على مدار يومين أعلنت الحكومة البلجيكية رفع حالة التأهب الأمني القصوى –درجة 4 وهي أعلى درجات التأهب – ليوم إضافي أي اليوم الثلاثاء الموافق 24 نوفمبر 2015، وكانت الشرطة البلجيكية قد أغلقت محطات المترو والمدارس وأي مناطق بها تجمعات بعد معلومات عن احتمال حدوث هجوم وشيك كذلك الذي حدث في فرنسا.
ما حدث في فرنسا من حادث مأساوي سيظل يلقي بظلاله على القارة العجوز لفترة ليست بالقليلة، فبلجيكا حيث ينتمي المخطط الأساسي لحادث باريس تعاني مما يكفي من انقسامات ومحاولات انفصال منذ ستينات القرن الماضي. على الرغم من أن بلجيكا تعد العاصمة غير الرسمية للاتحاد الأوروبي، وتُوصَف بلجيكا بأنها قلب أوروبا.
هذا كله يبدو ورديًّا ومثاليًّا بشكل لا يستقيم مع ما يحدث الآن، فماذا حدث في بروكسيل على مدار اليومين الماضيين؟ وكيف تفاقمت الأزمة في بلجيكا إلى هذا الحد، أهي نتاج موجة «الإرهاب» التي تجتاح العالم أم أن الأمر أبعد من هذا؟ في هذا التقرير استعراض مبسط ومحاولة للإجابة عن هذه الأسئلة.
(1) أحداث فرنسا تُلقي بظلالها على بلجيكا المُقسَّمة
أحداث باريس التي خلَّفت وراءها 130 قتيلًا وأكثر من 350 مصابًا لا يمكن أن تعد حدثًا يخص فرنسا وحدها، فالاتحاد الأوروبي على رغم وهنه في السنوات الأخيرة إلا أنه مازال يتمتع بالحد الأدنى من الترابط بين دوله، فبلجيكا التي تحدها فرنسا من الجنوب والجنوب الغربي كان من المتوقع جدًّا أن تصبح محطة قادمة للعمليات الإرهابية، لكن حالة التأهب التي عاشتها أوروبا كلها حالت دون ذلك، حتى أعلنت بروكسل رفع حالة التأهب القصوى.
وكان الذعر قد سرى بين المواطنين بعد إعلان حالة التأهب القصوى مما دفع بعضهم للتشكك في كل ما يحدث حوله والإبلاغ عن وجود قنابل منهم 3 حالات كاذبة اثنتان منهم في مدارس تعرف باسم “الأنتويرب”، والثالثة في كنيسة، مما دفع الشرطة لإخلاء الكنيسة وتبين بعد ذلك أنها بلاغات كاذبة.
كانت الشرطة قد طلبت من مواطنيها عدم نشر أي معلومات عن العمليات الجارية في شوارع بروكسيل والتي تضمنت مداهمات لمواقع عديدة نتج عنها إلقاء القبض على 16 مشتبهًا به، وطلبت منهم التزام المنزل، فقام المواطنون بتدشين هاشتاج على موقع التواصل الاجتماعي تويتر “إغلاق بروكسيل” وبدأوا بنشر صور لقططهم في أوضاع مثيرة للضحك، أو قطط أخرى تحمل سلاحًا وأسموهم منفذو الهجمات.
BREAKING: Belgian police have released a photograph of the main supect #BrusselsLockdown pic.twitter.com/8FDAjZglZn
— Jeroen Flamman (@jflamman) November 22, 2015
(2) بعض الأرقام عن بلجيكا
تقع بلجيكا كما ذكرنا سلفًا في قلب أوروبا، وتضم مقرات عديدة للاتحاد الأوروبي وتعد عاصمة غير رسمية له، بالإضافة إلى وجود مقر حلف الناتو، ويرجع ذلك لا لقوة بلجيكا على الساحة في أوروبا ولكن لمنع حدوث ما لا يحمد عقباه إثر الخلاف السياسي المشتعل بين أكبر حزبين في الحياة السياسية والذي وصلت ذروته في 2010 والذي سنتحدث عنه بالتفصيل لاحقًا في هذا التقرير.
يعد عدد سكان بلجيكا بحوالي 11 مليون نسمة،تضم بلجيكا مجموعتين لغويتين أساسيتين، بالإضافة إلى أقلية تتحدث الألمانية:
60% ناطقون بالهولندية، و40% ناطقون بالفرنسية، وأقل من 1% ناطقون بالألمانية، يُمثل المسلمون 6% من سكان بلجيكا كلها، و25% من سكان بروكسيل، و40% في حي مولينبيك.
جذور الصراع السياسي في بلجيكا
كما ذكرنا في بداية التقرير أنه على الرغم من التنوع اللغوي التي تحظى به بلجيكا إلا أنها تعاني من انقسامات تكاد تصل للانفصال.
النظام السياسي في بلجيكا هو بالأساس نظام ملكية دستورية، ويشكل الحزب الفائز بالأغلبية البرلمانية الحكومة – أشبه بنظام المملكة المتحدة – والحياة السياسية في بلجيكا تضم ثنائية هي الثنائية المتعارف عليها عالميًا، مجموعة من المحافظين لها ميول قومية وانفصالية عتيدة في آن واحد، والأخرى أحزاب يسارية لا تحمل أيًّا من أفكار المجموعة الأخرى.
والبرلمان يقسم بالتساوي بين المتحدثين بالهولندية والفرنسية، وعدد أعضائه 150 عضوًا. بلجيكا كدولة اتحادية، يوجد جانب آخر من الانقسام، وهو ما يحدث بين الحكومة الفيدرالية والحكومات المحلية للأقاليم الثلاثة الرئيسية للبلاد: الفلاندر في الشمال، وبروكسيل العاصمة، ووالونيا في الجنوب، وانقسام آخر لغوي، بين الفرنسية والهولندية والألمانية، كل من هذه اللغات له هُوية ثقافية مستقلة عن الآخر.
