«الأسطورة أهم من التاريخ وأصدق منه بكثير . التاريخ هو محض صحافة وأنتم تعلمون جيدًا إلى أي درجة يمكننا أن نعتمد على الصحافة» *عالم الميثولوجيا الشهير، جوزيف كامبل.
بدأت الأساطير مع تعرف الإنسان على الأرض فهي قديمة قدم الإنسان نفسه. كما هو معروف، فقد جاء الإنسان إلى هذا العالم مطرودًا من نعيم أبدي فوجده يناصبه العداء. لم يرتض الإنسان بالعالم مستقرًا أبدًا وظل شغله الشاغل العمل على الرجوع إلى الجنة ثانية، وكذلك العالم لم يترك الإنسان يعيش في سلام فكانت الطبيعة تعانده وتخوض معه معارك لم تكن سجالًا، فمرة يقهرها ومرات تقهره. بالنهاية، قرر الإنسان التماشي مع هذا العالم الذي أرهقته ظواهره الطبيعية وأعجزته عن تفسيرها فالتجأ إلى خياله وعمل على حياكة قصص عن كل ظاهرة تقابله وبذلك كانت الأسطورة هي نظير العلم في العصور القديمة.
عندما لم يستطع اليونانيون القدماء إيجاد تفسير مناسب لحركة الشمس في السماء لجووا إلى نسج أسطورة عربة الشمس الخاصة بأبوللو، الذي كان إله الشمس، وكان يملك عربة تقودها جياد قوية يتجول بها في السماء لتعطي النور للعالم كله. أيضًا، عندما لم يستطع اليابانيون معرفة مصدر الدخان الذي يتصاعد من جبل فوجي الشهير – دون غيره من الجبال – اعتقدوا أن مصدره هو نار الحب التي تشتعل في قلب الإمبراطور الذي صعد على الجبل آملًا في الوصول إلى الجنة ليعيش أبدًا مع حبيبته الراحلة.

رسم لعربة أبوللو الشمسية
وهكذا ظل الإنسان – على مدى عصور طويلة – يعتمد على الأسطورة في محاولته لفهم العالم المحيط به، وعندما جاء القرن الـ20 بطفرته العلمية الهائلة التي فسرت معظم الظواهر التي أعيت تفكير الإنسان فيما مضى؛ وزاد التقدم العلمي للغاية واخترعت آلات وصارت جزءًا من حياة الإنسان المعاصر، واستطاع الإنسان أن يفهم سبب الكثير من الظواهر الطبيعية التي تحدث حوله، بل وحتى استطاع التنبؤ بحدوث الكوارث الطبيعية وحماية نفسه منها، بدا جليًا له أن هذه الظواهر كلها إنما هي نتيجة لقوانين الطبيعة وليست من عمل الآلهة كما كان يعتقد فيما مضى.
وهنا يبرز السؤال المحير؛ إذا كانت الأساطير القديمة وظيفتها فقط هي تفسير الظواهر الطبيعية تفسيرًا يجعل الإنسان قادرًا على التعايش معها، فلماذا إذن لم تمت وتندثر تحت وطأة هذه الانتصارات العلمية الساحقة؟ ولماذا يتم تداول هذه الحكايات الخرافية من جيل لآخر حتى وصلت إلينا في القرن الحادي والعشرين! ولماذا ظلت تتمتع بنفس سحرها الأخاذ حتى يومنا هذا؟
تقول عالمة الميثولوجيا، كارين أرمسترونغ، إن الأسطورة منشأها خيال الإنسان ورغبته في إيجاد هدف للحياة التي يحياها. الأسطورة أيضًا ترتبط ارتباطًا وثيقًا بالدين والشعائر وبذلك لا يمكن أبدًا إنكار دورها في نهضة المجتمعات وتوحيدها لأنها قائمة على الخيال ذاته الذي ألهم العلماء للاختراع والاكتشاف؛ فإذا كانت وظيفة العلم هي تحقيق التقدم في الحياة وتطويرها فإن وظيفة الأسطورة هي الحفاظ على استمرارية هذه الحياة وحماية الإنسان من الجنون الذي قد يصيبه من المادية المطلقة للعلم. إنها تحقق التوازن في عالم طغت عليه المدنية الحديثة المرهقة وتعيد الإنسان إلى مشاعره مرة أخرى.
