في واحد من عدة مشاهد رائعة في فيلم الرجل الطائر Birdman للمخرج المكسيكي أليخاندرو جونزاليس أيناريتو, حيث الشخصية الرئيسية ممثل اسمه ريجان توماسون (لعب دوره مايكل كيتون) يخرج من مسرح برودواي الذي يمثل فيه ليدخن, فينغلق باب المسرح وراءه, حبسه في الخارج وأغلق على طرف الروب الذي يرتديه. الطريقة الوحيدة التي يستطيع تخليص نفسه بها هي أن ينزلق ويتخلص من الروب, مرتديًا فقط سرواله الداخلي, عليه أن يشق طريقه وسط ميدان التايمز, ليصل للباب الرئيسي, بينما حان وقت دوره في مسرحية مقتبسة عن قصة قصيرة لريموند كارفر – مسرحية كاتبها, ومخرجها, ونجمها أيضًا ريجان توماسون.
بينما هو نصف متصنع, ونصف متعثر وسط الجمهور, بنظرات تشبه نظرات تائب يزور مكانًا مقدسًا, أو شهيد في لوحة لفرانشيسكو دي زوربارن, كانت الموسيقى التصويرية تتداخل مع ضوضاء الشارع, مع نشاز الأصوات (بعضها كان يناديه باسمه) ومع العصبية, والقلق تعزف طبلة منفردة موسيقى الجاز Jazz, التي تتردد كثيرًا خلال الفيلم. كل شيء في رحلة الجنون تلك يبدو غريبًا ومألوفًا في الوقت نفسه! بطريقة تذكر كابوس – أو كابوسين معًا – كثير منا جربهما على الأرجح: الحلم عن اكتشافك فجأة أنك عارٍ أمام الناس, والحلم عن أنك لا تستطيع أن تجد أو تصل للمكان الذي من المفترض أن تكون فيه.
فيلم أيناريتو بطرق مختلفة يدور حول كابوس وتمكن من الجمع بين الهلوسة والجرأة في الطرح, في دمج بعض السريالية مع النقد السياسي والاجتماعي. وسابقًا كان له أفلام أخرى كفيلم أموريس بيروس Amores Perros (2000) الذي يجمع ثلاثة من السيناريوهات المروعة: الثقافة الشرسة لمدينة ميكسيكو وصراع الكلاب, والحياة اليومية لرجل مشرد في العاصمة المكسيكية, وفزع امرأة تسمع نباحًا مرعوبًا لكلبها وهي مختبئة في شقتها. وأيضًا كلا الفيلمين 21 جرامًا (2003) وبابل (2006) يصوران سلسلة من الأحداث المأساوية, بينهم انتحار, وحادثة مروعة, وموت طفل. بينما الفيلم بارع التمثيل لكن أيضًا الحزين Beautiful (2010) يغرقنا في واحدة من أكثر التخيلات الحزينة التي يمكن لأحد أن يتصورها: محتال فقير يموت بالسرطان, يفعل الخطأ الكارثي تلو الآخر وفي النهاية لا يستطيع حتى أن يموت وهو مطمئن أن طفليه سوف يتم الاعتناء بهما بعد موته.
بتلك الأفلام السابقة, يكون هناك بعض الأوقات التي يبدو حتميًا فيها أن تكون معجبًا بشكل كبير بأعمال أيناريتو من أجل مشاهدة أعمال منسوجة بجمال, رغم المعاناة الواضحة التي تصورها, متعددة التعقيدات وأحيانًا مخلوطة بالأوبرا. ولنتغاضَ عن طريقة الوعظ في بعض الأحيان في بابل, أو التخبط الدسيتويفيسكي الذي يجعل أجزاء من 21 جرامًا يبدو كمشاهدة جزء من محاكمة.
الرجل الطائر Birdman, الذي ترشح لعدة جوائز أوسكار, من ضمنها أحسن فيلم, وأحسن مخرج, وأحسن ممثل, هو بمثابة انطلاق. فبشكل ما هو كئيب كأفلامه الأخرى, لكن فيه شيء من المرح أكثر. أيناريتو أخذ كابوسه السنيمائي للطريق الأبيض العظيم*, وأضفى عليه أضواء مسرح برودواي, خلق الانفعال – والنشوة – في مسرح بنيويورك, وأعطانا فريقًا من شخصيات مثلت أدوارًا ثانوية دقيقة وجميلة. تجارب المعاناة لهذه الأرواح على قدر تأثرهم لكنها بالطبع أقل ألمًا من معاناة المهاجرين الصينيين غير الشرعيين في مخزن بارد ببرشلونة في Beautiful. وفي ركن الجحيم الفني هذا الذي يتضح في الرجل الطائر, الملعونون هنا لا يتعذبون بالكوارث, أو الفقر, أو المرض, لكن بدلًا من ذلك يتعذبون بالرغبة في صنع عمل فني خالد, الذي يمكن, لو سارت الأمور على نحو سيء بعض الشيء, أن يتم سحقه بمقالة واحدة سلبية في جريدة نيويورك تايمز.
