حتى الثمانينيات من القرن الماضي، اعتمد الاقتصاديون في فهمهم للسلوك البشري على النظرية النيوكلاسيكية في علم الاقتصاد، والتي تفترض بأن الأفراد يتصرفون، أو يجب أن يتصرفوا، بشكلٍ عقلاني لصالح ذواتهم أولًا ومَن يهتمون لأمرهم ثانيًا؛ لكن، ومع بزوغ نجم علم الاقتصاد السلوكي على يد الاقتصادي بجامعة شيكاغو ريتشارد ثالر، تغيرت مفاهيم عديدة داخل علم الاقتصاد، وانتقل التركيز مما «يجب» على الأفراد فعله والالتزام به كما هو الحال في النظرية النيوكلاسيكية، إلى التركيز على استقراء ما يفعله الأفراد في الواقع ووضع المفاهيم والفرضيات بناءً على ذلك.
في اعتقادك، لماذا يضع أصحاب المتاجر الغذائية أكثر منتجاتهم مبيعًا في الأماكن التي يراها الزبائن أكثر من غيرها؟ ولماذا تكون مستعدًا لدفع سعر أعلى في قهوة «ستاربكس» وليس في قهوة المنافسين المماثلين في الجودة؟ ولماذا تؤجل تمارين اللياقة إلى الغد دائمًا؟
يجيبك عن هذه الأسئلة وأكثر، علم الاقتصاد السلوكي، والذي يسلط الضوء على أغلب تصرفاتنا اليومية وطريقة استهلاكنا للسلع والخدمات المختلفة، بالإضافة إلى الأسباب والمحددات والمحفزات التي تحكم اتخاذنا قرارات خاصة بنا أو بالآخرين، وذلك لأنه علم مركب من مجموعة علوم مختلفة مثل الاقتصاد وعلم الأعصاب وعلم النفس وعلم الاجتماع، والذين يحكمون أغلب مناحي حياتنا. وفي هذا التقرير، نستعرض معًا بعضًا من المفاهيم والفرضيات المرتبطة بعلم الاقتصاد السلوكي وتطبيقاتها الحياتية.
1- الوكز: أو كيف تدفع الآخرين إلى اتخاذ قرارات أفضل
يعرف الوكز (nudge) في علم الاقتصاد السلوكي على أنه طريقة للتأثير في اختيارات الأفراد لدفعهم في اتجاه اتخاذ قرارات معينة يعدها المؤثر في صالح الأفراد؛ فعلى سبيل المثال، حين تضع المدرسة فواكه وخضروات في الأماكن التي يراها الطلاب أولًا حين دخولهم إلى المطعم وحين خروجهم منه، فهي تشجعهم وتعطيهم «وكزة» لاتخاذ قرارات غذائية صحية أكثر.
هذا يختلف عن فرض الأمر بالإجبار، إذ لو فرضت المدرسة على الطلاب أن يأكلوا الفواكه والخضروات من المطعم أو عاقبتهم لعدم فعلهم ذلك يصبح الأمر خارج إطار الوكز الذي نتحدث عنه هنا، إذ يعتمد الوكز بشكلٍ أساسي على إعطاء حرية الاختيار للأفراد مع تمهيد البيئة المناسبة لدفعهم في اتجاه القرار الذي سيعطيهم أكبر قدر من المنفعة.
تستخدم حكومات عدة حول العالم طريقة الوكز في سياساتها، بدايةً من اختيار الطرق التي تسلكها مرورًا بتجميع القمامة، وحتى المعاشات؛ فعلى سبيل المثال تمتلك حكومتا الولايات المتحدة والمملكة المتحدة وحداتٍ خاصةً بالوكز في وزاراتها المختلفة، والتي أوجدت حلًّا لأحد أكثر المشكلات تأريقًا للحكومة: المعاشات.
فبحسب تقرير نشره الباحثان البريطانيان ديفيد هالبيرن ومايكل ساندرز عام 2016، فإن نصف الأمريكيين يدخرون أقل من 10 آلاف دولار لتقاعدهم، وفي محاولةٍ لحل المشكلة؛ اعتمدت كثير من المؤسسات في الولايات المتحدة على طريقة الوكز، إذ جعلوا موظفيهم مدرجون تلقائيًّا في خطط المعاشات وتركوا لهم حرية الاختيار في إلغاء إدراجهم، أي جعلوا إلغاء الإدراج أكثر صعوبة من الإدراج، ما أضاف أكثر من خمسة ملايين موظف جديد إلى خطط المعاش الأمريكية، وفي المملكة المتحدة، ساهمت هذه الطريقة في جعل البريطانيين جميعهم مدرجين في خطط المعاشات، حتى في المشروعات الصغيرة والمتناهية الصغر.
