أول ما أتذكر في حياتي هو أنني كنت أجلس تحت شيءٍ ما. لقد كانت طاولة أتذكر جيدًا شكل أرجلها وكذلك أرجل الناس المحيطين بها بينما كنت أحاول أن أختبئ خلف مفرشها المتدلي. كان ذلك المكان مظلمًا، ولكنني أحببت البقاء هناك. *تشارلز بوكوفسكي
هو رجلٌ لديه العديد من الأسماء؛ فأصدقاؤه والمقربون منه ينادونه «هانك»، ويناديه معجبوه القدامى وأصدقاؤه من الصحافيين «بوك»، ويعرفه جمهوره من القراء من خلال شخصية «هنري تشيناسكي» التي تمثله شخصيًّا، وتأخذ دور البطولة في أعماله الروائية، أما اسمه عند الولادة هو «هنريك كارل بوكوفسكي»، وبعد انتقال والديه من ألمانيا إلى أمريكا تمت أمركته ليصبح «هنري تشارلز بوكاوسكي».
من بين هذه الأسماء التي يعبر كل منها عن فترة من حياة بوكوفسكي، ويحمل دلالة مميزة لشخصيته، كان بوكوفسكي الحقيقي يقبع هناك في مكان ما، مكان قصي مظلم لا تراه أعين الناس. فهذ الرجل لم يحبه العالم فبادله بغضًا ببغض، وظل طوال حياته مترددًا بين ما إذا كان عليه الخروج من تحت الطاولة أم المكوث هكذا في الظلام والانتفاع من الراحة التي ستعود عليه كلما ابتعدت عنه الأضواء، وظل شخصًا غير معروف.
وهكذا ظل هذا التوتر الناجم عن التردد الشديد بين رغبة بوكوفسكي الصادقة في البقاء بعيدًا عن الأضواء، وبين توقه للحصول على قسط من الشهرة وأن ترى أعماله النور ملازمًا له طوال حياته؛ فهو لم يكن يخاف الشهرة والأضواء في حد ذاتها؛ بل من كان يخيفه حقًّا هم البشر؛ فيقول: «هناك تحت الطاولة شعرت أنني بخير إذ يبدو أنه لم يلحظ أحد أنني كنت أجلس هناك. كانت الشمس تلقي بضوئها على السجادة وعلى أرجل المحيطين بالطاولة. لقد أحببت ضوء الشمس، ومفرش الطاولة وكذلك أرجلها، ولكنني لم أحب أبدًا أرجل البشر المحيطين بالطاولة، لقد بدت هي الشيء الوحيد الغريب».
وحين أراد أحد الصحافيين استفزازه حول شعوره بخصوص سكنه في شقة من غرفة واحدة في وسط هوليوود بالقرب من بيت الأديب الشهير ألدوس هيكسلي، وعن إحساسه وهو ينظر من نافذته إلى أعلى حيث أضواء بيت الأديب المشهور تُرى بوضوح، وإذا ما كان يشعر أن ألدوس هيكسلي يستطيع أن يبصق عليه من موقعه هذا، رد ببساطة وهو نصف مخمور بأنه لا يكترث حقًّا؛ فقال: «لم أفكر حتى في هيكسلي، ولكن بعد أن ذكرته، لا، لا يضايقني ذلك».
اقرأ أيضًا: «هذا العالم لم يُحبّنا».. كيف وجد هؤلاء طريقهم إلى الانتقام؟
عالم لم يحب بوكوفسكي
تمامًا كأبطال رواياته، كان بوكوفسكي شخصية هامشية لا تثير في قلب من يعرفها شيئًا من الحب أو البغض. ويمكن القول إن الشعور الحقيقي الذي كان يشعره زملاؤه نحوه هو الشعور بالشفقة على هذا الولد الذي لا يستطيع التفوق في شيء، والذي يبرحه والده ضربًا لأتفه الأسباب.
لم يكن الأب، الذي كان جنديًا سابقًا في الجيش الأمريكي، حنونًا مع ولده؛ بل كان فظًّا قاسيًا يبرحه ضربًا لأسبابٍ تافهة؛ فكان يضربه إن لم يستطع جز العشب في حديقة المنزل بشكل متساوٍ، وإن تلعثم في القراءة، وإن جاءه بشكوى من المدرسة. أما الأم، وهي امرأة ألمانية تقابلت مع والده في ألمانيا ثم انتقلت للعيش في أمريكا معه بعد الزواج، فقد كانت مغلوبة على أمرها لا تستطيع حماية ابنها من قسوة أبيه، ولا حتى إرضاء الصغير ذي النفسية المحطمة بكلمات تطيب خاطره بعد الصفعات والركلات التي كان يكيلها له الوالد.