«يقولون إننا نبحث عن معنى للحياة، ولكني لا أعتقد أن هذه الأمر هو ما نبحث عنه فعلًا. أعتقد أننا نبحث عن الخبرات التي تبقينا أحياء»
كان هذا رد عالم الميثولوجيا الشهير، جوزيف كامبل، حينما سُئل عن جدوى الأساطير في عصرنا الحديث. يري كامبل أن الأساطير تمد إنسان العصر الحديث بالخبرات التي لا تسهم فقط في بقائه حيًا، بل تجعله يشعر لذة العيش وكيف أنه مخلوق مفضل على كثير مما يعيش حوله، ولحياته وأفعاله أهداف وغايات.
اقرأ أيضًا: نهاية العالم في حلب.. كيف تحرِّك الميتافيزيقا أحلام المحاربين!
عندما يقرأ الإنسان أسطورة ما تظل أحداثها عالقة في ذهنه ويتخذ منها إسقاطات على المواقف التي تحدث له، فالأساطير، أو تلك الحكايات الموغلة في القدم، تعطي الإنسان تصورًا عما يحدث، أو ما قد يحدث له في الحياة، وتحمل الأمل له دائمًا، وهذا يعني أن الأساطير تجعل الإنسان أكثر مرونة في التعامل مع الحياة وأكثر تقبلًا لأحداثها.
بذلك فإن اختفاء الأساطير يعني تلاشي جزء أساسي من أرواحنا لأن هذه الحكايات القادمة من الأزمنة السحيقة واللاتي ساهمت بشكل كبير في دعم الحياة البشرية، وبناء الحضارات على مدى آلاف السنين لديها حقًا ما تفعله مع كل الغموض والتعقيدات التي تحيط بنا في عالمنا الحديث؛ فإذا لم نكن راغبين في التعرف على الإشارات التي ستقودنا طوال رحلتنا، فعلينا إذن أن نمشي دون هدى، ولكن هذا الأمر سوف يكون حقًا في غاية الصعوبة.
الإنجيل والأسطورة والأدب.. إلى هذا الحد تسكن لاوعينا!
تتشارك كل من الأسطورة والأدب سمة أساسية، ألا وهي أن كلًا منهما عبارة عن حكايات من نسج خيال الإنسان. تعني كلمة (أسطورة)، وفقًا للغة العربية، ما سطره القدماء وكلمة سَطَر تعني كتب، والأسطورة هي الأباطيل والخرافات أيضًا. قد لا يبدو التعريف العربي للأسطورة رحبًا كما هو الحال مع تعريفها بالانجليزية؛ فقد عمم التعريف العربي كلمة الأسطورة على الأباطيل والخرافات، بينما ضمت اللغة الانجليزية تعريفات عدة لأنواع الأساطير المختلفة.
هناك نوع يشمل الحكايات التي تحكي عن الظواهر الخارقة للطبيعة وعلاقة الإنسان بها، وعن المعتقدات والآلهة والشعائر والطقوس الدينية، وهذا النوع يُسمى «myth»وهو مصطلح مشتق من الكلمة اليونانية «mythos» التي تعني كلمة أو حكاية، وهناك نوع يشمل الحكايات التي يجب أن يكون أبطالها من البشر، وتدور هذه الحكايات حول مغامرات هؤلاء الأبطال وأفعالهم النبيلة وسعيهم الدائم لدحض قوى الشر، وغالبًا ما يحمل هذا النوع ظلالًا من الشك حول حقيقة وجود هؤلاء الأبطال فعلًا في التاريخ ويُسمى هذا النوع بالليجنده (legend).
أما الفولكلور فهو التراث الشفهي للمجتمعات الذي تتناقله الأجيال ويشمل كافة أنواع الأدب من شعر، ورواية، ومسرح وأحاجي، ويعتبر هذا النوع هو أوسع وأشمل الأنواع، حتى أنه هو أقرب هذه الأنواع للأدب لأنه يشمل كافة أنواعه التي تم تداولها شفاهًة.
للأساطير ثقلها في العالم الغربي، إذ أن لها تأثير كبير على اللاوعي الجمعي للناس هناك، سواء كانو من العامة أو أدباء. نجد أن أعمال كتاب كبار مثل ت. س. إليوت، وإرنست همنجواي، ومارك توين، وجون ستاينبك، وسكوت فيتزجيرالد، ووليام فوكنر، وغيرهم الكثير، تحمل إشارات واضحة للإنجيل، والأساطير الإغريقية وأسطورة الملك آرثر وفرسان المائدة المستديرة.