2- مغالطة اليد الساخنة: الفوز لا يجلب فوزًا!
حين نرى شخصًا ما أو كيانًا يحقق نجاحاتٍ متتابعةً، فإننا نميل إلى الاعتقاد بأن هذا الشخص أو الكيان سيستمر في تحقيق النجاحات في المستقبل، ما يعرف بمغالطة اليد الساخنة (Hot-Hand Fallacy) في علم الاقتصاد السلوكي، وقد سميت المغالطة بهذا الاسم نسبة إلى رياضة كرة السلة، إذ يعتقد الجمهور بأن اللاعب سوف يسجل الكرة القادمة إذا كان قد سجل عدة كرات قبلها، رغم أن احتمالية تسجيله لتلك الكرة ما زالت كما هي ولم تتغير.
يعاني المستثمرون خصيصًا من هذه المغالطة، فبحسب «إنفيستوبيديا»، يقوم المستثمرون بشراء أو بيع حصص في صناديق الاستثمار المشتركة بناءً على النجاحات أو الإخفاقات التي حققها مدير الصندوق في الماضي، رغم وجود أدلة قاطعة على أن هذا العامل ليس بالأهمية الكبيرة في تحديد مدى جدوى الاستثمار.
في الثاني من أكتوبر (تشرين الأول) عام 2021، وقع تسريب لما يقارب 12600 جالونٍ للنفط بشاطئ أورانج كاونتي بكاليفورنيا، تسببت فيه شركة تدعى أمبليفاي إنيرجي، ما انعكس على أسهمها بالبورصة انعكاسًا سلبيًّا للغاية أدى إلى انخفاض قيمة السهم من 5.37 دولار إلى 2.88 دولار، ولم يعد السهم إلى قيمته السابقة بعد ذلك. المثير في الأمر أن أسهم الشركة كانت تزداد في قيمتها بشكلٍ مطردٍ في الشهر السابق على الحادثة، وهو ما يعكس مغالطة اليد الساخنة، إذ آمن المستثمرون أن الشركة ستستمر بتحقيق النجاحات في المستقبل على أساس النجاحات التي حققتها سابقًا، وهو ما لم يحدث.
3-الإعاقة الذاتية: لقد رسبت بسبب الهاتف
الإعاقة الذاتية (Self-handicapping) في علم الاقتصاد السلوكي هي ببساطة أن تقوم بسلوكيات مخربة لفرص نجاحك؛ لكن، لماذا قد يود أحدنا فعل ذلك؟ الحقيقة هي أننا جميعًا نرغب في أن نشعر بشعورٍ جيدٍ عن أنفسنا، وأننا نمتلك جميع الصفات الحميدة من الذكاء والقوة وما إلى ذلك، وهو ما قد يدفعنا إلى تخريب فرص نجاحنا بأنفسنا ولوم الآخرين أو الظروف فقط، كي لا نتحمل مسئولية الفشل ولا نشعر بشعور سيئ تجاه أنفسنا.
على سبيل المثال، حين يكون لدى الطالب امتحان صعب، ربما تجده ساهرًا طوال الليل على هاتفه ليتجنب المذاكرة، وحين يؤدي في الامتحان بشكلٍ سيئ تجده يلوم الهاتف ووسائل التواصل على ذلك الأداء، وأنه لولا هذه المشتتات لكان من المتفوقين في ذلك الامتحان؛ هو هنا يتجنب إهانة ذكائه وتحمل مسئولية فشله في الامتحان، ويتجنب أيضًا الاعتراف بإعاقته لذاته.
بجانب الطلاب، يعاني الكثيرون في مجالاتٍ مختلفةٍ من هذا السلوك، فتجد الرياضي يتجنب الذهاب للتمرين أو يسهر طوال الليل قبل بطولةٍ مهمةٍ، وتجد الموظف في عمله ينتظر حتى الدقيقة الأخيرة لتسليم مهماته، وكذلك تتعدد السلوكيات التي يقوم بها الناس لمحاولة حفظ تقديرهم لذواتهم، وتتعدد الأشياء التي يلومونها في سبيل ذلك.