كانت لأزمة اللاجئين السوريين الفارين من الحرب لأوروبا في الفترة الماضية تأثير على الصراع الدائر بين قطبي السياسة المتصارعين هناك.
يمكن القول أن جزءًا كبيرًا من الاختلاف السياسي يرجع إلى تمسك كل جماعة بلغتها بشكل مثير، فالأحزاب السياسية قائمة بالأساس على الهُوية اللغوية، المتحدثون بالفرنسية والمتحدثون بالهولندية وضموا حديثًا في 1971 بعد التعديلات الدستورية المتحدثين بالألمانية، كل جماعة من هذه الجماعات لها مجلس ثقافي خاص بها وبشؤون لغتها ولا يمكن تمرير أي قانون خاص باللغة أو الهوية الثقافية إلا بعد موافقة المجلس المنوط بهذه اللغة.
في 1980 منحت الحكومة البلجيكية إقليمين –الفلاندور ووالونيا – من أقاليمها الثلاثة الرئيسة حكمًا ذاتيًا محدودًا.
(1) الأزمة السياسية في 2010
وصلت الأزمة السياسية بين الفلمنكيين شمالًا والفرانكفون جنوبًا وضعًا مأزومًا غير مسبوق. وكانت الأزمة ترتكز بشكل رئيسي على محورين:
• الأول: وضع بروكسل والتي تسكنها أغلبية متحدثة بالفرنسية ولكنها منتمية قانونيًّا لمقاطعة الفلاندر.
• الثاني: إعادة تشكيل وتحديد هيكل الدولة الاتحادية بما يضمن بعض الاستقلال الاقتصادي للأقاليم.
وظل الصراع بين كل من الطائفتين الفلمنكية والفرانكفونية دائرًا في خضم الأزمة التي ذكرناها والتي جعلت الملك في أبريل من العام 2010 يقبل استقالة رئيس الحكومة الاتحادية. وعلى إثر هذه الاستقالة دخلت بلجيكا أزمة سياسية وصفها محللون بأنها “غير مسبوقة”، وقام الملك بدعوة لانتخابات عامة في يونيو من نفس العام.
جاءت نتائج الانتخابات مربكة بعض الشيء، إذ اكتسح الفلامنك – القوميون – بينما تمكن الفرانكفون من السيطرة على مقاطعة والونيا الفرانكفونية. حتى بعد الانتخابات استمرت الأزمة بين الطرفين والتي استمرت لما يقرب من عام لم تفلح جهود الملك ولا الوسطاء في حلها، وظلت بلجيكا تعاني من فراغ سياسي أكثر من عام ونصف العام، انتهت بحكومة لتسيير الأعمال حتى حلفت حكومة دي روبو في ديسمبر 2011 وجدير بالذكر أن دي روبو ينتمي للحزب الاشتراكي.
(2) مسلمو بلجيكا ومعضلة الإرهاب
كما أسلفنا الذكر ، فالمسلمون يمثلون 6% من تعداد بلجيكا، و25% من سكان بروكسل وحدها، ومتواجدون بشكل رئيسي في بلدية مولينبيك (أحد أحياء العاصمة بروكسل) والتي يمثل المسلمون 40% من سكانها. وبعد كل أزمة وحادث إرهابي يزلزل أوروبا يظهر اسم مولينبيك، فبعد حادث قطار تاليس وحادث شارلي إيبدو ظهر اسم المدينة على السطح.
تمثل نسبة البطالة في مولينبيك 30%، ومع وجود الشعور بالاغتراب تظهر الجماعات المتطرفة لتجنيد الشباب، ظهر اسم مولينبيك عدة مرات عقب الحوادث الإرهابية، كذلك الحال بعد حادث باريس، حيث أن المتهم الرئيسي بالتخطيط لحادث باريس “عبد الحميد أباعود – والذي لقي حتفه يوم الخميس الماضي – هو بلجيكي الجنسية والمولد لأب مهاجر من المغرب.
كان أباعود قد سافر في 2013 إلى سوريا للقتال هناك، وكان أباعود يمتلك شهرة بين المقاتلين الأجانب في داعش، ولطالما تباهى على مواقع التواصل الاجتماعي بقدرته على العبور إلى سوريا والعودة إلى أوروبا. تشير تقديرات إلى أن عدد البلجيكيين المنضمين لداعش يقترب من الألف مقاتل، أحد هؤلاء المقاتلين هو الأخ الأصغر لأباعود البالغ من العمر 13 عامًا.
وعن أباعود، وصفه جيرانه بأنه لم يكن يعرف عن الالتزام شيئًا وأن لأباعود أخًا يدير حانة. ويذكر أن أباعود كان عليه حكم صادر – غيابيًّا – بالسجن لمدة 20 عامًا وذلك على خلفية قضية عُرفت باسم خلية الفيرفيان بشرق بلجيكا، وكان قد نجح في تفكيكها في يناير 2015.
تظل معضلة الشباب الأوروبي المنضم لداعش لغزًا كبيرًا يحير القارة العجوز، فالأمر لا يقتصر على المهاجرين أو أبناء المهاجرين، فكل منفذي هجوم باريس حملوا جنسيات أوروبية ولم يعرف عنهم تشدد أو التزام ديني.
وتظل بلجيكا في صراعها وانقساماتها، وينتظر مواطنوها اليوم الأربعاء حيث من المتوقع استعادة الحياة ولو بشكل جزئي.