أثار تقرير أصدرته مفوضية الأمم المتحدة السامية لحقوق الإنسان، يضم قائمة بأسماء الشركات التي تمارس أعمالًا تجارية في الأراضي المحتلة بالتعاون مع المستوطنات الإسرائيلية في الضفة الغربية، وشرقيّ القدس، بالإضافة لأراضي الجولان السورية المحتلة، جدلًا إسرائيليًا ودوليًا.
نستعرض هنا قصة التقرير ومحتواه، وأهم الشركات المذكورة فيه وطبيعة نشاطاتها في الأراضي المحتلّة، وماذا سيترتب عليها قانونيًا وعلى أرض الواقع؟
صدمة في إسرائيل.. ومفوضية حقوق الإنسان «تعادي السامية»
ذكرت لاهف هاركوف، الصحافية المتخصصة في الشؤون الدبلوماسية في جريدة «جيروزاليم بوست» الإسرائيلية أنّ الإعلان عن «القائمة السوداء» فاجأ الجميع في إسرائيل، إذ لم تُشعر أو تحذر مفوضية حقوق الإنسان الإسرائيليين باقتراب نشر القائمة التي نجحت إسرائيل بالضغط لمنع نشرها في الأعوام الثلاثة الماضية.
أثارت القائمة ردود أفعال العديدين داخل إسرائيل، تباينت بين اتهام مفوضية حقوق الإنسان بمعاداة السامية، والتعاون مع منظمات غير حكومية «إرهابية»، وأيضًا بـ«النفاق». ندّد رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو بالتقرير واتهم المفوضية بالانحياز ضدّ إسرائيل، ودعا دولًا أخرى لمقاطعة مفوضية حقوق الإنسان ومجلس حقوق الإنسان في الأمم المتحدة مثلما فعلت إسرائيل التي تحظى بسجل حافل من مقاطعة المؤسسات الدولية، ومن بينها محكمة العدل الدولية.
في مقال لها أشارت نوا لاندوا، الصحافية الإسرائيلية في صحيفة «هآرتس» إلى أن جميع السياسيين الإسرائيلين الذين تكلموا في هذا الشأن، يتكلمون وكأن المستوطنات أراض شرعية من أراضي إسرائيل، لا أنها أراض مختلف عليها دوليًا ومتنازع عليها قانونيًا، وتشير نوا إلى أن الدولة الإسرائيلية بأجهزتها المختلفة تحاول أن تظهر الخلاف على المستوطنات غير الشرعية على أنه اعتراض على حق إسرائيل في الوجود، في حين أن الخلاف على هذه الأراضي خلاف قانوني يعارض فيه المجتمع الدولي بأغلبية ساحقة التواجد الصهيوني في الضفة الغربية، والقدس الشرقيّة والجولان المحتل، ويصفه وفقًا للقانون الدولي بـ«الاحتلال».
جون بولتون، مستشار الأمن القومي السابق للرئيس الأمريكي دونالد ترامب، وأحد ألد أعداء الأمم المتحدة ومنظماتها الحقوقية، يصافح رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو في زيارة له لإسرائيل عام 2019.
الساسة داخل إسرائيل على موقف واحد، ضدّ المقاطعة وضد القائمة المُعلن عنها، بما في ذلك حزب العمال اليساريّ الصهيونيّ، الذي دعم سابقًا مقاطعة المنتجات الصادرة عن المستوطنات غير الشرعية في الضفة الغربيّة.
تنبع أهمية هذه المحاولة من الضغط الكبير الذي تمارسه إسرائيل وحليفتها الولايات المتحدة الأمريكية ضد حركة المقاطعة وسحب الاستثمارات وفرض العقوبات، المعروفة باختصار «بي دي إس (BDS)»، واتهام إسرائيل المستمر لها بمعاداة السامية والعمل على تدمير إسرائيل بالكامل، ما ترفضه الحركة قائلةً أنها تعمل ضدّ نظام الفصل العنصري القائم في الأراضي المحتلة.
وصل صدى القائمة للعاصمة الأمريكية واشنطن، ليخرج وزير الخارجية الأمريكي مايك بومبيو قائلًا أن نشر قائمة بأسماء الشركات أمر مشين، واصفًا الأراضي المحتلّة بأنها «أراض تسيطر عليها إسرائيل» ولا غير، ودعا الدول الأخرى لرفض القائمة لتقويضها مساعي السلام بين الإسرائيليين والفلسطينيين.
