شكوى متواصلة من تلك المشكلات التي يواجهها «أحباب الله»؛ من فرط حركة، وتوحد، وصعوبات تعلم، ومشكلات صحية وسلوكية بالجملة، يجزم الأجداد أنها لم تكن موجودة بهذا القدر من قبل، مرددين الجملة الأشهر: «إحنا مكناش عيال» فيما يشعر الآباء بالغرابة، لم يكن قط في محيطهم ذلك القدر من الأزمات الخاصة بالأطفال «لماذا الآن بالذات انفجرت كل تلك المشكلات؟ ولماذا نحن؟».

أين ذهب «الأطفال الطبيعيون»؟

«ولكن الآن تنتج الأرض شوكًا وحسكًا وإنجاب الأطفال صار معاناة مع الألم. إن الرغبة في البقاء صارت صراعًا للبقاء» *إروين دابليو 

«إنني أشعر بالغرابة حين أرى طفلًا طبيعيًّا»، تقولها ندى جابر، الشابة التي لها من الأبناء ثلاثة: «طفلي الكبير لا يعاني شيئًا ظاهريًّا، لكنني حين أتعامل معه أشعر بأنه أقل من عمره الحقيقي بنحو ثلاث سنوات على الأقل، يعاني من تأخر الكلام، والأداء العام، أعلم هذا حين يجلس بين أطفال من العمر نفسه. ثم رزقت بطفل من بعده يعاني التوحد، وصار كل شيء أصعب، انعزلت عن الجميع، لا أزور أحدًا ولا يزورني أحد، فالأمر صعب، حين أرى الأطفال في الحضانة يتحدثون بعمر السنتين والثلاث سنوات أشعر وكأنها معجزة، وليست مجرد أمر طبيعي، لا شيء طبيعي مع أطفالي».

«لا شيء طبيعي في هذا الجيل» تكونت تلك القناعة لدى سمر عبد الواحد مع صغيرتها ذات الأربعة أعوام من تأخر الكلام، إلى المعاناة مع حساسية الطعام، فضلًا عن نوبات الهلع والغضب العنيفة جدًّا التي تتملك صغيرتها: «لا تزال أمي تخبرني أننا لم نكن كذلك في طفولتنا، كنا أطفالًا هادئين، نستجيب إلى التوجيه ولم تكن مهمة تربيتنا بهذا القدر من الصعوبة، تنظر إلى ابنتي ومعاناتها وتخبرني أنني نطقت جملة من كلمتين بعمر العام، وأنني سرت عند التسعة أشهر، كذلك الأمر مع أشقائي».

تعود وتكمل خلال حديثها مع «ساسة بوست»: «كل شيء تأكد لي عقب ولادة طفلي الثاني، إذ كان الصغير يعاني من حساسية الطعام وهو أمر لم نسمع به قط، كما لم تسمع عنه من قبل إحدى صديقاتي اللواتي يعاني أبناؤهن منه أيضًا، متى ظهرت كل تلك المعاناة؟ وهل حقًّا تساهم البيئة المحيطة بنا في تدهور أوضاع أطفالنا على مستوى تطورهم وصحتهم؟ صرت أتشكك في الطعام، ربما هي الهرمونات في الدجاج، أو لعلها المواد الكيميائية التي تحتويها الأطعمة، ربما مكسبات الطعم، أو لعلها الولادة القيصرية وما تضمنته من أدوية ومضادات حيوية نفذت إلى صغاري مع الرضاعة، لا أعلم السبب، لكن الأكيد أن هناك خطبًا ما، وهو عام، فلا أعرف في محيطي طفلًا طبيعيًّا، فإن لم يعان بدنيًّا من عيب خلقي ففي الغالب يعاني من مشكلة ما في تطوره ونموه أو عقله أو حتى سلوكه!».

ساءت الأمور حقًّا!

«يخطر على بالي هاجس ساذج، أشبه بتصورات الأطفال. تتملكني حالة من الأسى، فتشِفُ روحي، صباح مساء، بمفردها. ولأنها (خواطر طفلية)؛ فإن عجز الأطفال يعتريني، فأعمد إلى البكاء الصامت. أبكي حتى يذوب قلبي من كمد وتذوي نفسي» *محمد الحضيف، «المجموعة القصصية رماد عادت به سارة»

في الواقع ثمة زيادات فعلية في نسب الإصابة بالاضطرابات النفسية لدى الأطفال، على سبيل المثال زادت معدلات انتشار فرط الحركة وتشتت الانتباه لتقفز من 6.1% بين عامي 1997و1998 إلى 10.2 عامي 2015 و2016 في الولايات المتحدة وحدها، والأمر ذاته في جميع أنحاء العالم بحسب دراسة استندت إلى 175 بحثًا، حول انتشار اضطراب فرط الحركة ونقص الانتباه لدى الأطفال.

