للسلطة أبطالها، وللشعب أبطاله؛ رائحة ذكرياتهم في شوارع المحروسة وبين آثارها وفي أحيائها الشعبية والراقية نفاذة، تحمل أحلامًا وأوجاعًا تستطيع النفس تمييزها بين كل الأحزان فتواسيها، حتى من لا يعرف هؤلاء الأبطال الشعبيين بالاسم، سيكتشف في تلك السلسلة، إلى أي حد يربطهم به علاقة وشيجة الصلة، وربما يعرف لماذا يتناقل أبناء المحروسة دائمًا حكاية مفادها أن أحدهم إذا ما أغلق هاتفه، في لحظة شجن وتيه، وسار بجوار النيل الذي يطوي في باطنه آلافًا من قصص الغرام والبطولة والتضحية، وأكمل نزهته بين شوارع قاهرة نجيب محفوظ وأحيائها الشعبية، الحاملة لتاريخ شاهد على تحدي الحياة وحبها، وجد وكأن أرواحًا مجهولة وحكايات تؤنسه في سيره وحيدًا، وتتفهم أسراره التي يرفض البوح بها، فيعود خفيف الروح والجسد، وكأن حكايات مصر السرية؛ حكايات أبطالها وشبابها وأحلامهم قد سكنته قبل أن يسكنها.
ستكون رحلة أسبوعية إلى قلب الحكايات السرية للمحروسة، كل خميس من كل أسبوع على موعد مع حلقة جديدة من تلك السلسلة، رحلة محفوفة بالمخاطر، لأنك قد تقابل فيها نفسك، ستجد الأبطال يتشاركون معك شوارع الحب والغرام والخذلان، يتشاركون معك الأحلام واللغة، والهتافات والغضب والأحلام الدفينة والثورة، يحملون ذكريات مشابهة تمامًا في بعض الأحيان لتلك التي عشتها، وربما متطابقة أيضًا، يتشاركون معك أشد اللحظات حميمية للروح، وأكثر لحظات الرومانسية، وتلك التي تتحول فيها الميول الانتحارية فجأة إلى أخرى استشهادية، لا ترى من معشوق في هذا العالم سوى الوطن، وحكاياته وأحلامه وخيباته؛ وطن يحمل رائحة الحب الأول والأم المعيلة الصابرة، والمدرسة والمدن القديمة والأصدقاء والمقاهي ودور العبادة، ودروب اتخذها أطفالها موطنًا للمتعة الصافية في لعب كرة القدم، والحكايات السرية وملاحم الأبطال.
كل ما ستحاول تلك السلسلة أن تفعله، هو فتح كتاب الأسرار لحكايات المصريين، وسير أبطالهم، بعيدًا عن «نسخة الوطنية» التي تروجها أجهزة الدولة، والتي ربما تنظر إليها الأجيال الجديدة بنوع من السخرية، وربما جعلت أيضًا الحديث عن الوطنية والوطن، محض حديث يُصاب الناس بالملل عند سماعه.
سنحاول في هذه السلسلة أن نقترب من أبطال الشعب، لا الأبطال الذين رسختهم السلطة في المسامع قهرًا عبر وسائل إعلامها، سنحاول ها هنا أن نقترب من السر الدفين، ومراكز هذا الوطن الروحية، التي تؤنس ساكنيه، وربما تصالحهم على أنفسهم أيضًا.
محطة استثنائية في الرحلة
خلال رحلتنا الطويلة في هذه السلسلة، لاكتشاف المراكز الروحية الخفية والسرية التي تؤنس حياة سكان المحروسة، وتعطيهم المعنى وتصالحهم على حيواتهم الشاقة، قابلنا عشاق المحروسة المنسيين؛ مشينا مع أخطر عاشق في القاهرة «عبد الحكم الجراحي» على كوبري عباس، وصاحبنا علي طه عفيفي، الذي لا نعرف عنه شيئًا؛ صاحبناه منذ صبيحة يوم خروجه في مظاهرات عام 1935 وحتى استشهاده، وصولًا إلى استقراره في قلوب ملايين البشر، الذين لا يعرفون كونه شخصية حقيقية من لحم ودم، عاشت وتجولت وحلمت في شوارع القاهرة، وأبحرنا مع الشاب المسيحي السوري جول جمال شمال البرلس، وهو يفجر نفسه في البارجة البحرية الفرنسية المرعبة، والأكثر تطورًا في العالم آنذاك، ويخرجها بجسده وحده خاسرة مدحورة من أرض المعركة، ودخلنا إلى منازل الأمهات في بورسعيد، وهن يجهزن أدوات الطهي خاصتهم، لكن هذه المرة لا ليجهزن المائدة لصغارهم، وإنما ليقتلن بها المحتلين في شوارع المدينة الباسلة، وكذلك رأينا كيف خرج الشيوعيون المصريون من زنزانات التعذيب المرعبة، ليقودوا المقاومة الشعبية، ضد جيوش العدوان الثلاثي، وعرفنا «هيبة»، جندي المهام المستحيلة والفول المدمس، في كتيبة البطل أحمد عبد العزيز، ونظرنا في وجه الشاب «مولانا الشيخ عبيد»، قبل أن ينصهر جسده على مدفعه، وهو يقاوم الإنجليز وحده في التل الكبير، ويتحول إلى ولي صوفي في وجدان المصريين.
