصالح الأداة الأمنية وذلك بحكم تسيد المنطق الأمني في معالجات وأطروحات المشهد السياسي في سوريا، يقول الباحث بمركز عمران للدراسات الاستراتيجية «معن طلّاع» إنه عندما نجح المجتمع الدولي في التعاون مع القضية السورية باعتبارها أزمة تحتاج لإدارة، وتغلب منطق إدارة الأزمة على القضية السورية، كان لا بد من الانخراط الدولي في الملف السوري بأداتين متوازيتين هما الأداة السياسية، والأداة الأمنية بمعناها الاستخباراتي، أي أن الأداة الاستخبارتية تعمل على تهيئة المناخ لمراعاة الشروط السياسية لتلك الدول، بالإضافة لتقديم فهم عميق للملف السوري بمعناها المعلوماتي والاستخباراتي.

ويوضح «طلّاع» خلال حديثه لـ«ساسة بوست» أن ذلك نجح بعدة أشكال: الشكل الأول هو ربط أداة الدعم العسكري والأمني ببوصلة الأهداف السياسية لتلك الدول، من خلال مشاريع التدريب والدعم العسكري المشروطة، والتي يشرف عليها الجهاز الأمني لتلك الدول مباشرةً، أما الشكل الثاني فقد أتي بصيغ ناعمة أكثر عن طريق الدعم الإغاثي أو حتى الدعم السياسي، وتوفير منصات ومؤتمرات للمعارضة أو غيرها.

مقاتل سوري (المصدر: رويترز)

ويشير «طلّاع» إلى أن الاختراق الأمني أتى لطرفي الصراع في سوريا، لكنه كان أكثر عمقًا عند المعارضة كونها لا تمتلك أطرًا دبلوماسية يمكن أن تشكل لها عوامل صد لهذا الاختراق، موضحًا: «تعمق الاختراق الأمني بشكل أوضح عندما تم استعصاء الحل السياسي وتغليب منطق الحل والحسم العسكري، وبالتالي تقسيم سوريا إلي جبهات يختلف فيها الفاعلون وفق تلك الحدود لتلك الجبهة الأمر يتطلب تدخلًا أمنيًّا في هذه الدول لتلك الجبهة».

ويشير الباحث بمركز عمران للدراسات الاستراتيجية «طلّاع» إلى أن هناك بعض العوامل والأخطاء الذاتية التي ساهمت في تعزيز الدور الاستخباراتي وقعت فيها المعارضة، أهمها عدم حسن الموازنة بين الإدارة الوطنية للملفات التي نجمت عن الأزمة السورية مع إدارة العلاقات الخارجية، خاصةً مع ما كان يسمى دعم أصدقاء الشعب السوري، مضيفًا: «أن ما عمق الاختراق الأمني في المعارضة هو وجود عدة مشاريع عابرة للوطنية ذات أذرع سياسية وعسكرية». كما أنه من أهم الأدوات التي عمقت هذا الاختراق هو عدم حسن إدارة ملف الدعم الإغاثي والتنموي لسوريا، فبعد أن كرست المعطيات ونتائج الحرب حاجة ملحة للعمل التنموي والإغاثي أصبح هناك تقبل غير مشروط لأي دعم من كل الجهات، الأمر الذي غيب الأثر الوطني والتوازن الوطني بين المحافظات السورية.

المصادر

تحميل المزيد