أيناريتو لم يفقد الاهتمام بمصير الروح الخالدة لشخصياته (كل روح تزن واحدًا وعشرين جرامًا, كما تعلمنا في فيلمه السابق) أو في الأسئلة عن الخطيئة والغفران, لكن في الرجل الطائر المخرج على الأقل سمح لنفسه ببعض المرح والفكاهة – وإن كانت بنوع مكسيكي للغاية من الفكاهة والكوميديا من طائر خرافي ساخر – فضلًا عن هذا النوع من الكوميديا التي تعتمد على الحدة النفسية ومراقبة وثيقة للسلوك الاجتماعي. ففي أحد المشاهد المرحة, والمقنعة يصور مؤتمرًا صحفيًا يجب أن يتحمل ريجان فيه عدم الفهم, والادعاءات, والابتذال الهائل من الصحفيين الذين تم إرسالهم لمقابلته.
ورغم أن فيلم 21 جرامًا وأجزاء من فيلم بابل تم تصويرهم أيضًا في الولايات المتحدة, كان الرجل الطائر أول فيلم أدخل فيه أيناريتو هواجسه الخاصة وتلك الحالات النفسية التي تنسب بشكل أو بآخر للثقافة الميكسيكية – الضيق, والعذاب, والتوبة والخلاص— مع العاطفة الكبيرة للمجد, والشهرة, والمال, والإنجاز, والسمعة. ومع أنها تبدو ثنائيات متناقضة لكنها تنعكس في الأداء الجميل لكايتون, الذي نجح في جمع انشغالات مضطربة لمن يبحث عن ذاته ووجوده مع قلب ووجدان نفس بشرية متجاوبة ومرهفة.
في طريق ريجان (على الأقل جزئيًا) نحو الخلاص, كانت أكثر متاعبه النفسية بواسطة تجسيده السابق: بطل خارق اسمه الرجل الطائر, موضوع لثلاثة أفلام سنيمائية ناجحة تجاريًا. مخلوق بريش أسود يظهر بشكل متكرر في حجرة ملابس ريجان, ولاحقًا في الحمام الملحق بغرفته بالمستشفى. ويظهر استخدام أيناريتو الابتكاري والمفاجئ للجرافيك, منها الطائر المحاط بأجنحته الذي يتكرر ظهوره خلال الفيلم, وطائر خرافي عملاق أحيانًا, وهناك بعض اللحظات المدهشة عندما نرى ماذا تكون – أو ما يعتقده ريجان – قوته الخارقة, وفي مشاهد أخرى لتصوير الارتفاع في الهواء والتحريك الذهني. في لمسة ملهمة أخرى, الصوت الخشن المدمدم الذي يسمعه ريجان في رأسه ونعرف لاحقًا أنه صوت الرجل الطائر, وهذا يمكن أن يُفسَر أيضًا بصوت الجشع الداخلي, يخبره أن التضحيات التي يفعلها من أجل فنه لا فائدة منها, وأن طموحاته وهمية, وحتى غرفة ملابسه فهي أقرب لبالوعة متسخة, وأن الجمهور بطبيعته يحب الدم والأكشن و”ليس هذا الهراء الفلسفي الكئيب!”.
الساخر أيضًا هو الاقتباس عن ريموند كارفر, نكتة في قلب الفيلم أن شكّ ريجان في نجاح المسرحية كان فيه شيء من الحقيقة. فالمشاهد التي نراها من مسرحية ريجان – حتى عندما تؤدى بتألق بواسطة كايتون, وناعومي واتس, وأندريا رايسبورج, وإدوارد نورتون (الممثل الزئبقي الموهوب الذي ينضم للفرقة) – لكن أدوارهم في المسرحية كانت تتسم بالمبالغة في الأداء, فهم يفتقدون المعنى الضمني الدقيق الذي يجعل من قصة كارفر تبدو كأنها تحدث بين السطور. ونحن ربما سنتعجب لماذا يمكن لأي أحد أن يتخيل, في تلك اللحظة في تاريخنا الثقافي, أن مسرحية ستحقق نجاحًا مكونة من أربع شخصيات, مقتبسة من قصة قصيرة لكارفر “ما الذي نتحدث عنه حين نتحدث عن الحب”. فخلال العقد الماضي, فوجئت مرارًا, وحتى صدمت أحيانًا بواسطة بعض الطلاب – جامعيين ومرشحين إلى ماجستير في تخصصات الفنون على حد سواء – لا يزالون يقرؤون ريموند كارفر, أو حتى يتعرفون على اسمه. لكن حتى لو أن أيناريتو يعرف ذلك, فإن ريجان بالتأكيد لا يعرف, والتجربة التي يجازف فيها هي أساس حياته الحالية, ومستقبله, والنجاح الذي يتمنى أن يشارك به ابنته, بعد تحقيق المسرحية شيئًا منه. فهو مصمم على خلق عمل “مهم” والذي نشك فيه مبكرًا في الفيلم أن ذلك سيتطلب شيئًا مندفعًا للغاية ليجعل هذا النجاح ممكنًا.
