شهدت ليلة 22-23 سبتمبر (أيلول) من سنة 1997 أكبر مجزرة دموية في تاريخ الجزائر المستقلّة حين هجم مجموعة من المسلّحين على حي جيلالي ببلدة بن طلحة التي تقع في ضواحي الجزائر العاصمة. اختلط بكاء الأطفال الرضّع بعويل أمهاتهم وهنّ يترجّين المسلحين أن يقتلوهنّ بالرصاص بدل السكين، أداة الجريمة الأولى التي استخدمت في تلك الليلة المشؤومة.

قُدّر عدد ضحايا المجزرة بأكثر من 400 قتيل من بينهم رضّع ونساء حوامل وشيوخ، ولم يتدخّل عنصر أمن واحد ليقاوم المحرقة التي أبادت جزء كبيرًا من سكّان الحي. وأتت المجزرة خلال العشرية السوداء التي عاشت فيها البلاد فوضى أمنية واسعة وأحداث عنف أعقبت توقيف المسار الانتخابي من قبل الجيش في سنة 1992.

مقدّمات المجزرة.. شيءٌ من التاريخ

في الخامس من أكتوبر سنة 1988 خرجت جموعٌ كبيرة من الجزائريين إلى الشوارع متظاهرين ضد الأوضاع الاقتصادية والسياسية والبطالة الخانقة، خصوصًا بعد سقوط أسعار البترول إلى  أقل من 14 دولار للبرميل مما جعل النظام الحاكم في مأزقٍ عميق.

في بلدٍ يعتمد اقتصاده بشكل شبه كليّ على هذه السلعة الحيوية، كان هذا التراجع في المداخل بمثابة البنزين الذي سُكب على وضع اجتماعي ملتهب، فالحزب الحاكم (جبهة التحرير الوطني) منذ الاستقلال يسيطر على كل الفعاليات السياسية والإعلامية والثقافية، كما أن القبضة الأمنية لا تسمح بأي هامش للمعارضة مهما قلّ، والسجون ممتلئة بالمعارضين السياسيين من جميع الاتجاهات الفكرية.

بعد 26 سنة من الاستقلال وطرد المستعمر الذيّ كتم أنفاس الجزائريين لأكثر من 130 سنة بعد تضحيات مليون ونصف مليون شهيد، كان من الواضح أن النظام السياسي بشكله الحالي قد فشل في تسيير البلاد وإيجاد حلول لمشاكل اجتماعية متفاقمة.

حاول النظام السياسي أن يتعامل مع الاحتجاجات بالسياسة القمعية المعتادة، واستعملت الأجهزة الأمنية القوّة المفرطة فأردت أكثر من 500 شخص قتيلًا. خرجت الأمور حينها عن السيطرة وبدا واضحًا أن هذه الجموع ليست هنا لترحل وأن تغييرًا جذريًّا ينبغي أن يحصل حتى تخرج البلاد من هذه الأزمة العميقة. خرج رئيس الجمهورية الشاذلي بن جديد ليلقي خطابًا كعادة كلّ الرؤساء حين تصل القلوب إلى الحناجر، نزلت دموعه على شاشة التلفاز، ووعد الشعب بأن إصلاحات عميقة سيتمّ اتخاذها وأن جزائر جديدة ستولد من رحم دماء الشباب الذين سقطوا.

لو أنّ هذه الدموع قد نزلت من عيون أيّ حاكم عربي آخر لما عنت شيئًا غالبًا، بل وربمّا أجّجت الاحتجاجات أكثر، لكن الشاذلي بن جديد مجاهد في حرب التحرير، حربٌ صارت مقترنة بالشجاعة والتضحية والكرامة والتفرّد في الذاكرة الشعبية الجزائرية، يمتلك الرئيس شرعية ثورية لا غبار عليها وقد كان من رجال ثقة الرئيس بومدين الذي له شعبية حقيقية عند قطاعات كبيرة من الجزائريين بفضل النقلة النوعية الملحوظة التي شهدتها البلاد في عهده.

أقرّ رئيس الجمهورية الشاذلي بن جديد إصلاحاتٍ سياسية عميقة، ألغى بموجبها سياسة الحزب الواحد (جبهة التحرير الوطني) الحاكم منذ استقلال البلاد، وأقرّ التعدّدية الحزبية وسمح بإنشاء جمعيات ووسائل إعلام حرّة مستقلّة لبدء مسار ديمقراطي وفتح مجال حريّة التعبير الغائبة من قبل.

