في الوقت الذي يعاني فيه العالم من جائحة تنفسية، تسببت في وفاة ما يزيد على 5 ملايين و400 ألف شخص، حول العالم – حتى كتابة هذه السطور – وإصابة ما يقرب من 285 مليون فرد، وأصبح امتلاك أجهزة التنفس الصناعي شديد الأهمية؛ تأتي السحالي، وتحديدًا  «سحلية الأنول البني» التي تستوطن كوبا وجزر البهاما، ويتراوح طولها بين 12 سم و18 سم، لتقدم للبشرية نموذج تنفس بسيطًا للغاية وشبيهًا بنظام التنفس في البشر، يمكن محاكاته بسهولة ويلهم المهندسين الحيويين، الذين يعملون ليل نهار على تصميم تقنيات تنفسية متقدمة، من أجل الفوز في سباق جائحة كورونا، والتقدم خطوة على الفيروس وما يسببه من مضاعفات تنفسية حادة وتليف في الرئة؛ تصميم جديد كان غائبًا عنهم، فما القصة؟

سحلية الأنول البني تنضم إلى «طابور» معلمي البشر!

أظهرت دراسة جديدة – تعد الأولى من نوعها على الإطلاق، بحسب الباحثين القائمين عليها – نشرها في نهاية ديسمبر (كانون الأول)، فريق بحث بقسم الهندسة الحيوية، في جامعة «برينستون» الأمريكية العريقة، أن طريقة تطور رئة سحلية الأنول البني، قدَّمت حلًّا لواحدة من أكبر وأعقد مشكلات الحياة: عملية التنفس.

ففي الوقت الذي تحتاج فيه رئة الإنسان إلى شهور (في الرحم) كي تتكون، وإلى سنوات (بعد الولادة) كي تعمل بكامل طاقتها وكفاءتها، وتتطور رئات الثدييات الأخرى والطيور بشكل مُركب جدًّا في تفرعات لا نهائية وإشارات كيميائية حيوية معقدة؛ تتكون رئتا سحلية الأنول البني في غضون أيام، من فصوص بدائية خام، مغطاة بنتوءات منتفخة، خلال عملية فيزيائية شبهها الباحثون بكرة الإجهاد (stress ball)، اللعبة الشائعة التي يمكن ضغطها في أشكال لا حصر لها.

ففي رئتي سحلية الأنول البني، يدفع ضغط السوائل غشاءً داخليًّا مرنًا (أخضر اللون) من خلال شبكة عضلية (وردية اللون)، مكونًا انتفاخات مملوءة بالسوائل مع مساحة سطح تسمح بتبادل الغازات، وتسمح هذه الأنسجة البسيطة للسحلية بتبادل الأكسجين مع ثاني أكسيد الكربون، تمامًا بالكيفية والكفاءة التي تعمل بها رئة الإنسان.

رئة سحلية الأنول البني

صورة مُكبرة من نسيج رئة سحلية الأنول البني – مصدر الصورة: جامعة برينستون

توصل القصبة الهوائية في جسم الإنسان، الهواء المستنشق إلى الرئتين من خلال فروعها الأنبوبية، وتنقسم القصبات بعد ذلك إلى فروع أصغر وأصغر (قُصيبات)، لتصبح أخيرًا مجهرية، وتنتهي القصيبات في نهاية المطاف إلى مجموعات من الأكياس الهوائية الدقيقة تسمى الحويصلات الهوائية، والتي تقوم بوظيفتها في تبادل الغازات، ولا سيَّما أكسجة الدم، وهي عملية نقل الأكسجين الذي يصل من الهواء الجوي، عبر أنابيب الجهاز التنفسي إلى الحويصلات الهوائية بالرئتيْن، ومنها إلى الدم، ليُوَزَّع الأكسجين على كافة أنسجة الجسم التي لا تعمل بدونه.

«مجموعتنا مهتمة للغاية بفهم تطور الرئة من أجل أغراض الهندسة الحيوية، إذا فهمنا كيف تبني الرئتان نفسها، فربما يمكننا الاستفادة من هذه الطرق والآليات لتجديد الأنسجة أو محاكاتها». *سيليست نيلسون، أستاذة الهندسة الحيوية والكيميائية والمُحكِّمة الرئيسة للدراسة

رئة سحلية الأنول البني.. كلمة السر: البساطة

بساطة رئة سحلية الأنول البني، وسرعة تشكلها والقيام بوظيفتها بكفاءة، يُشكل بالنسبة للمهندسين الحيويين، مصدرًا يمكن محاكاته، لتصميم جهاز تنفس أو حتى طباعة رئة بتقنية الطباعة ثلاثية الأبعاد؛ ففي الوقت الذي كانت أنظار العلماء، مرتكزة فيه على دراسة رئة الثدييات والطيور، المشابهة لرئة الإنسان، كانت سحلية الأنول، مختبئة عن الأنظار – كما هي عادة السحالي – وتعمل رئتها بكامل كفاءتها بطريقة غاية في البساطة.