أما في المدرسة؛ فلم يكن الأمر يختلف كثيرًا عن المنزل. في مدرسة فيرجينيا رود قوبل بوكوفسكي الصغير بالسخرية والاستهزاء من زملائه الذين كانوا يسخرون من تعسُّره في القراءة، وكذلك من ملابسه التي شبهوها بملابس الفتيات؛ فكانت النتيجة أنه فضَّل اعتزالهم، واكتسب أسلوبه في التعامل -منذ ذلك الحين وحتى آخر حياته- شيئًا من الفظاظة ليصبح رد فعل دفاعي على الرفض والتهميش اللذين واجههما في مقتبل عمره.
وسط كل هذا الرفض والتهميش، استطاع شيء وحيد أن يجذب الأنظار في المدرسة إلى بوكوفسكي الصغير، وهو ذلك «المقال» الذي كتبه عن خطاب الرئيس الأمريكي وقتها، هربرت هوفر، أثناء زيارته إلى مدينة لوس أنجلوس التي كان يقطن بها. وبعد أن أشادت المعلمة بهذا الخطاب وضربت به لتلاميذها مثالًا على الكتابة الجيدة، تعلم بوكوفسكي -الذي لم يكن قد سمع خطابًا رئاسيًّا في حياته، وألف المقال من وحي خياله- شيئين مهمين وهما: أن الناس حمقى يحبون سماع الأكاذيب الجميلة، وأن الكتابة هي الشيء الوحيد الذي يستطيع إجادته.
وحين وصل بوكوفسكي إلى الصف الأول الثانوي كان الكساد العظيم قد وضع يده الثقيلة على المجتمع الأمريكي، الأمر الذي زاد علاقته بوالده سوءًا وتعقيدًا؛ إذ فقد الأب وظيفته وكانت تثور ثائرته لأتفه الأسباب، وكان الفتى وقتها يقابل الضرب المبرح من والده بصمتٍ غريبٍ ثقيلٍ كان يثير استياء والده أكثر مما يرضيه. ولكنَّ الأمور لم تتوقَّف عند هذا الحد؛ فقد أصُيب بوكوفسكي في ذات السنة بواحدة من أسوأ حالات حبّ الشباب التي تم الإبلاغ عنها في العالم فتحول عدم ارتياحه للبشر من حوله إلى نفورٍ تام من هذه النظرات المستطلعة للبثور التي تملأ وجهه وذراعيه، وكرَّس نفسه منذ ذلك الحين للخمر الرخيصة التي تنسيه قبح هذا العالم، ومرافقة مرتادي الخمارات من المهمشين أمثاله الذين لا يأبهون كثيرًا لشكله.
ومنذ ذلك الحين، ظل هذا النفور من البشر مرافقًا له طوال حياته، فكان لا يحب الحشود، ولا الأماكن المزدحمة، ويكره أن ترفع الستائر، ويحرص دائمًا على إسدالها والمكوث في الظلام، ولا يحب الرد على الهاتف، ولا يستجيب لجرس الباب لدرجة أنه كان يظل أسبوعًا كاملًا لا يفتح باب شقته لأي أحد مهما كان. وحين سأله الصحافي الذي أجرى معه أول مقابلة صحافية عن سبب كرهه للبشر، أجابه ببساطة قائلًا: «من يحب الناس؟ أرني شخصًا يحب الناس لأريك لم لا أحبهم».
وحتى عندما وجدت الشهرة طريقها إلى بوكوفسكي لم يشعر أبدًا أن نفوره من البشر قلَّ؛ فها هو يجيب عن السؤال الذي وجَّهته إليه الكاتبة والمترجمة الإيطالية، فيرناندا بيفانو، حول سبب عدم وجود وفاق بينه وبين البشر قائلًا: «إذا كرهتُ شيئًا، أبتعد عنه مباشرة. لا أحاول أن أفهمه: (لماذا لا أحب هذا؟) أتحيّز لعنصريتي. لا أحاول أن أحسّن من نفسي، أو أتعلم أي شيء، فقط أبقى كما أنا. أنا لا أتعلّم؛ أنا أتجنّب».