Embed from Getty Images
قيادات في الجبهة الإسلامية للإنقاذ. 1991

بدأت الأحزاب في الظهور من مختلف الاتجاهات الفكرية، وفي وقتٍ قصير بدا واضحًا أن الإسلاميين المتكتّلين في حزب سُمِّي «الجبهة الإسلامية للإنقاذ» يكتسحون الساحة بفارقٍ كبير عن أقرب منافسيهم. خطابات حماسية نارية ومسيرات بالآلاف كانت تجوب شوارع العاصمة معلنة سحب البساط من الحزب الهَرِم «جبهة التحرير الوطني» وأن قطاعاتٍ شعبية واسعة صارت مولعة بخطاب الجبهة الإسلامية للإنقاذ الذي يُلهب عاطفة الشباب الدينية ويعدهم بالفلاح دنيا وآخرة إن هم تبنّوا مشروعه.

كما أنَّ قطاعًا كبيرًا من الشباب سلب عقله كلام شيوخ الجبهة الراديكالي الذي يهاجم في العلن الجنرالات والرئاسة والمفسدين أمام أعين الناس كسابقة في بلد حكمت فيه قبضة المخابرات العسكرية منذ الاستقلال. جرت الانتخابات البلدية أوّلا في 1990 وفازت الجبهة الإسلامية للإنقاذ بنسبة فاقت 60% من مجموع البلديات، ثمّ أتت الانتخابات البرلمانية في أواخر سنة 1991 وقد استمرّ طوفان حزب «الفيس» كما يسمّى في الهيمنة على كلّ صندوق في طريقه، فحصد 188 مقعدًا برلمانيًا من أصل 231 في الجولة الأولى وبدأت الاستعدادات للجولة الثانية.

لن تكون هناك جولة ثانية ولن يرى البرلمانيون الجدد مقاعدهم أبدًا، فقد قرّرت قيادة الجيش إيقاف المسار الانتخابي  واستقال رئيس الجمهورية الشاذلي بن جديد من منصبه بعد ضغوطات من الجيش، وتمّ حلّ البرلمان الذي ينصّ الدستور على أن رئيسه هو من يتولّى رئاسة الجمهورية في حال شغور منصب الرئيس.

الجيش ينزل إلى الشارع. الجزائر 1992.

قرّر العسكر أن وصول حزب الجبهة الإسلامية للإنقاذ إلى السلطة أمر لا يمكن التعايش معه، فدخلت البلاد في أزمة شرعية سياسية وانطلقت دوّامة من العنف الرسمي والعنف المضاد فور حملة اعتقالات طالت قيادات الجبهة الإسلامية للإنقاذ، وانتشرت الجماعات المسلّحة متنوّعة التوجّه ومتفاوتة في عنفها في أنحاء البلاد انتشارًا سرطانيًّا، اعتصم بعضها بالجبال وبعضها بقي في المدن والقرى على شكل تنظيمات سريّة استهدفت الجيش ورجال الشرطة ومدنيين. بدأ أمراء الحرب يكفّرون ويقاتلون بعضهم بعضًا في أوقات فراغهم حين لا يقاتلون الأجهزة الأمنية أو المدنيين، وانفرط العِقد بصورة فوضوية وخرجت الأوضاع الأمنية تمامًا عن السيطرة.

في البدء كان الرعب

لم يكن من الغريب أن تخرج من منزلك متوجّها إلى العمل لتجد جثث مجهولين أو رأسًا ملقاة على قارعة الطريق دون أن يتدخّل أي جريء ليدفنها أو ينقلها بعيدًا، ولم يكن من الغريب أن ترى أعضاء من الجماعات المسلّحة ينتشرون في أماكن معيّنة يبتزّون السكّان بكل ثقة، بينما لا تتعرّض لهم أجهزة الأمن القريبة بأي سوء.

كانت مثل هذه المشاهد معتادة في سنوات التسعينيات بمنطقة بائسة كـ«بن طلحة» التي تقع في ضواحي العاصمة الجزائر. استُبدلت أصوات صراصير الليل بأصوات الرصاص الذي لا يتوقّف، بينما تمتلئ شاشات التلفاز بأخبار القتلى والجرحى جرّاء القنابل المزروعة في أغلب أنحاء البلاد، كانت الفوضى الأمنية قد تجاوزت كل الحدود، والضحايا المدنيون كالأسرى بين فكيّ هذا الصراع الذي يقتل منهم العشرات يوميًّا. لكن في صائفة 1997 اتخذ الصراع منحى آخر تمامًا وبدأ نوعٌ جديد من العنف ينتشر في ما سمّي مثلث الرعب الذي يقع بين العاصمة والمديّة وعين الدفلى.