أما جون بولتون، عدو الأمم المتحدة القديم، والمستشار السابق لترامب في شؤون الأمن القومي، لم يفوّت فرصة مهاجمة الأمم المتحدة، معتبرًا ما حصل «استسلامًا كبيرًا لحركة المقاطعة المعادية لإسرائيل وشاحنًا لمعاداة السامية» في الأمم المتحدة، داعيًا لإدانة أي جهود تعمل على عزل إسرائيل.
أبرز شركات «القائمة السوداء» التي تعمل في الأراضي المحتلة
سمّيت حركة المقاطعة القائمة بـ«قائمة العار»، إذ أن المستوطنات غير الشرعية في الأراضي المحتلة تعد وفقًا للقانون الدولي فعلًا يرقى لجريمة حرب، والشركات التي تعمل في هذه المستوطنات متورطة في هذا العمل.
تضمّ القائمة أسماء 112 شركة، 94 منها إسرائيلية و18 أخرى خارج إسرائيل، من الولايات المتحدة الأمريكية، وبريطانيا، وفرنسا، وتايلاند، وهولندا، ولكسمبورج.
بدأ عمل المفوضية على التقرير منذ مارس (آذار) 2016، وقسّمت أنواع الأنشطة التي تقوم بها الشركات في الأراضي المحتلة إلى عدة أنشطة، تتضمن «تزويد المعدات ومواد البناء لأعمال بناء وتوسيع المستوطنات والجدار العازل» وتضم أنشطة تزويد أي خدمات لدعم المستوطنات بما في ذلك أعمال المواصلات داخلها، وأي أنشطة استعمال للموارد الطبيعية في الأراضي الاستيطانية من أرض وماء لغايات تجارية، و«تزويد المستوطنات والجدار العازل ونقاط التفتيش المرتبطة بالمستوطنات بأجهزة المراقبة والكشف» أو تزويد الشركات العاملة في المستوطنات بخدمات ومعدات أمنية، وتتسع القائمة لتشمل الخدمات البنكية والمالية التي تخدم المستوطنات وأنشطتها أو تخدم توسعها وبشكل خاص عبر «قروض الإسكان وتطوير الأعمال».
بالإضافة «لتزويد معدات هدم البيوت والممتلكات والمزارع والمشاتل البيئية»، وتدمير المحصولات الزراعية ومروج الزيتون.
جدار الفصل العنصري يمر بإحدى البلدات الفلسطينية في القدس الشرقية المحتلّة
وفيما يخص الفلسطينيين تضمّ القائمة أي شركات مملوكة للمستوطنات أو من فيها، جزئيًا أو كليًا، وتخدم أرباحها بتوسيع هذه المستوطنات، أو تعمل على تقييد الأعمال الفلسطينية الاقتصادية والمالية عبر قيود قانونية وقيود على التنقل.
وعلى اتساع نطاق التقرير إلا أنه خلص بأسماء 112 شركة فحسب هذه المرة، على أن تُحدَّث القائمة سنويًا، وفي الغالب ستتسع لتشمل مئات الشركات الأخرى الموثّق تعاونها مع المستوطنات غير الشرعية في المناطق الثلاث، الضفة الغربية والقدس الشرقية وأراضي الجولان المحتل.
سياحة في أرض محتلة
ذكر التقرير اسم شركات عالمية مختصة في قطاع السفر والسياحة، على رأسها شركة «Airbnb» المالكة للتطبيق الشهير لتأجير الشقق السكنية المفروشة. إذ تدرج الشركة في قوائمها 200 موقع سكني للاستئجار في المستوطنات، ومثلها شركة «Booking»، أشهر شركة حجوزات فندقية عبر الإنترنت، وهي شركة هولندية، تدرج 45 فندقًا في القدس الشرقية والمستوطنات، وألحقت بالقائمة الشركة الأمريكية «TripAdvisor»، التي تدير موقعًا بالاسم نفسه من أهم المواقع السياحية والإرشادية للسياح حول العالم، وسبب ضمّ الشركة للقائمة أنها تدرج 70 موقعًا لمطاعم ومقاه وجولات سياحية وفنادق وشقق سكنية، كلها تقع في نطاق المستوطنات في الأراضي الفلسطينية المحتلة، وفي القدس الشرقية.