دراويش المحروسة المغمورين في هذه السلسة، كان بعضهم متدينًا مسلمًا، وبعضهم مسيحيًا، وبعضهم لم يواظب أبدًا على أداء الشعائر الدينية. بعضهم كان أسمر البشرة، وبعضهم كان أشقر. بعضهم كان عصبي المزاج سريع الانفعال، وبعضهم كان رقيقًا للغاية. بعضهم كان شيوعيًا وبعضهم كان إسلامي النزعة والعقيدة. كل منهم كانت له قصته الاستثنائية، التي جعلت منه مركز سكينة خفي في قلب هذا الوطن، لكن في هذه الحلقة سيختلف الأمر كثيرًا، فالبطل ليس إنسانًا من الأساس، هو تحديدًا «جمل».
«الحيوان لو سمع الندا للفدا عن روحه يتخلى.. التضحية من ضمن صفاته اللي بيها بيتحلى.. المفروض إننا نتعلم من كل ده على فكرة، إن العمل الصالح دايم في الدنيا وفي الآخرة.. ولكل حيوان معجزة.. حكايات كتير عبرة وعظة.. تعالوا نفهم إيه الحكاية وإيه غرضها وقصدها.. مضروبة لينا الأمثلة، سهلة وبسيطة المسألة.. حلوة الحياة طول ما القلوب خايفة يا ناس على بعضها».
فيلا وسيارة لكل مواطن!
هذه اللوحة الكبيرة، التي وضعها النظام المصري في شوارع القاهرة، بنهاية سبعينيات القرن الماضي، كانت حلقة من مسلسل وعود الرئيس المصري محمد أنور السادات للشعب المصري، بالرخاء والرفاهية في السنوات القادمة، حيث وعد الرئيس المصري بأن يمتلك كل مواطن فيلا بحمام سباحة وسيارة في المستقبل القريب، نتيجة لسياسات مصر الجديدة، القائمة على الانفتاح الاقتصادي، والولاء التام للولايات المتحدة الأمريكية، والسلام مع إسرائيل.
وفي مقال له بصحيفة الأهرام المصرية، بتاريخ الخامس من مارس (آذار) 1974، كتب الصحافي المقرب من النظام، علي أمين، مبشرًا بالانفتاح الاقتصادي وبخضوع مصر المرتقب للوصفات النيوليبرالية الاقتصادية: «ستُرد للجنيه المصري قيمته العالمية القديمة، وستتضاعف قيمته في عواصم العالم، سيشتري الجنيه المصري ضعف ما يشتريه اليوم من البضائع، ويومها ستنخفض الأسعار، وستتدفق علينا ألوف الملايين من الدولارات والعملات الصعبة».
مرت الأيام والسنوات والعقود، حيث سار الرئيس المصري محمد حسني مبارك على نفس النهج اليميني للرئيس السادات، ولم ترد للجنيه المصري قيمته على كل حال، ولم يعد يشتري ضعف ما كان يشتريه في عام 1974، وربما يكون هذا الوعد مضحكًا لمن عاش في مصر في الألفية الجديدة، بعد عقود من الانفتاح، واتباع التكيف الهيكلي، والانصياع للوصفات الاقتصادية النيوليبرالية، وبكل تأكيد لم يمتلك كل مواطن مصري فيلا وسيارة، كما وعد الرئيس السادات سابقًا.

سعر زجاجة البيبسي في بداية الثمانينيات، مصدر الصورة: (كسرة).
بحلول منتصف السبعينيات كانت ثورة يوليو (تموز) 1952، قد تخلت عن كل ما وعدت به الجماهير، فإقامة دولة ديمقراطية، هو أول وعد حنثت به بعد أيام من قيامها، حين قتلت العمال إرضاءً للولايات المتحدة الامريكية، وتثبيتًا لدولتها البوليسية الجديدة، كما بينا في الحلقة السابقة، وبحلول نهاية السبعينيات، كانت قد تخلت تمامًا عن خطتها الخاصة بالعدالة الاجتماعية، وبناء اقتصاد قومي متطور، وإقامة صناعة وطنية، وكل ما يخص قضايا التحرر الوطني. حيث كان نظام الرئيس السادات دائمًا يقول أن الولاء للولايات المتحدة الأمريكية، سيجعلها تنفق على مصر كما تنفق على إسرائيل، وأن مقاومة ما يسمى بـ«المشروع الصهيوني»، لا يفعل شيئًا، سوى أنه يحرمنا من المساعدات والنعيم الغربي، الذي تستحوذ عليه إسرائيل وحدها.