انطلقت مجازر تحصد الأرواح دون تفرقة بين الرضّع والنساء والشيوخ، وقد بدأت أخبار المجازر المتعددة في تلك السنة تصل سكّان بن طلحة بتفاصيل تبدو أقرب إلى خيال كاتب قصص رعب فاشل يتعمّد إصابة قرّائه بالتقزّز من التفاصيل الوحشيّة. بدأ المخيال الشعبي المرعوب يزيد إضافاتٍ درامية مخيفة، كالقول أن رجالًا ضِخام الجثّة لهم لحى برتقالية يصبغونها بالحنّاء ويضعون في رؤوسهم رباطًا أحمر مكتوبًا عليه «الغاضبون على الله» هم من يذبحون السكّان. كان الهلع والرعب كفيلًا بأن يجعل الناس تصدّق أي شيء مهما بدا غير منطقي، فكل ما كانوا يرونه يوميًا يتجاوز حدود التحمّل البشري.

في 22 سبتمبر (أيلول) وفي حدود الساعة التاسعة ليلا، كان «نصرو» وجيرانه مجتمعين في مخزنه يلعبون الدومينو، لعبة كانت ملجأً لهم من الأهوال اليومية التي يرونها ويسمعون عنها. سكّان المنطقة -وبحكم موقعها الذي يتقاسم نفوذه الأمن والجماعات المسلّحة- قد بدؤوا يشمّون رائحة الموت قبلها بأيام، فبعد مجزرة «الرايس» التي سقط فيها 98 قتيلا وصلتهم أخبار بأنهم «سيكونون الهدف التالي»، لكن مثل هذه التهديدات صارت معتادة في تلك الأيام.

مرّت في تلك الليلة مجموعة من العسكريين، وعندما رأوا «نصرو» وجيرانه يلعبون، ألقوا عليهم مجموعة من الشتائم والوعيد وانصرفوا كعادتهم. بعدها بساعة بدأ صوت محرك مروحية تحوم فوق حيّ الجيلالي، وبدأ صوت الرصاص المعهود يقترب أكثر، أطلق أحد الجيران صافرات الإنذار التي وضعها السكّان المحليّون لتنبيه بعضهم من مثل هكذا هجمات.

هذه مأساة بحدّ ذاتها، سكّان الحيّ يتعاونون، ليس من أجل تنظيف الحيّ أو إصلاح رصيف، بل من أجل الاستعداد لمجزرة. اختلطت أصوات الرصاص بمحرّك المروحية التي تقترب وتبتعد وجرس الإنذار الذي يكاد يصمّ الآذان، كل هذه الأصوات كانت غير مستساغة، لكن إذا أضفت لها أصوات النساء والرضّع وهن يصرخن من عمليّات الذبح التي هم على وشك أن يقعوا ضحيّتها فإن هذا كفيل بأن يجعل أعقل الناس يفقد عقله ببساطة، ويذكر نصر الله يوس في كتابه «من قُتل في بن طلحة» أن هذا قد حدث فعلا.

حوالي 200 من الرجال المسلّحين الملثّمين ضخام الجثّة يرتدون لباس الجماعات المسلّحة الإسلامية انقضّوا على السكّان بالذبح، لم يستثنوا الرضّع ولا النساء ولا حتى المجانين. يقول نصر الله يوس أنهم قطعوا أطراف أحد الشباب «المتخلّفين عقليّا» ورموه داخل سيّارة محترقة، أضِف صوت صُراخه في تلك الليلة إلى أصوات الرصاص ومحرّك المروحية والنّساء المغتصبات وستقترب من تخيّل الصّورة. رجال بالغون تبوّلوا على أنفسهم من هول ما رأوا في تلك الليلة، الموت يحيط من كل جانب.

Embed from Getty Images
امرأة قُتل أفراد أسرتها ملقاة أمام مستشفى زميرلي. 1997.

