هل تستطيع أن تجزم في تلك اللحظة أنك لم تكذب في حياتك ولو مرة واحدة منذ نعومة أظافرك وحتى الآن؟ أغلب الظن أن الإجابة هي لا؛ ففي مرحلة ما من حياتك مارست الكذب، سواء وأنت طفل صغير تحكي لأصدقائك عن المغامرات الكثيرة التي عشتها مع صديقك الخيالي، والتي لا تمت للواقع بصلة، ولكنك تصدق بكل وعيك أنك عشتها، أو عند وقوعك في مأزق مع والديك أشعرك بالرعب وأنت مراهق، وكان الكذب هو المخرج الوحيد منه، أو عندما قلت لزوجتك إن هذا الرداء رائع عليها، وأنت ترى غير ذلك، حتى لا تجرح مشاعرها، وتقنع نفسك بأنها مجرد «كذبة بيضاء».

فقد أثبت علم النفس أن الكذب، على اختلاف أنواعه، جزء من حياة البشر بشكل عام والسؤال هُنا؛ عندما يكذب عليك شخص يهمك، مثل شريكك، كيف تدرك نوعية هذا الكذب؟ هل يكذب عن وعي أم يصدق ما يقول؟ هذا ما سنحاول الإجابة عنه في هذا التقرير.

كيف نصدق كذبتنا الخاصة؟

في دراسة أجريت على مجموعة من كبار السن والشباب عام 2019، عن التأثير الذي يحدثه الكذب في ذاكرة البشر، وضع الباحثون هدفًا أساسيًّا يتمثل في التفريق بين استعداد كبار السن لتصديق أكاذيبهم بسبب ضعف ذاكرتهم، وبين الشباب الذين ما زالوا يتمتعون بذاكرة قوية، ولكن في إطار التنفيذ اكتشف القائمون عليها أمرًا مثيرًا للاهتمام، وهو أنك تحتاج إلى 45 دقيقة لتصديق كذبتك سواء كنت شابًّا أو مسنًّا!

 لوحة تعبيرية للكذب، المصدر: موقع (ساينتفك أمريكان)

خلال مراحل الدراسة مُنح المشاركون استبيانًا به أسئلة حول نشاطات فعلوها في اليوم السابق مثل الطعام الذي تناولوه، وكيف تعاملوا مع جرس المنبة، وطلب الباحثون في المرة الأولى من المشاركين أن يكذبوا في بعض الإجابات، وبعد 45 دقيقة منحوهم الاستبيان نفسه ولكن طلبوا منهم أن يجيبوا بصدق عن كل الأسئلة هذه المرة.

كان الغرض من هذا الاختبار هو رصد عدم قدرة كبار السن على تذكر الكذبة التي كذبوها منذ ما يقل عن ساعة، ولكن خلال تنفيذ الاختبار لم يكن كبار السن وحدهم الذين اختلط عليهم الأمر وقدموا إجابات كاذبة على اعتبار أنها حقيقية، بل وقعت مجموعة من الشباب المشاركين في الفخ نفسه الخاص بالكذب والذاكرة؛ لذا أثبتت الدراسة أن الكذب يمكنه أن يؤثر في ذاكرتك سواء كنت كبيرًا في السن أو شابًّا، مع تأكيد أن كبار السن هم الأكثر عرضة لذلك خاصة ما بين عمر 60 إلى 90 عامًا، وفي هذا السياق، صرحت الباحثة الأولى في الدراسة لورا بيدج بأن «الكذب يغير الذاكرة ويخلق ذكرى جديدة لشيء لم يحدث في الواقع».

الكذب المثير لـ«بنجامين ويلكورميسكي» 

في عام 1995 نشر الكاتب «بنجامين ويلكورميسكي» كتابًا بعنوان «ذكريات طفولة من زمن الحرب» «Fragments Memories of a Wartime Childhood» وهو عبارة عن سيرة ذاتية يصف فيها تجربة طفولته بصفته واحدًا من الناجين من «الهولوكوست»، وخطفت تلك السيرة أنظار المجتمع الأدبي في أكثر من بلد؛ إذ تُرجم الكتاب لأكثر من 12 لغة وتوزع انتشاره في أمريكا وبريطانيا، ووصفت بأنها واحدة من أكثر الشهادات العاطفية تأثيرًا وصدقًا حول ذكريات المرء الحية عن تجربة مريرة مثل الهولوكست، وحصد الكاتب العديد من الجوائز والكثير من المدح، الذي أفاضت به المراجعات النقدية على كتابه.