يعتبر الإنجيل – بالنسبة لكتاب العالم الغربي، حتى ولو لم يكونوا متدينين – نصًا أدبيًا نموذجيًا استقوا منه أفكارًا وأنماطًا كثيرة في أعمالهم، كما أنه يعتبر شرطًا لا غنى عنه لتحقيق الفهم المستنير لجزء هائل من الأدب الحديث. أيضًا، لحكايات الملك آرثر وفرسان المائدة المستديرة تأثير هائل على النتاج الأدبي الغربي. تتحدث هذه الليجنده عن الملك آرثر بندراغون الذي أصبح ملك إنجلترا بعد أن نجح في نزع السيف المسحور من الصخرة واتخذ من قلعة كاميلوت مقرًا له ولحكمه وعاشت معه في هذه القلعة زوجته الملكة غوينيفير وفرسان المائدة المستديرة التي ظلت رمزًا للإخاء والمناقشات البطولية والمساواة بين الملك وفرسانه إذ أن استدارتها كان المقصود منها أن الجميع لهم نفس المكانة فلا أحد يترأس الطاولة.
بيد أن القراء غير المطلعين على الثقافة الغربية بشكل عام يواجهون صعوبة في أغلب الأحيان في النظر إلى جميع جوانب العمل الذي يقرأونه، أي أننا كقراء عرب – ولأننا غير مطلعين على الأساطير الغربية ومدى عمق تأثيرها على الكتاب وحيواتهم وطرق تفكيرهم – مرت علينا أعمال كثيرة دون أن نفطن إلى إشاراتها بادية الوضوح إلى أسطورة ما، واكتفينا برؤية جانب واحد فقط منها وبذلك ربما فاتنا الكثير من الإمتاع.

رسم الملك آرثر وفرسان المائدة المستديرة
ملامح الأسطورة في قصيدة الأرض الخراب
«نيسان أقسى الشهور، يخرج الليلك من الأرض الموات، يمزج الذكرى بالرغبة ويهيج الجذور الخاملة بمطر الربيع».
هذه الأبيات من افتتاحية قصيدة الأرض الخراب الشهيرة للشاعر الأمريكي، توماس ستيرنز إليوت، الذي حاز على جائزة نوبل في الآداب عام 1948. تعتبر هذه القصيدة هي أفضل عمل أمريكي مستمد من أسطورة الملك آرثر، كما أنها غيرت مفهوم الشعر التقليدي المتعارف عليه تمامًا وأحدثت تأثيرًا عميقًا على الجيل الأبرز من الأدباء في تاريخ أمريكا، وهو الجيل الضائع من الأدباء الذي عاش فترة الحربين العالميتين وما بعدهما. أيضًا، تمثل هذه القصيدة ثورة على الحركة الرومانسية التي كانت تتصدر المشهد الشعري فقد دعا من خلالها إلى تحرير الشعر من النزعات الشخصية والارتقاء به إلى التحدث عن مواضيع إنسانية أعلى وأعمق من وجهة نظره.
استحقت هذه القصيدة عن جدارة لقب قصيدة القرن العشرين إذ لم تنل أية قصيدة طوال القرن المنصرم الشهرة التي حازتها. اختار إليوت لهذه القصيدة عنوانًا يعبر عن حال العالم وقت كتابتها فقد كان العالم فعلًا محض أرض خراب بعد أن مزقته الحرب العالمية الأولى. هذه القصيدة هي تمثيل حي لخيبة أمل جيل ما بعد الحرب فهي تحمل كمًا كبيرًا من التناقضات والقسوة التي سادت العالم وقتها حيث دمج فيها إليوت أساليب درامية وشعرية متناقضة تتأرجح بين ما هو موغل في سموه البلاغي وما هو مسرف في تقشفه اللفظي.
لهذه القصيدة أجزاء خمسة لا تغيب صورة الحرب المرعبة عنها وتحمل الأسماء التالية: دفن الموتى ولعبة الشطرنج وعظة النار والموت غرقًا وما قاله الرعد. تشير هذه الأسماء بوضوح إلى أن إليوت اجتهد في تقديم نص صادم ذي بنية شعرية متشظية تحتوي على أحاديث غير مكتملة ومشاهد مسرحية مبتورة وتأملات فلسفية ذات حس تهكمي. باختصار، هذه القصيدة مليئة بالجنون، ذاك الجنون عينه الذي قاد العالم لخوض حرب عالمية أسفرت عن قتل وتشريد الملايين.

صورة لـ ت. س. إليوت
رغم أن هذه القصيدة أحدثت هزة كبيرة في الأسلوب الشعري في أوروبا وأمريكا – إذ يُقال أنها النظير الشعري لرواية عوليس لجيمس جويس التي أحدثت تأثيرًا كبيرًا على فن الرواية – إلا أنه يبدو أن القراء العرب لم يفهموها فهمًا جيدًا وربما يكون مرجع هذا الأمر إلى أنها مبنية على أساطير عدة وحكايات شعبية لم يكن القارئ العربي على اطلاع كاف بها.