قضت مصر تدريجيًا على قطاعها العام، وشرعت في برنامج خصخصة واسع النطاق، وفتحت أسواقها أمام السلع الأجنبية، وقضت على أحلام صناعتها الوطنية، وأمان طبقاتها الوسطى، وقيمها العتيقة الشجينة، وعادت لحالتها في ذروة الممارسات الاستعمارية عليها، ففي حديث لوزير التخطيط المصري في بداية الثمانينيات، كمال الجنزوري، اعترف لمجلة المصور بأن مصر قد أُجبرت في السبعينيات، على الاستدانة من الدول الصناعية العظمى، بسبب الفائض المالي عند تلك الدول. هكذا صار كل ما ضحى من أجله جول جمال، ومحمد مهران، والشهيد المحترق في عام 1967، هباءً منثورًا.
في ثلاثية نجيب محفوظ، في إحدى جلسات كمال عبد الجواد مع أصدقائه، حيث كان يجتمع معهم كل يوم جمعة عند كشك الشاي بقصر آل شداد، تطرق بهم الحديث إلى وقائع ثورة 1919، على ضوء فشلها التام في تحقيق أهدافها، فيقول حسن سليم: «إن الزمن كفيل بتغيير كثير من قيم الأشياء والأشخاص، ولا أستبعد أن يأتي غدًا يوم ينظر فيه الناس إلى شهداء الثورة، كما ينظرون إلى الذين يموتون في حوادث الطرق».. وتستفز العبارات كمال عبد الجواد، الذي كان يقدس ذكري شقيقه الأكبر فهمي عبد الجواد، الذي استشهد قبل سبع سنوات، في إحدى مظاهرات الثورة، فيقول بحدة: «صحيح أن قيم كثير من الأشياء قد تتغير مع الزمن، لكن تضحية الإنسان بحياته، من أجل هدف لا يتعلق بذاته، يظل قيمة ثابتة لا تتغير».
عودة إلى الجمل
مع بداية الثمانينيات، بدأ البنك الدولي ذاته -الذي انصاعت مصر لخطته الاقتصادية النيوليبرالية- بالإشارة إلى التزايد المستمر في الفجوة بين الأغنياء والفقراء بالمحروسة، وقد ترتب على سياسات فتح الأسواق المصرية للسلع الأجنبية، استيراد سلع وموارد رديئة وربما «تافهة» أيضًا، في نظر بعض المحللين، وقد سيطرت على عملية الاستيراد هذه طبقة طفيلية من برجوازية الكومبرادور غير الإنتاجية، وقد أحدث التفاوت الصارخ بين أرباح تلك الطبقة البرجوازية، ودخول أفراد المجتمع، شرخًا عميقًا بروح قيم المحروسة التي تشكلت عبر قرون، وتبلورت أثناء تعرف المحروسة على ذاتها، في مواجهة الاستعمار واستغلاله.
بحلول عام 2011، كانت المحروسة قد عادت لوضع مشابه تمامًا لوضعها قبل حريق القاهرة في يناير (كانون الثاني) 1952، حيث وطن لا ينتمي إلا لـ15% من سكانه، ويحقق أحلامهم قبل أن يحلموها، ومصر الجميلة بعيدة جدًا، عن أيادي شبابها وطلابها وعمالها، الذين اجتمعوا في ميادين المحروسة في يناير (كانون الثاني) 2011، بعد أن ساروا في نفس الطرق التي سار عليها ذات يوم علي طه عفيفي وعبد الحكم الجراحي.

صورة الجمل الذي رفض دعس الشاب، مصدر الصورة (thebqb.com).
في الثاني من فبراير (شباط) 2011، وهو اليوم الشهير بيوم «موقعة الجمل»، كان البرجوازيون الكومبرادوريون، والأقلية المستفيدة من نتائج التحول الاقتصادي العنيف في مصر منذ أواخر سبعينيات القرن المنصرم، قد تورطت، وفق العديد من التقارير والتحقيقات، في التحضير لغزو ميدان التحرير بالقاهرة، وإخلائه من المتظاهرين المعتصمين لإسقاط نظام الرئيس المصري محمد حسني مبارك. كانت غزوة أشبه بغزوات العصور الوسطى، حيث الخيول والجمال و«البلطجية» المأجورين الممسكين بالأسلحة البيضاء والرخام.
تداولت وسائل الإعلام العالمية في هذا اليوم، صورة لجمل من تلك الجمال وهو يبعد أخفافه ويفتح سيقانه، على غير رغبة سائقه، رافضًا دعس أحد الشباب في الميدان، ورافضًا الانصياع لرغبات تحالف رجال المال والسياسة، الذين أرسلوه للقضاء على الشباب المهددين لشبكة مصالحهم؛ تلك المصالح التي نُسجت منذ سبعينيات القرن الماضي، على أنوال الانصياع للوصفات النيوليبرالية، التي فرضتها المؤسسات الاقتصادية الدولية على مصر.
ربما لا أحد يعلم ما هو مصير الجمل الشهير بعد ذلك. لكن المؤكد أن صورة مشاركته الإيجابية في انتفاضة يناير 2011، ورفضه قتل المتظاهر الشاب، ستظل واحدة من «كلاسيكيات» الثورة المصرية، حيث تم تخليد الجمل في الذاكرة الجمعية للمحروسة، وكلما مرت القرون، وأراد أب أن يحكي لأبنائه قصة موقعة الجمل، غالبًا سيستعرض لهم صورة الجمل الحنون ذو القلب الكبير.