لكن هذا الوضع لم يستمر طويلًا؛ إذ كشف «ستيفان ماشلر» الصحافي السويسري، أن تلك السيرة الذاتية «زائفة» ولا تمت للواقع بصلة، لتصبح ذكريات «ويلكورميسكي» واحدة من «أكبر الخدع الأدبية» في العصر الحديث.

فوفقًا لما ورد في السيرة الذاتية للكاتب، أنه نُقل إلى دار للأيتام في سويسرا بعد الحرب، وتبناه زوجان سويسريان لم يتعاطفا مع مأساته – بحسب حكايته- وقمعا ذكرياته، مؤكدًا أنه كان ضحية للطرفين، وادعى أن تلك الذكريات عادت إليه في منتصف العمر أثناء رحلة علاجه النفسي، ولكن «ماشلر» أثبت بالوثائق عدم صحة التواريخ المذكورة أو وصول الكاتب إلى سويسرا، وأثبت بما لا يدع مجالًا للشك أن قصته لا تتوافق مع الوثائق التاريخية الموجودة في سويسرا.

مصدر الصورة موقع زاياك ماجازينز

المثير في حالة «بنجامين ويلكورميسكي» أنه ليس «نصابًا»، ولكن تقييمه النفسي بواسطة عالم النفس «هارفي بيسكن» عام 2000، أثبت أن ويلكورميسكي لا يستطيع التمييز بين الحقيقة والكذب، فقد توغلت تلك الكذبة في وعيه وصدقها حتى أنها أثرت في ذاكرته وأصبحت جزءًا من واقعه الحقيقي في وعيه.

هذا المثال يوضح أنه من أجل أن نكون مقنعين حين نكذب، وحتى ندفع الآخرين لتصديقنا، يجب علينا تصديق هذه الكذبة أولًا، وإلا لن يصدقها الآخرون، ومن ناحية أخرى، إذا كنت تريد أن تعرف إذا ما كان الآخرون يكذبون عليك عن قصد أم لا؟ يجب أن تسأل نفسك في البداية سؤالًا مهمًّا: كيف سأكذب على نفسي إذا كنت في موضعهم؟ فعلم النفس يخبرك بأنك إذا اكتشفت أكاذيبك التي تقنع بها نفسك، سيكون من الأسهل عليك أن تكتشف أكاذيب الآخرين.

فإذا كان كارل يونج عالم النفس السويسري يرى أن «إدراك المناطق المظلمة في نفسك هو ما يساعد على إدراك المناطق المظلمة في الآخرين» فإن علم النفس الحديث يؤكد أن الشخص الواعي بأكاذيبه لديه قدرة أكبر على كشف الكاذبين من حوله، وذلك لأنه سيكون على دراية كافية بالحيل المتبعة لإتقان الكذبة، ومن ثم فإن فهمك لذاتك، واعترافك بأنك شخص كاذب، وإدراك الأمور التي تكذب فيها على نفسك وعلى الآخرين، هو طريقتك الأمثل لكشف كذب الآخرين.

كيف ندرك الأكاذيب التي نخبر بها أنفسنا؟

في كتابه «حماقة الحمقى» يوضح «روبرت تريفرس» أستاذ الأنثروبولوجيا في جامعة روتجرز، أنه كلما خدعنا أنفسنا حول قيمتنا الذاتية ومدى موهبتنا وذكائنا، سيكون من الأسهل علينا التأثير في الآخرين وإقناعهم بأن تلك الصفات فينا بالفعل.

وفي تصريح لها بموقع «وول ستريت جورنال» وضحت «كاري كيتنغ»، أستاذة علم النفس والاجتماع في جامعة كولجيت في هاميلتون، أن الناس يخدعون أنفسهم في محاولة غير واعية لتعزيز احترام الذات أو للشعور بالتحسن، بينما يشير علم النفس التطوري إلى أن خداع الذات هو وسيلة لخداع الآخرين من أجل مصالحنا الشخصية، فما العلامات التي يمكن أن نرصدها لاكتشاف خداع الذات الذي نمارسه على أنفسنا، حتى يكون لدينا قدرة أكبر على اكتشاف أكاذيب الآخرين؟

«المشاعر» أكبر مؤشر يمكنك من خلاله معرفة ما تقوله للآخرين حقيقة أم لا، وإليك مثال لتوضيح الأمر: أنت تسير الآن مع أحد أصدقائك في أحد الطرقات ورأيتما حبيبك السابق، الذي تقنع نفسك بأنك لم تعد تحبه أو تهتم به، ولكنه لم يكن وحده، بل كان مع شريك جديد غيرك ويبدو عليهما السعادة معًا، ينظر إليك صديقك الذي يسير بجوارك بتوجس، ليتأكد من أن مشاعرك لم تُجرح؛ فتبتسم وتقول له بصدق بادٍ على ملامحك إن الأمر لا يهمك؛ ولكن هناك غُصة في حلقك وألمًا نفسيًّا لا تستطيع تفسيره، وتنسى الموقف أو ربما تحكيه في نهاية اليوم بشكل فكاهي وأنت تسخر من مظهر شريكك السابق أو شريكه الجديد.