استلهم إليوت عنوان القصيدة من أسطورة الملك الصياد (Fisher King) الذي كان مكلفًا بحماية الكأس المقدسة (هولي جريل) التي يُعتقد أنها الكأس التي استخدمها المسيح في العشاء الأخير وبعدها تم الاحتفاظ ببعض دمه فيها فصارت لها قدرات عجيبة كما أن مكانتها المقدسة كبيرة للغاية. هذه الأسطورة هي إحدى الحكايات التي تحويها ليجنده الملك آرثر وهي تحكي عن ملك مشوه يملك قدمًا بها جرح ينزف باستمرار ولا يستطيع التحرك بمفرده ولا ركوب جواده فاتجه لصيد الأسماك في محاولة منه لإقناع نفسه أنه مازال يتقن عمل شيء. انعكست معاناة هذا الملك على مملكته فقلت خصوبة الأرض وتحولت في فترة قصيرة إلى أرض خراب، تمامًا كحال العالم في القرن العشرين.
الأرض في حكاية (الملك الصياد) كانت ملعونة بسبب خطايا ملكها التي جعلت جرحه مفتوحًا ويؤلمه دومًا، وامتدت اللعنة لتشمل كل شيء فُكتب على الأرض أن تعاني مثلما يعاني ملكها، بالرغم من ذلك، كان حل اللعنة في غاية البساطة فبما أن حال الأرض مرتبط بحال حكامها فإنه على حاكمها إصلاح حاله وإغلاق جرحه وهناك طريقة واحدة لهذا الأمر ألا وهي أن يعترف الملك بذنوبه. كانت الوسيلة الوحيدة لإعادة إحياء الأرض هي أن يتوجه فارس – بشرط أن يكون منقى من الخطايا – إلى الملك ويسأله عن أسباب هذه الجروح وفور إجابة الملك ستحيا الأرض من جديد بعد موتها، ولكن الفارس نسي ما كان يجب عليه قوله فور أن رأى الملك فظلت الأرض خرابًا إلى الأبد.
لم يقتصر الأمر على قلة خصوبة الأرض فقط، ولكن وضعها جرها لخوض حروب غير ضرورية وخسارتها وازدياد الجرائم. هذا هو ما حدث تمامًا في القرن العشرين في نظر جيل من المفكرين حينها؛ فالطبيعة البشرية قد وصلت للانحطاط مع قدوم الحداثة والثورة الصناعية. إنسان القرن العشرين – وحكامه بالطبع – ارتكبوا الكثير من الخطايا فقد استسلموا لحياة طغت عليها المادة وغابت عنها الروح وفقد فيها كل شيء قدسيته، حتى الحب، وبدأ الإيمان بالله في التداعي فكانت النتيجة هي انجرار العالم برمته في حروب طاحنة قضت على الأخضر واليابس. ها هو العالم قد أصبح خرابًا تمامًا كأرض الملك الصياد لأن البشر مثله بالضبط لا يريدون الاعتراف بخطاياهم. حتى الفارس الذي ذهب ليسأل الملك السؤال الذي سيذهب اللعنة وقف أمامه مرتبكًا حائرًا لأنه ببساطة يشبه أرواح بقية البشر المرهقة التي تناضل من أجل الخلاص، ولكنها ببساطة لا تعرف السؤال الذي عليها طرحه للتخلص من هذا اليأس والجفاف الذي ألم بها.
مثلما انتهت حكاية (الملك الصياد) بأن الأرض ظلت خرابًا، انتهت قصيدة إليوت بعدم الوصول لحل قطعي ينهي خراب هذا العالم فكانت سطورها الأخيرة عبارة عن نشاز من المشاعر التي تحمل ضوضاء أكثر مما تحمل من معنى لأن هذه كانت حالة العالم في نظره واحتمالية خروجه من هذه الحالة كانت ضئيلة للغاية. السؤال هنا هو ألهذا الحد تحمل الأساطير معانيَ عميقة وإسقاطات فلسفية واسعة! ها هو تطبيق ما ذكره جوزيف كامبل حين قال إن الأسطورة ليست منوطة بإعطاء معنى للحياة ولكن مهمتها الأساسية تكمن في مساعدتنا على الحياة وإعطائنا المزيد من الخبرات. ربما أنهى إليوت قصيدته دون ذكر حل لمعضلة العالم، لكن الأسطورة وجدت حلًا، وهو أنكم يا من أصبحت أرضكم خرابًا يجب عليكم الاعتراف بذنوبكم حتى تستطيعون إصلاحها وبذلك تثمر أراضيكم من جديد.