وأدرجت القائمة شركة «Expedia» الأمريكية لإدراجها تسعة مواقع سكنية، منها فندقان كبيران، كلها في الأراضي المحتلة. تدرج القائمة أيضًا شركة «Opodo» البريطانية المملوكة لشركة «eDreams ODIGEO» الإسبانية، وتعمل الشركة في مجال السياحة والحجوزات الجوية والفندقية.
إعمار «الاحتلال»
تذكر القائمة شركة «Egis Rail» الفرنسية المختصة بالبناء والبنى التحتية، تعمل في عدّة دول في الشرق الأوسط والعالم، ولها شركة مسجّلة في إسرائيل، تعمل بعقود استشارية في القدس منذ عام 1999، ثم تحصلت على عقد آخر عام 2007 بقيمة تقارب 13 مليون دولار، وتعمل على بناء خط نقل يربط عدّة مستوطنات ببعضها البعض. تملك جهة حكومية فرنسية 75% من الشركة، وتتبع هذه الجهة لتحكم البرلمان الفرنسيّ.
تضيف القائمة شركة «ألستوم Alstom» الفرنسية العاملة في قطاع النقل بالخطوط الحديدية وتوليد الطاقة. تساهم الشركة في مشروع خط قطار القدس الخفيف، وتصنّع معدات بناء طريق خط القطار وتزوّد إسرائيل بها، ويربط المشروع بين مستوطنات في أحياء القدس الشرقية. تملك الدولة الفرنسية 20% من أسهم الشركة.
تقدم شركة «Altice Europe» أيضًا خدمات الاتصالات والتلفزيون للمستوطنات والأراضي المحتلة في المناطق الثلاث المذكورة أعلاه، وتقدم الشركة خدمات اتصالاتها لجيش الاحتلال الإسرائيلي في المناطق المحتلة، ويملك باتريك دراحي، رجل الأعمال الإسرائيلي الفرنسي، أكثر من 60% من أسهمها.
ويذكر التقرير شركة «جي سي بي» للصناعات الثقيلة في مجالات البناء والزراعة والهدم، تعمل الشركة في عدة مستوطنات، بعضها في الضفة الغربية، وواحدة منها في القدس الشرقية. بالإضافة لاستخدام المستوطنين والسلطات الإسرائيلية لأدوات الشركة لبناء مشاريع في هضبة الجولان المحتلة، ولبناء خط نقل سريع بين تل أبيب والقدس يمر بجدار الفصل العنصري، ويستعمل معداتها الجيش الإسرائيلي، وتستخدم آلياتها في هدم بلدات فلسطينية. الشركة مملوكة بالكامل لعائلة بامفورد البريطانية، التي يديرها أنتوني بامفورد، المقرّب من رئيس الوزراء البريطاني السابق توني بلير الذي شارك في الحرب على العراق، وأحد كبار داعمي حزب المحافظين البريطاني.
آلية من آليات شركة «جي سي بي» تدمّر متاجر عربية في مخيم شعفاط في القدس الشرقية المحتلة
شركة بريطانية أخرى هي «Greenkote»، تعمل على تطوير وإنتاج طلاء للسيارات والأسلحة الدفاعية، ولديها مركز أبحاث ومصنع يعملان من الأراضي المحتلة.
مع شركات البناء يذكر التقرير «مجموعة تاهال (Tahal Group)»، وهي شركة بناء دولية تعمل على تطوير بنى تحتية مستدامة، حسب موقع الشركة، وهي شركة هولندية ملاكها الرئيسيون إسرائيليون. تعمل الشركة في مشاريع البنى التحتية المائية والزراعية، وتشرف وتنفذ خطة الصرف الصحي وإعادة استخدام مياه المجاري في بلدية القدس، ولها مشاريع صرف صحي في عدد كبير من المستوطنات في مختلف أرجاء الضفة الغربية والقدس، وعوائدها من هذه المشاريع تتراوح بين 100-500 مليون دولار. يذكر التقرير الشركة الأم لمجموعة تاهال، وهي شركة «Kardan NV» الهولندية أيضًا.
كذلك يذكر التقرير شركة «جنرال ميلز (General Mills)» الأمريكية، التي تعمل في الصناعات الغذائية، وتستخدم منتجات مصنع كبير في الأراضي المحتلة يتبع لشركة إسرائيلية بالكامل اسمها «شالجال»، ومن هذا المصنع تصدّر الشركة أطعمة مطابقة للشروط والإلزامات اليهودية الدينية.
