كانت تنظر حولها في فزع، كمن استفاق إلى نفسه واسترد وعيه الذي فقدّه طويلًا وطويلًا جدًا، لزمن يُقدر بنحو 35 عامًا، رأت نفسها ترتدي جلبابًا أسود اللون، وحولها أناس كثيرون يتشاجرون ويعتدون بالضرب على بعضهم البعض، كأنها انفصلت عن جسدها، وقفت تشاهد مظهرها، تستمع إلى صوتها الذي تملأ به آذان من حولها، المظهر الخارجي هذا الذي يرونه ويسمعونه ليس هي.

هي وحدها من تدرك أنها كيانان: المرأة الطيبة المستكينة التي يمكن أن يخدعها الجميع ويأتون على حقها، والمرأة الشرسة التي يستأجرها البعض لكي تدعمهم في الخلافات والشجارات بقوتها، وقدرتها على التفوه بالألفاظ البذيئة النابية، وصوتها الخشن القوي الذي يُشبه الرجال، فأصبحت واحدة من البلطجيات النساء التي أضحت تزخر بهن العاصمة المصرية القاهرة.

اسمها -ويا للمفارقة- نسمة، امرأة خمسينية متوسطة الحجم والطول، سمراء الوجه وعلى وجهها بعض العلامات التي تركتها فيه الأسلحة البيضاء، لم يعد اسمها نسمة على أي حال، بل رأت أن تغيره إلى «عصمت»، رأت أن هذا أنسب كثيرًا، فلم يعد نسمة يُناسب عملها الذي أُجبرت عليه، فهي تعمل «بلطجية مأجورة»، والمشهد السابق هو واحد من الشجارات التي شاركت فيها عصمت مُقابل 700 جنيه.

فتاة تتعرض للظلم بعد وفاة والديها

البداية حينما كانت عصمت فتاة لم يتجاوز عمرها 17 عامًا، تعيش مع أبويها وأخيها، فجأة يتوفى والداها، وتصطدم بأخيها الذي يرى أنه أحق بشقة والديه لكي يتزوج فيها، يستأجر لأخته حجرة بأحد أسطح المنازل لكي تُقيم فيها، في البدء كان يعطيها مصروفها الشهري لإيجار الحجرة، بالإضافة لتوفير نفقات طعامها وشرابها وملبسها، فهي لم تستطع العمل؛ لأنها لم تحصل سوى على شهادتها الابتدائية، ولم تمتلك أي خبرة في أي مجال.

حينما كان أخوها يتولى نفقاتها لم تكن تُعاني من شيء أكثر من الوحدة، وصدمتها من أخيها الذي أخرجها من بيت والديهما، لكن لم يمرّ الكثير من الوقت حتى قلل الأخ ما يعطيه لها من مصروفات بحجة الحياة وأعبائها الثقيلة، ثم انقطع تمامًا عن هذا المصروف.

وقتها لم تجد نسمة بُدًّا من الخروج ومحاولة العمل، عملت بائعةً في المحلات، وخادمةً في المنازل، لكن القاسم المُشترك في كل هذا هو المُعاملة الجافة الذي كانت تلقاها من أغلبية من تعاملت معهم، فحصلت خلال فترة عمل قصيرة جدًا على الكثير من القسوة والإهانات اللفظية التي كانت تصل إلى حد التعدي بالضرب.

«منذ أن توفي والداي تولت الحياة مُهمة أن تجعلني قوية صلبة؛ أؤذي من حولي بدلًا من أن يؤذوني هم، تضربهم يدي قبل أن تصل أيديهم إلى جسدي بالاعتداء أو الطمع، تحولت إلى رجل غليظ الصوت قبيح اللسان، وحينما رآني الناس وصلت إلى هذا الحال، راق لهم الأمر وقرروا أن يستغلونني لمصالحهم»، هكذا تقول نسمة لـ«ساسة بوست».