ليس هذا فحسب، زادت معدلات الإصابة بالاكتئاب والقلق، ومن ثم الاضطرابات العقلية، والمشكلات السلوكية، فبحسب المسح الوطني في الولايات المتحدة جرى رصد زيادة في تشخيص حالات القلق والاكتئاب أكثر من أي وقت مضى، من 5.4% عام 2003 إلى 8.4% بين عامي 2011 و2012، بينما يعاني واحد من كل ستة أطفال في الولايات المتحدة ممن تتراوح أعمارهم بين عامين وثمانية أعوام من تشخيص اضطراب عقلي أو سلوكي أو تطوري.

الأمر الذي صار مسألة عالمية مع حلول عام 2019؛ إذ ساهم وباء كوفيد-19 في ترك عدد من الآثار المدمرة  على الأطفال، من النواحي النفسية والبدنية والاقتصادية والتعليمية، فضلًا عن التأثيرات السلوكية، حيث قضى الأطفال وقتًا أطوال بين الجدران أمام الشاشات وسط ضغوط عصبية ونفسية عنيفة.

الأمر ليس خيالًا في رؤوس الآباء، فمعدلات الإصابة بالتوحد تزداد فعلًا. فبحسب مراكز مكافحة الأمراض، يزداد انتشار التوحد بين الأطفال بنسبة 10% تقريبًا، إذ صار طفل بين كل 54 طفلًا في الولايات المتحدة وحدها، مصابًا بالتوحد، وفقًا للتقدير الأخير عام 2020، الأمر الذي يشبه «الوباء» وفقًا لتعبيرهم.

ما السر فيما يعاني منه «أحباب الله»؟

«إني لا أغفر لأحد. وأتمنى للجميع حياة آثمة، ثم نار جهنم وصقيعها. حتى يخرج اسم شريف من الأجيال اللعينة» *صمويل بيكيت، من رواية «مالون يموت»

يمكن فهم السر بصورة أفضل بالنظر إلى طبيعة الأجيال المتعاقبة، إذ تختلف السمات الاجتماعية والثقافية والمادية والتكنولوجية من جيل لآخر، تختلف المقدمات فتختلف النتائج بالضرورة.

في الولايات المتحدة الأمريكية، على سبيل المثال، يجري تقسيم الأجيال المختلفة ووضع سماتها تبعًا للأحداث الحرجة والتحولات التاريخية التي تصادف ولادتهم، وتحدد حياتهم لاحقًا، فمثلًا هناك الجيل الأعظم أو جيل الجنود الأمريكيين كانوا في الفترة من 1901 إلى 1924، فهؤلاء الذين نجوا من الكساد العظيم ونشروا موسيقى الجاز والسوينغ.

من بعدهم جاء الجيل الصامت في الفترة من 1924 إلى 1945، ويمتاز هؤلاء بالالتزام الشديد والصمت خلال حقبة ماك كارثي، عندما اجتاح الخوف من الشيوعية البلاد، من بعدهم جاء جيل الطفرة، أو «البومرز»، في الفترة بين 1946 إلى 1964، وهي تلك الحقبة التي عاد فيها الجنود الأمريكيون من الحرب العالمية الثانية وانفجرت أعداد السكان، وهو ذاته الجيل الذي ناهض الحرب في فيتنام.

من بعدهم جاء الجيل العاشر أو الجيل إكس في الفترة من 1965 إلى 1980، ويتميز ذلك الجيل بالكسل، لكنهم في الوقت نفسه خرجوا في تربية أبنائهم عن المألوف، فصار الوجود في الخارج عقب إطفاء الأنوار مقبولًا، كما صار هناك طرق مشتركة في التربية على طريقتهم الحديثة وقتها.

ثم جاء جيل الألفية من مواليد 1981 إلى 1996، هؤلاء الذين عاشوا أحداث 11 سبتمبر (أيلول) 2001، و«الحروب الأمريكية على الإرهاب»، ويتميزون بتمركزهم حول الذات، وهم الجيل الأول الذي قضى سنوات الطفولة مع الإنترنت، واستخدام مفرط للتكنولوجيا.

أما الجيل الحالي من الأطفال المولودين من بعد عام 2010، فهؤلاء يحملون اسم الجيل ألفا، وهو الجيل الذي يبدأ مرحلة المراهقة حاليًا، وهم أطفال لم تمر عليهم لحظة دون مواقع تواصل اجتماعي، وأكثر ذكاء من الناحية الفنية من أي جيل سابق، ولا تزال سماتهم غير مكتملة بعد.