الكتابة تُنقذ الرجل الذي كسرته الحياة
«سعيد لأنني لم أستسلم. سعيد لأنني لم أترك الكلمة. ما زلت أملكها، أعمل معها، أعبث بها، تستغرقني كما كانت تفعل سابقًا. أظن أن الآلهة كانت تلعب معي. وما زالت حتى الآن. سأهبط إلى حيث آخر جمرة في النيران الملتهبة، وعلى وجهي ابتسامة صغيرة، والكلمات تقفز إلى شاشة الكمبيوتر وأنا شاب كما كنت في السابق. دون غرور، دون رجاءٍ أو طمعٍ في الشهرة، فقط غريزتي تنبض بالكلمة، كلمة أخرى، كلمات أخرى، بالطريقة التي أريدها، بالطريقة التي يجب أن تكون عليها. أقف وأضحك مع الآلهة». تشارلز بوكوفسكي من رسالة إلى الناشر جون مارتن
كانت أول ثورة لبوكوفسكي على والده بسبب آلته الكاتبة التي ألقاها الأخير في الشارع، ووجدها الشاب الصغير وقتها وهو عائد من البار الذي اعتاد معاقرة الخمر فيه، وحينها ثارت ثائرته وصرخ بأعلى صوته على والده، وطلب منه أن يواجهه كرجل لرجل ليوجه له لكمة تطرحه أرضًا، ويترك بعدها البيت بلا عودة، ويستقر في غرفة صغيرة رخيصة في وسط المدينة.
وعلى عكس ما كان يتوقع، لم يجد هانك الراحة التي كان يتخيل أنه سيجدها بعيدًا عن والديه. لقد كان يشعر أنه لا يعرف نفسه، ولا يرى أحدًا يشبهه حتى بين مرتادي الخمّارات الرخيصة التي كان يقضي أغلب وقته بها، والأهم أنه كان لا يعرف ما يجب عليه فعله بعد أن تخلص من سلطة والديه. وفي مكتبة لوس أنجلوس العامة، التي كان يرتادها من حين إلى آخر، وجد أجوبة لجميع أسئلته في رواية «اسأل الغبار» لجون فانتي التي ظل لها تأثير في أسلوبه بالكتابة مدى الحياة.
كانت الرواية تحكي عن شاب وجد فيه هانك نفسه؛ فالبطل «آرتورو بانديني» كان شابًا في العشرين من عمره، وُلد في أمريكا لأبوين من المهاجرين، ويطمح أن يصبح كاتبًا، ولكنه يجد صعوبة في الكتابة عن مجتمع لا يشعر أنه ينتمي إليه؛ فيقرر أن يكتب عن الحياة والحب، ولكنه تعوزه الخبرة فيقرر أن يخالط الناس ليأخذ خبرات في الحياة تمكنه من الكتابة، ويتخذ من غرفة أحد الفنادق الرديئة مسكنًا حيث يقابل فتاة جميلة ويقع في حبها.
لقد خلبت هذه الرواية لبَّ هانك لدرجة أنه وصف اكتشافه لها بالاكتشاف الأول للسحر، وبأنه أشبه بالعثور على قطعة من الذهب في مكب نفايات المدينة. ومنذ ذلك الحين عرف أنه خُلق ليكون كاتبًا؛ فالكتابة لم تكن مجرد هواية لهانك، ولكنها كانت منقذه الأوحد من عالم لا يريد التعرف إليه أو الانخراط فيه. لقد أنقذته الكتابة ليس فقط من الضياع والخذلان والشعور بانعدام القيمة، ولكنها أنقذته مرارًا من الموت؛ فكانت الشيء الوحيد الذي أرجعه من الموت حين قرر لأول مرة الانتحار وحيدًا في أحد الأكواخ المتهالكة، بعد أن بقي بلا عمل ورفض والده مساعدته ماديًّا طالما أنه ينوي أن يكون كاتبًا.
حين هم هانك أن يمسك بسلك الكهرباء لكي يتخلص من حياته، كانت الهوامش البيضاء للصحيفة الملقاة على الطاولة أمامه تناديه ليملأها؛ فعدل عن قراره، وحين ماتت حبيبته فكر في اللحاق بها انتحارًا ولكنه أفرغ أوجاعه في قصائد رثاء حزينة عوضًا عن ذلك. ولأنه رجل عاش حياة كانت عبارة عن سلسلة متصلة من التفكير الجديّ في الإقدام على الانتحار، كان الطبيعي أن يكثر حضور المنقذ (الكتابة)؛ فكتب بوكوفسكي آلاف القصائد، ومئات القصص القصيرة، وست روايات.