إعجابي بالرجل الطائر كان مضاعفًا في الحقيقة؛ فقبله بعدة أيام, شاهدت فيلم The Player, وسخرية روبرت ألتمان من إصرار أنظمة ستوديوهات هوليوود على أن تكون الأفلام مبتذلة ومليئة بشكل مبالغ فيه بالعواطف, وتافهة, ومتوقعة, وآمنة, وتستهدف جمهورًا بذكاء ومدى اهتمام طفل لا يتعدى ثماني سنوات. الرجل الطائر ليس من ضمن تلك الأفلام؛ فمن بين المخاطر التي قام بها أيناريتو نفسه أن افترض أن هناك جمهورًا للفيلم: ذكيًا, ويمتاز بالعمق ويستطيع أن يقدر تقنياته المبتكرة, وأفكاره المتداخلة.
بالنسبة للجزء الأكبر الذي أثمرت فيه تلك المقامرة، فقد كانت النتيجة ترشح الرجل الطائر لتسع جوائز أوسكار فاز بأربع منها، وتلقى قدرًا كبيرًا من اهتمام الجمهور والصحافة على حد سواء. ومع ذلك فالمفارقة ربما تكون أن كثيرًا من محادثات النقاد ركزت على السطح الذي يدور حوله الفيلم (من بين أمور أخرى) وفي الصعوبة في الخوض تحت السطح – فبعض التشتيتات والادعاءات, وبعض المشاهد تناسب ثقافة التسلية المعتادة – كانت من أجل صنع شيء ما أكثر عمقًا وأهمية.
تقريبًا كل مراجعة قرأتها كانت متفقة على أن الرجل الطائر صُور وحُرّر بطريقة تبدو كما لو أنه صُور مرة واحدة بشكل مُتصل, بأنه تمكن من إعادة فوبيا الأماكن الضيقة من التواجد وراء الكواليس, في الممرات المتسخة بمسرح برودواي. فمايكل كايتون, الذي مثل شخصية الرجل الطائر في ثلاثة أفلام أكشن ناجحة تجاريًا, يمثل الآن دور ريجان, الذي صنع سمعته بتمثيل البطل الخارق سابقًا, وأن الفيلم يحتوي عددًا من الإشارات والمقولات لكتاب كبار مثل رولان بارت, ولويس بورخيس, وسوزان سونتاج وأفلام كلاسيكية أخرى.
هذه المراجعات أعطت السنيمائيين والنقاد الأكاديميين كما يبدو فرصة لا تقاوم للاستعراض. فمراجعة الناقد ريتشارد برودي في جريدة النيويوركر لم تشبه الفيلم بأعمال أسماء مثل جودارد وهيتشكوك فقط، لكن أيضًا ذكر أسماء أخرى مثل “جين-ماري ستروب ودانييل هيوليت, شانتال أكرمان, عباس كياروستامي, تساي مينج ليانج, هونج سانجسو, ليساندرو ألونسو, بيدرو كوستا”, وفي مقال بمجلة فوربس انتقدت أيناريتو لاقتباس مسرحية ريجان من النسخة الأصلية المنشورة لقصة كارفر, التي كانت تغيرت جوهريًا بحسب تصريح محرره جوردون ليش, بدلًا من المسودة التي نشرت لاحقًا وتلك كانت, بحسب أرملة كارفر, أقرب لما قصده كارفر من القصة. قرأت تفاصيل المقارنة لكاتب فوربس بين النسختين وبقيت مقتنعًا أن أيًا من ذلك لا يمكن أن يؤثر على فهمنا للفيلم: في الواقع, لماذا أي منها يمكن أن يؤثر من الأساس؟!
ما يهم حقًا الأصالة الاستثنائية للرجل الطائر, كثافته, وعمقه, ومزجه الكابوس ببعض المرح. مثل مشهد هرولة ريجان المذهول في ميدان التايمز شبه عارٍ, الرجل الطائر رسم طريقه بمجازفة ومجد جمهوره بألم حقيقي وبالحماقة المقدسة لفنان مُرهق وبطل خارق سابق قرر أن يصبح شهيدًا للفن.
—————-
*هو لقب يطلق على منطقة المسارح التي يقع فيها مسرح برودواي.