في الوطن العربي يعد جيل الألفية أو الجيل «واي» هم مواليد ما بعد عام 1981، وهو الجيل الأكبر من حيث العدد منذ جيل الخمسينيات حيث يمثل بحسب مجلة «هارفارد بيزنيس ريفيو» نحو نصف سكان الوطن العربي، ذلك الجيل الذي يرتحل حاليًا من الثلاثين إلى الأربعين، يعاني وأبناؤه من أمور ربما تفسر التغير العارم في شخصيات الأطفال:

  •  يعيش ثلاثة فقط، من كل 10 منهم في أسرة، بينما سبعة من كل 10 يعيشون منفردين مع الأطفال من جيل إكس، في مصر مثلًا تقع حالة طلاق كل دقيقتين، وفي السعودية تقع ثماني حالات طلاق كل ساعة، تبدو النتيجة قاتمة في ظل جائحة كوفيد وتأثيراتها، وتبدو الصورة أوضح في انعكاس الاضطرابات العائلية على نسب المعاناة السلوكية والنفسية لدى الأطفال، إذ يعاني الأطفال في السن الصغير بصورة أكبر من أقرانهم في عمر أكبر، في حال وقوع الطلاق، فضلًا عن الثمن الأكاديمي والاجتماعي والاقتصادي الذي يتكبده الأطفال والذي ينعكس على سلوكياتهم بالتبعية نتيجة تقلص الوقت الذي يقضيه الأطفال مع آبائهم.
  • الأجيال الجديدة التي تقضي طفولتها في القرن 21 أكثر اعتمادًا على التكنولوجيا وأقل احتكاكًا مع الطبيعة، ما يتسبب في حالة من الحرمان البيئي، تتخطى آثارها مرحلة الطفولة بكثير. وما يترتب عليه من تأخر التطور الفكري والسلوكي للطفل، مع تزايد فرص الإصابة بالاكتئاب.
  • بعض العوامل البيولوجية مثل وجود آباء أكبر سنًّا، خاصة حين يكون عمر الأب كبيرًا، فإن فرص الإصابة باضطرابات على رأسها التوحد، تتزايد.
  • انخفاض نسب الوفيات بين المواليد الخدج له تأثير إضافي في زيادة نسب الاضطرابات، ففي دراسة حول العلاقة بين المواليد الخدج والإصابة بالتوحد جاءت النتيجة الصادمة أن المولودين قبل الأوان معرضون للإصابة بالتوحد، وأنه نتيجة لبقاء عدد أكبر من الأطفال الخدج على قيد الحياة، أكثر من أي وقت مضى، صارت نسب الإصابة أكبر بالتبعية.
  • تعد زيادة الوعي، على المستويين الرسمي والشخصي، واحدة من أهم أسباب زيادة التشخيص، ففي دراسة حول العلاقة بين الوعي وتشخيص التوحد على سبيل المثال، خلصت الدراسة إلى أن الآباء الذين يمتلكون الحد الأدنى من الدراية بسمات التوحد وأعراضه، أو هؤلاء الذين سبق لهم العيش بقرب شخص متوحد، أكثر قدرة وسعيًا للبحث عن تشخيص لأطفالهم في حالة إصابتهم بالتوحد، ناهيك عن الاهتمام الرسمي من خلال سياسات واضحة للكشف عن الأعداد، ففي الولايات المتحدة الأمريكية على سبيل المثال أوصت الأكاديمية الأمريكية لطب الأطفال عام 2006 بفحص جميع الأطفال خلال زياراتهم لطبيب الأطفال في الفترة من عمر 18 إلى 24 شهرًا، ما تسبب في تشخيص عدد أكبر، كان ليفلت من التشخيص في ظروف أخرى.

وأسباب غير متوقعة لشيوع الاضطرابات السلوكية والنفسية!

«كان من الواضح لي أن شيوع هذا الميل إلى الحزن في هذا الجيل الجديد، لا يرجع إلى سبب فردي يتعلق بهذا الشخص أو ذاك، أو بهذه الأسرة دون غيرها، بل يتعلق بما حدث لمصر بوجه عام، بل ربما يتعلق أيضًا بما حدث في العالم ككل» *جلال أمين، «ماذا علمتني الحياة؟»

في الواقع ثمة رأي مخالف لكل التفسيرات السابقة، يتعلق بدقة التشخيص، إذ يستشهد أنصار هذا الرأي بتلك الدراسة التي رصدت تراجع التشخيص بالإعاقة الذهنية مقابل ارتفاع التشخيص بالتوحد.

سبب إضافي غير متوقع يتعلق بتعمد بعض العائلات تشخيص أطفالها ببعض الاضطرابات السلوكية عمدًا رغم سلامتهم من الناحية السريرية، وذلك للاستفادة من بعض الخدمات الحكومية المتخصصة للأطفال من ذوي الاحتياجات الخاصة والمصابين بالتوحد، كما هو الحال في الولايات المتحدة الأمريكية، إذ يمنح تشخيص التوحد الأطفال وصولًا أكبر إلى الخدمات المتخصصة والتعليم الخاص مقارنة بالحالات الأخرى!

صحة

منذ سنة واحدة
كيف يضر السكر أدمغة الأطفال؟

المصادر

عرض التعليقات
تحميل المزيد