الصدق ولا شيء غير ذلك
حين بدأ بوكوفسكي نشر أعماله الأدبية تخلى عن اسم هنري لأنه يذكِّره بوالده -إذ كان الأب والابن يحملان نفس الاسم- فيقول ردًّا على سؤال طرحته عليه محاورته فيرناندا بيفانو عن سبب تخليه عن كتابة اسمه الأول على مؤلفاته: «تعبت من اسم هنري، أبي وأمي لم يكونا شخصين لطيفين. عندما يناديني أحدهما هنري، لم أكن أريد أن أسمع؛ لأنني إما أن أكون مدعوًا لآكل، أو لأنجز بعض المهام، أو لأنني فعلت شيئًا خاطئًا، وعليّ المجيء لنيل عقابي».
ولكن إن كان بوكوفسكي قد تخلى عن اسم هنري على غلاف كتبه فإن صفحاتها تمتلأ بهذا الاسم؛ فهو قد اختار أن يحكي مقتطفات من حياته في رواياته وقصصه القصيرة على لسان بطله «هنري تشيناسكي» الذي يمثله شخصيًّا. وعلى عكس الكثير من الأدباء الذين كانوا يحاولون إخفاء شخصيتهم الحقيقية في أعمالهم، وإقناع القارئ أن هذه الحكايا التي يحكونها إنما هي محض خيال، كان بوكوفسكي يتحدث صراحة عن أنه هو بطل أعماله؛ إذ صرح بأن 99% مما حكى عنه قد حدث له فعلًا.
إذن لقد كان الصدق هو العامل الرئيسي في كل كتابات بوكوفسكي، وإن كان للصدق رفيق فإنه سيكون الفكاهة. فهو رجل قد ضحك وأضحكنا من نفسه أولًا قبل أن يضحك على العالم المجنون من حوله. نعم، ستضحك كثيرًا وأنت تقرأ لبوكوفسكي، ولكنك لن تستطيع أن تمنع شعورًا بالمرارة يتسرب إليك حين تقرأ هذه الحكايات الصادقة المضحكة عن السكارى، والمسحوقين اجتماعيًّا، والبغايا، والبلهاء في مكان كولاية كاليفورنيا، ستتعجب كيف لهذه الأرض المليئة بالحدائق الغنَّاء، والتي شبهها الكثيرون بالجنة الموعودة أن يكون لها وجهٌ خفيٌّ قبيح كهذا الوجه الذي كشفه لك بوكوفسكي، وستسأل نفسك: كيف يتضوَّر هؤلاء جوعًا والأرض تجود بثمارها والمحيط يجود بخيراته؟ ولكنك ستدرك الجانب الخفي من هذه الأرض التي حرمت فقراءها ليزيد غنى أغنيائها.
وهكذا حكى بوكوفسكي على مدار ست روايات وأكثر من ألفين قصيدة وقصة قصيرة حياته وحياة المهمشين من مجتمعه بصدقٍ بالغ، غير طامع في شهرةٍ أو مال؛ لأنه كان يعلم جيدًا أن الكتابة هي الشيء الوحيد الذي يشفي روحه. لم يكن بوكوفسكي من الذين يحبون الخُطب الرنانة، ولم يدَّع يومًا بطولة لم يقم بها، حتى أنه قد صرح بلا مواراة بأن دور الشاعر هو لا شيء، لا شيء على الإطلاق؛ لأنه حين يخطو خارج حدوده ويحاول أن يكون قويًّا وعنيدًا سيتلقى صفعة قوية قد تنهيه، وضرب بالشاعر الأمريكي الكبير «عزرا باوند» مثالًا على صحة أقواله؛ لأنه حين تجرأ وأعلن مقته لليهود وتأييده لموسوليني كان مصيره أن أُودع قسرًا في مصحة نفسية ومات هناك؛ لأن دولته قد قررت بدلًا عنه أنه غير سليم نفسيًّا، والسبب معلوم فهو قد تجرأ وتخطى حدوده.
قد يكون بوكوفسكي مصيبًا في رأيه هذا، وقد يكون مخطئًا، وربما إدراكه لهذه الحقيقة هو الأمر الذي دعاه إلى الادعاء بأن تأييده لهتلر وقت الحرب العالمية الثانية كان بدافع لفت الأنظار إليه، لا حبًّا في هتلر نفسه. وعلى الرغم من أن الكثير من النقاد كانوا يرون أن بوكوفسكي قد أيد هتلر لأنه شعر بتعاطف شخصي معه، إلا أن الحقيقة لا يعلمها إلا هانك الذي لم يخرج أبدًا من تحت الطاولة.