الشركة التايلاندية الوحيدة المذكورة هي «Indorama Ventures»، وهي الشركة المالكة لشركة إسرائيلية كبيرة اسمها «Avgol Industries»، ومالك الشركة الأم رجل الأعمال الهندي ألوك لوهيا، وصنّف التقرير أنشطتها في ضمن استخدام الموارد الطبيعية في الأراضي المحتلّة.
جهاز تواصل يستخدمه شرطي إسرائيلي من تصنيع شركة موتورولا الأمريكية، تم التقاط الصورة أثناء فضّ تظاهرة فلسطينية. الصورة من تصوير أحمد الباز
أهم الشركات الأمريكية المذكورة في التقرير هي «موتورولا للحلول التقنية (Motorola Solutions)» خدمت الشركة لعقود طويلة وزارة الدفاع الإسرائيلية والجيش الإسرائيلي في الأراضي المحتلة بأنظمة وخدمات مراقبة وحماية، تستخدم في المستوطنات وفي أنظمة جدار الفصل العنصري، وتستخدم منظومات مراقبتها في قواعد عسكرية إسرائيلية وفي الجدار الفاصل لغزة، وتوفّر منتجات عدّة لقافذات القنابل في سلاح الجو الإسرائيليّ. تعمل الشركة أيضًا في مجال المواصلات في الأراضي المحتلة، ومنظومات الحماية والتواصل داخل المستوطنات، بالإضافة لمنظومات ري زراعي.
«صفقة القرن» إعلان حرب على المقاطعة
أعلن نص مقترح «صفقة القرن» الحرب على حركة المقاطعة «بي دي إس» وذكرها بالاسم، قائلًا إنه يجب على الدول العربية والمجتمع الدولي أن يقاطعها ويوقف أي دعم ممنوح لها، بهدف إيقاف أي تشكيك في شرعية الدولة الإسرائيلية بوصفها دولة يهودية؛ بل وعلى هذه الدول أن تعارض حركة المقاطعة وتوقف أي نشاط من هذا القبيل. وينص المقترح على أن الولايات المتحدة وإسرائيل ستعارضان أي نشاطٍ تقوم به الحركة «المُدمّرة» لجهود السلام.
إبان نشر القائمة السوداء، صرّح جلعاد أردان، وزير الشؤون الاستراتيجية الإسرائيليّ أن إسرائيل ستستخدم شبكتها الدولية لتحمي الشركات المذكورة في القائمة مما أسماه «الهجمات المعادية للسامية»، مؤكدًا على خلاف القانون الدوليّ وما أقره المجتمع الدولي، أن العمل في المستوطنات أو الأراضي المتنازع عليها أمر مشروع ولا مخالفة للقانون فيه. وبتهديد غير مباشر للشركات، ألمحَ الوزير إلى آثار انسحاب إحدى الشركات في السابق وكيف لاحقتها دعوات إسرائيلية في محاكم مختلفة بتهمة التمييز العنصري فورَ انسحابها من الأراضي المحتلّة.
ذكر الوزير أن إسرائيل عملت على بناء «بنية تحتية دولية للدفاع عن الشركات، ولن يخيفهم الضغط السياسي ضدهم»، في إشارة للقانون الأمريكي الذي دعمه الرئيس الأمريكي دونالد ترامب، وتم تشريعه في 28 ولاية أمريكية يمنع أنشطة مقاطعة إسرائيل. ويشير الوزير إلى أن المقاطعة ستضرّ بالشركات المُنسحبة وبمصالحها إن كان لها تواجد في الولايات المتحدة.
في كل الأحوال، لا يملك التقرير سلطة قانونية أو تنفيذية تلزم هذه الشركات بالانسحاب من الأراضي المحتلة أو تجبرها على اتخاذ إجراءات تعويضية، ولكنه بمثابة تصريح رسمي ومتجدد ضد الاستيطان غير الشرعي ونظام الفصل العنصري الإسرائيلي، وإثبات رسمي -وعلى مستوى دولي- لتورط هذه الشركات في أنشطة الاحتلال غير القانونية.
ورغم تأكيد نتنياهو المستمر هو وطاقمه الوزاري على «تفاهة» وانعدام أهمية المفوضية السامية لحقوق الإنسان، إلا أن خطوة نشر قاعدة بيانات كهذه، سُتحدث لاحقًا بشكل سنوي، يبدو أنها تضع ضغطًا حقيقيًا على إسرائيل وتحرجها أمام المجتمع الدولي، وفي الوقت نفسه تحرج حلفاءها أو المتعاونين معها في أعمالها الاستيطانية وغير القانونية.