علوم

منذ 6 سنوات
علميًّا.. الكذبة الصغيرة تقود إلى كذبات أكبر وأكثر

لكن عندما يحين وقت النوم تظل تفكر كثيرًا في أشياء سيئة تشعرك بالهم والحزن؛ كلها بعيدة كليًّا عن الموقف الذي حدث منذ ساعات قليلة، أنت حزين وغاضب من شريكك السابق، ولكنك تخدع نفسك وتجعلها مقتنعة بأن مصدر غضبك يأتي من مكان آخر تمامًا، ولكن هذا الخداع لن يخلصك من المشاعر السلبية، ولذلك ستجد طريقها للخروج في جهات أخرى، فقد تجد نفسك في اليوم التالي عصبيًّا دون سبب مقنع بالنسبة لك.

إذا أدركت ما مررت به في الموقف وواجهت نفسك بحقيقته، سيكون لديك القدرة على فهمه إذا اختبر صديق مقرب منك موقفًا مشابهًا دون أن يدري ما الذي يحدث له، وهذا هو ما يقصده علم النفس بأن اكتشاف خداعك لذاتك يؤهلك لاكتشاف خداع الآخرين لأنفسهم أولًا، ولك ثانيًا؛ فعندما يخبرك صديقك المقرب بأنه ليس غاضبًا بسبب حبيبه السابق بل لأنك كسرت كوبه المفضل، ستخبره بكل ثقة أن غضبه هذا مجرد مشاعر مُعاد تدويرها في رحلة خداعه لذاته.

المؤشر الثاني لاكتشاف خداعك لذاتك، هو «أفعالك»؛ فإذا كنت انفصلت تمامًا عن مشاعرك وتمكنت من كبتها، يمكنك إذًا أن تراقب تصرفاتك عن كثب، ويمكن أن نعود للمثال السابق للتوضيح؛ إذا كان شريكك السابق لا يهمك بالفعل فلماذا تسخر منه الآن مع أصدقائك؟ ومن مظهره الذي تغير للأسوأ؟ أو من مظهر شريكه الجديد والذي تراه ليس أفضل منك؟ فعل السخرية هنا يكشف عن أن آثار العلاقة القديمة ما زالت عالقة بداخلك، وعليك أن تدرك ذلك.  

إذن مشاعرك وأفعالك هما دليلك الذي يجب أن تلجأ إليه لاكتشاف خداعك لذاتك، وليس الكلمات التي تقنع بها نفسك وتطلقها من أجل إقناع الآخرين، واكتشافك لعملية الخداع الذاتي هو وسيلتك لاكتشاف أكاذيب الآخرين التي يقنعون أنفسهم بها.

«لغة الجسد» لا تُسفعك دائمًا 

لا يكف خبراء لغة الجسد عن إخبارك بالعلامات التي يمكن أن ترصدها في الشخص الكاذب، ولكن تلك العلامات تنطبق على حالة واحدة من الكذب، وهو الكذب المتعمد الذي يقترفه شخص واعٍ بما يقول ويقصد من ورائه هدفًا ما، وهو كذب قد نكون مارسناه جميعًا في يوم من الأيام للخروج من مأزق، ولكن لغة الجسد لا تنطبق على أنماط من الكذب أكثر تعقيدًا، وبالتحديد إذا لم نكن واعين بكذبنا.

فعندما لا يكون الكاذب واعيًا أو مدركًا لكذبه من الأساس، سيحتاج الذي يقف أمامه إلى قدر كبير من الذكاء العاطفي وفهم الذات حتى يكتشف كذبه، فنحن نقابل يوميًّا أشخاصًا مصابين بما يعرف بالكذب المرضي أو الكذب القهري، وهي حالات رصدها علم النفس يمارس فيها الشخص الكذب دون وعي منه، سواء كان بهدف الوصول لغايته كما هو الحال في الكذب المرضي، أو الكذب لمجرد الكذب دون هدف أو غاية مهو ما يندرج تحت بند الكذب القهري.

عرض التعليقات
تحميل المزيد