يقول مايكل بالمر، أحد العلماء القائمين على الدراسة، إن رئة سحلية الأنول البني تتطور باستخدام آلية فيزيائية، وفي أقل من يومين ينتقل العضو من هيئة بالون مسطح إلى رئة مكتملة التكوين، قادرة على القيام بوظيفتها. مؤكدًا أن العملية بسيطة بما يكفي، بحيث يستطيع هو وزملاؤه في المعمل، بناء نسخة طبق الأصل، باستخدام نموذج حسابي.

Embed from Getty Images

سحلية من فصيل «الأنول البني» 

وقام الباحثون بصب الغشاء باستخدام مادة سيليكون تسمى «Ecoflex»، وهي شائعة الاستخدام في صناعة المؤثرات الخاصة السينمائية، ثم غلفوا ذلك السيليكون بخلايا عضلية مطبوعة بتقنية الطباعة ثلاثية الأبعاد؛ لإنشاء التمويجات نفسها الموجودة في السيليكون المتضخم الذي وجده مايكل بالمر في رئة سحلية الأنول؛ وفي النهاية، وبرغم بعض العقبات التقنية التي واجهوها، تمكن فريق البحث، من صناعة رئة مشابهة وعاملة، مطابقة بشكلٍ مدهش، لرئة الزاحف البني.

رئة سحلية الأنول البني وعصر ما بعد كورونا

في الوقت الذي كانت تتسابق فيه الدول الكبرى على امتلاك الأسلحة، جاء فيروس صغير لا يُرى بالعين المجردة، وأعلن عن قدراته الفائقة، وأجبر حكومات كبيرة ودول عظمى على إعلان إغلاق كلي، في محاولة للحد من انتشاره وحصده الأرواح.

أجبرت أزمة جائحة كورونا الجميع على إعادة النظر في الأولويات، وأصبح لا صوت يعلو فوق صوت توفير كل ما تحتاجه الرعاية الصحية العاجلة من إمكانات لإنقاذ حيوات أكبر نسبة ممكنة من المرضى، وفي مقدمة هذه الإمكانيات، أجهزة التنفس الصناعي الحديثة القادرة على منح الحالات الحرجة أنفاس الحياة، لحين نجاح مناعة الجسم، والأدوية التجريبية من مضادات الفيروسات في مكافحة الفيروس، والقضاء عليه داخل أجساد المصابين به، ومن ثم عودة الرئتيْن وباقي الأعضاء الحيوية للعمل بكفاءة.

«إننا نعمل على مدار الساعة من أجل توفير المزيد من أجهزة التنفس الصناعي، سواءً من المُصَنِّعين المحليين، أم من الخارج». *تصريح لمتحدث باسم رئاسة الوزارة البريطانية، في أبريل (نيسان) 2020

أظهرت دراسة حديثة، نُشرت في أكتوبر (تشرين الأول) 2021، تتبع فيها أطباء وفريق من العلماء حالة الرئة لدى عدد ممن أصيبوا بفيروس كورونا، أن أكثر من 50% من هؤلاء المرضى، قد أصيبوا بتشوهات ليفية في الرئة ما بين شديد ومتوسط، وبالمتابعة بعد ثلاثة أشهر من التصوير الأول بالأشعة المقطعية، اتضح أن التشوهات الليفية قد زادت في 66% من المصابين؛ مما يعني أن الرئة تعمل بكفاءة أقل وأنهم سيعانون من مشكلات تنفسية دائمة.

Embed from Getty Images

وبالعودة لبداية هذا التقرير وعدد المصابين بفيروس كورونا، فإن هناك ما يزيد على 252 مليون متعافٍ من الإصابة بالفيروس القاتل حول العالم، غير معلوم على وجه الدقة عدد المصابين منهم بتشوه ليفي رئوي أو درجة إصابته، ناهيك عن عدد المصابين بالأمراض التنفسية الأخرى والأمراض الصدرية المزمنة التي تؤثر في كفاءة الرئة حول العالم.

ولأن عملية زراعة الرئتين عملية باهظة التكاليف ناهيك عن مخاطرها الكبرى وصعوبة الحصول على رئة صالحة من متبرع؛ يسعى العلماء للوقوف على طريقة سهلة وبسيطة تمكنهم من خلق رئة اصطناعية، يمكنها أن تمنح جسم الإنسان، الأكسجين اللازم، لعمل كل أجهزة/أعضاء الجسم، وتكون قابلة للزرع والتنقل بها دون الحاجة إلى المكوث في المستشفى أو تحت الرعاية الطبية الدائمة.

ومن هنا، تعد نتائج دراسة جامعة «برينستون»، وتمكن فريق العلماء القائم على الدراسة، من محاكاة رئة سحلية الأنول البني، عبر نموذج حسابي؛ ثورةً هائلةً في عالم الطب، وربما قد يكون أحد أبرز الأحداث العلمية في عالم الطب عام 2021.

صحة

منذ سنتين
نسبة تشبع الأكسجين في الدم.. ما معناها؟ وكيف تقي نفسك من انخفاضها؟

المصادر

تحميل المزيد