4- الإرساء: ستاربكس مثالًا
يعد مفهوم الإرساء (Anchoring) من أكثر المفاهيم التي يُعتمد عليها في تسويق المنتجات والخدمات، إذ يشير إلى زرع فكرة معينة برأس الفرد دون أن يعي ذلك، تقوده في النهاية إلى اتخاذ قرار مرغوب فيه من قِبل ذلك الذي زرعها، ويمتلك المفهوم تطبيقات كثيرة في سياقات مختلفة ومتعددة، مثل سياقات الاحتمالات، وقرارات الشراء والتنبؤ بالمستقبل وحتى الأحكام القضائية.
في تجربةٍ أجريت عام 1974، سأل الباحثون بعض الأفراد عن نسبة الدول الأفريقية التي تمتلك عضوية في الأمم المتحدة، ولكن قبل أن يتاح للأفراد الإجابة، كان الباحثون يحركون عجلة حظ تحتوي على عدد من الأرقام يتراوح بين 0 و100، لكنها ضبطت على أن تعطي الرقمين 10 و65 فقط، وبعد أن يقف سهم العجلة على رقم من الأرقام، كان الباحثون يسألون الأفراد عما إذا كانوا يعتقدون أن نسبة الدول الأفريقية التي تمتلك عضويةً في الأمم المتحدة أقل أو أكثر من الرقم العشوائي الذي يظهر على عجلة الحظ، ثم طلبوا منهم أن يخمنوا النسبة الحقيقية.
ووجد الباحثون أن أولئك الأفراد الذين حصلوا على رقم 10 على عجلة الحظ كانوا يخمنون أن النسبة تقترب من 25%، في حين أن أولئك الذين حصلوا على 65 خمنوا أن النسبة تقترب من 45%، وبذلك وقع أولئك الأفراد ضحية لمفهوم الإرساء، إذ اعتمدوا في تخميناتهم على فكرة عشوائية زُرعت بأدمغتهم قبل أن يتاح لهم التخمين.
فطنت شركة ستاربكس لذلك المفهوم مبكرًا للغاية، إذ كانت أسعار القهوة قبل ستاربكس متماثلة تقريبًا بين جميع المتنافسين مثل دانكين دونتس وماكدونالدز، وهو ما خلق إرساء في عقول الزبائن لما يجب أن يكون عليه سعر القهوة بشكلٍ عام.
أتت ستاربكس بأسعار أعلى بكثير من أسعار المنافسين، واستخدمت طريقة الإرساء ذاتها لإقناع الزبائن أن القهوة التي يشترونها من ستاربكس مختلفة عن القهوة التي يشترونها من أي مكانٍ آخر، وهو ما يفسر أسعارها الغالية. بدأت ستاربكس بأسماء القهوة الخاصة بها، فابتدعت أسماء غريبة تعطي فخامة لقهوتها مثل ميستو وفراباتشينو، واستخدمت في متاجرها أجواءً فاخرة، واستطاعت تغيير الانطباع عند الزبائن بخصوص أسعار القهوة لتصبح ستاربكس هي القاعدة التي يقيسون عليها الأسعار.
5- غرور المقامر: لماذا لا تتوقف عن شرب السجائر رغم «قدرتك» على ذلك؟
كم حولك من المدخنين الذين سمعتهم يتباهون بقدرتهم على ترك التدخين إذا هم أرادوا ذلك، لكنهم لا يتوقفون أبدًا عن التدخين؟ يصف هذه الظاهرة مغالطة في علم الاقتصاد السلوكي تُدعى غرور المقامر (GAMBLER’S CONCEIT)، والتي تُعرَف بأنها اعتقاد خطأ لدى حامله بأنه يستطيع التوقف عن فعلٍ فيه مخاطرة في الوقت الذي يكون فيه مستمرًا في القيام بذلك الفعل.
يكمن التفسير في أن الفرد يكون متحمسًا للاستمرار في الفعل الذي فيه مخاطرة ليحقق مكاسب متتابعة من ورائه، مثل شعور جيد بعد تدخين سيجارة على سبيل المثال، وتزداد رغبته في الحصول على ذلك الشعور مع كل سيجارةٍ يدخنها، ويكون متوهمًا أنه قادر على إنهاء ذلك الفعل الخطِر، لكن الشعور الجيد الذي يغذيه يستمر في سحبه يومًا بعد يومٍ حتى يكون من المستحيل عمليًّا توقفه عن ذلك الفعل.