حاول نصر الله الهرب مع من استطاع من جيرانه طوال الليل من بيت إلى آخر، والقنابل التي ينصبها المسلّحون في البيوت من أجل فتح ثغرات يدخلون بها على ضحاياهم تلحقهم أينما هربوا، كل من تركوه خلفهم بسبب جرح أو عجزه عن الهرب كان مصيره الذبح هو وأبناؤه. برك الدّم تتعاظم مع استمرار التذبيح من العاشرة والنصف ليلًا حتى الرابعة صباحًا دون تدخّل عنصر جيش أو شرطة أو إسعاف واحد رغم أن الثكنة العسكرية قريبة من المنطقة بكيلومتر واحد، وقد أجابوا بأن لهم أوامر فوقيّة بعدم التدخّل. بعد أن برزت أشعّة الفجر الأولى انسحب المسلّحون دون أن يعترض سبيلهم أحد، وانطلق سكّان الأحياء المجاورة في مدّ العون للجرحى ونقلوهم بسياراتهم الخاصة إلى المستشفى في ظلّ غياب سيارات الإسعاف المبهم.

وإذا المذبوحة سُئلت

«هذا جزاء من يدعم الجماعات الإرهابية» هكذا كان تصريح وزير الصحّة يحيى قيدوم حين سُئل عن المجزرة. ردّ لا إنساني –يرى البعض-  لشخصية رسمية في الدولة الجزائرية عن المجزرة التي راح ضحيتها 417 إنسانًا جزائريًّا، كما أن مثل هذا التصريح يدعم بشدّة نظريّة تواطؤ الدولة –أو جزء من منها- في هذه المأساة.

«بن طلحة» حيّ شعبيّ في ضواحي العاصمة تعيش فيه الفئات الشعبية البسيطة التي كانت مؤيّدة بشكل واسع للحزب المُحلّ آنذاك «الجبهة الإسلامية للإنقاذ». بالنسبة لنصر الله يوس صاحب كتاب «من قتل في بن طلحة» الذي نجا من الموت بأعجوبة في تلك الليلة المشؤومة، فإنَّ تورّط العسكر في المجزرة أمر مفروغ منه.

يروي الكاتب كيف أنه بعد خروجه من المستشفى في فجر اليوم التالي مرّ بالمقابر التي كانت محفورة قبلها بأسبوع وسأل صاحب المقبرة عنها، أخبره بأن السلطات كانت تتردّد عليه قبل المجزرة بأسبوع، يأتي أحدهم من الجيش ويأمره بحفر قبور، ثم يأتي ثانٍ من الدرك ليأمره بردمها، ثمّ يعود الأوّل ليأمره بحفرها مجددًا، دون أن يخبره أيّ منهما عن الحاجة إلى قبورٍ محفورة، بعد المجزرة لم يعد هناك حاجة للسؤال، يبدو أن هذا الحفر والرّدم كان مظهرًا من مظاهر الصراع داخل أجنحة السلطة. لم يفهم السكّان ما ذنبهم في كل هذا. هل هو عقاب جماعي على انتخابهم للجبهة الإسلامية للإنقاذ أم على «دعمهم للإرهاب» أم هو لسبب آخر لا علاقة له بكل ما سبق؟

Embed from Getty Images

المقابر التي دُفن فيها ضحايا المجزرة.

دُفن الناس في القبور التي حُفرت قبل أسبوع من موتهم، وهناك شهادات تفيد بأن عدّة أشخاص دفنوا في قبرٍ واحد حتّى تقلّص السلطات من أعداد الموتى الذين أعلنت منظمة العفو الدولية أنهم أكثر من 250، بينما يقول نصر الله يوس الشاهد الحيّ على ما وقع أنهم 417 من بينهم رضّع وحوامل وشيوخ.
مجزرة بن طلحة الرهيبة تعتبر أكبر عملية تقتيل ممنهج في ساعاتٍ قليلة تتم منذ الاستقلال. ورغم ما نالته من صدى دولي معتبر، إلا أنها لن تكون الأخيرة أبدًا. بعدها بأقل من أسبوع، في 27 سبتمبر (أيلول)  تم ذبح 11 معلّمة ومعلّمًا كانوا على متن حافلة نقل في ولاية سيدي بلعباس على يد الجماعات المسلّحة.
إنها الذكرى العشرون لأحداث سوداء من تاريخ الجزائر الدموي في تسعينيات القرن الماضي، صفحة مزدحمة بالمجازر الدموية والمذابح الجماعية التي راح ضحيتها أكثر من 150 ألف ضحية، ويستمر الجدل حول المسؤولين والمحرّكين الحقيقيين لهذه العشرية المأساوية.

المصادر

عرض التعليقات
تحميل المزيد