بلطجية تُخفى أنثى رقيقة

الاستغلال الجديد الذي تعرضت له عصمت هو أن البعض يستأجرها في خلاف، أو شجار عائلي، أو مهني في العمل، أو بين الجيران، يعطيها المال مُقابل أن تُنكل بخصمه، وعلى مقدار تقييمها المادي «للزبون»، وحجم الشجار، وأهدافه تُحدد عصمت قيمة أُجرتها، تبدأ من 300 جنيه، وتصل إلى 3 آلاف وربما أكثر، وأحيانًا تؤدي عصمت عملها مجانًا مُجاملةً لأحد «أحبابها» كما تُطلق عليهم، وتصف الأمر قائلة لـ«ساسة بوست»: «أنا لا أطيق أن يُزعج أحد الأشخاص الذين أحبهم من جيراني وصديقاتي؛ لذا أتولى التنكيل بخصومهم على سبيل المُجاملة لهم، والحماية المجانية».

لا زالت عصمت تحتفظ في داخلها بنسمة، لم يُقدر لها أن تتزوج أو تنجب، ولم يُقدر لها أن تظل أنثى رقيقة طيبة كما خلقها الله، ولكنها تعرف أن القسوة والحدّة والعنف مُجرد عباءة ترتديها أثناء خروجها من منزلها وتأدية عملها، أما حقيقة أمرها فهي أنها نسمة المرأة الطيبة المُستكينة، التي تستمع إلى أغاني عبد الحليم حافظ، بمجرد عودتها إلي حُجرتها، وتُفضل الأفلام السينمائية القديمة عن تلك الحديثة؛ لأن الناس بهذه الأفلام، على حد وصفها، كانوا «مُهذبين ولسانهم حلو»، ولا يفصلها عن هذا الاستمتاع سوى تحسس الشقوق والندبات التي سببتها لها الأسلحة البيضاء في وجهها ضريبةً لعملها!

أصل كلمة «البلطجية»

في تصريحات صحافية يؤكد سامح فرج مؤلف «معجم فرج للعامية المصرية» أن كلمة «بلطجي» تعني حامل البلطة باللغة التركية، وأنه في عهد الدولة العثمانية كان الجنود «البلطجية» -بمعنى حاملي البلطة- يتقدمون القوات الغازية، يقطعون الأشجار بالبلط، ويشقون طريقًا أمام القوات المتقدمة، وكان دورهم أيضًا عمل فتحات، أو هدم أجزاء في جدران الحصون والقلاع حتى تقتحمها قوات المشاة.

مُضيفًا في تصريحات صحافية: «ولم تكن كلمة بلطجي تحمل معاني سيئة، وفي عصر محمد علي والي مصر كانت قوات البلطجية موجودة في الجيش، ولكن في الثلث الأول من القرن العشرين أصبحت كلمة «بلطجي» صفة سيئة، وتعني الشخص المستهتر الأقرب إلى الفتوات في الحياة الشعبية في فترات سابقة، حتى وصل الأمر إلى صدور قانون مؤخرًا «لمُكافحة أعمال البلطجة وترويع الآمنين» لتصبح كلمة «البلطجي» في نهاية الأمر مرادفًا للمجرم.

أكثر من 100 كلمة مشتركة بين العربية والتركية.. هل لفتت نظرك في «قيامة أرطغرل»؟

ضعفاء يحتاجون المُساعدة

«قدر. هما ضعفا ومش عارفين يأمنوا نفسهم، وأنا واحدة ربنا إداني قوة، استخسر بقى عافيتي في الناس؟» كان هذا هو المنطق الذي يُحرك «فرنسا» البطلة التي أدت دورها الفنانة المصرية عبلة كامل في فيلم :«خالتي فرنسا» موجهة حديثها إلى الفنان عمرو واكد الذي كان يُجادلها في عملها بلطجية، ومدى سوء ذلك العمل.

المنطق هذا هو نفسه الذي تراه «فوزية القرعة» -هذا هو اسمها المُتعارف عليه بين الناس، ترى فوزية، المرأة الخمسينية، أن كل شخص في الحياة لديه مهارة مُحددة خاصة به تُمكنه من العيش في الحياة والوصول إلى رزقه الذي قسمه الله له، البعض لديه العلم، والبعض الذكاء، والبعض سعة الحيلة وسرعة البديهة، كلٌّ لديه مهارة يتميز فيها، وتجعل الناس يحتاجون إليه فيها، والمهارة التي لدى فوزية هي «سلاطة اللسان».

«أنا بعرف ازاي أوجع بالكلام، في أوقات عصبيتي منذ طفولتي وصباي كنت أجعل صديقاتي يبكين حينما نتشاجر، وحينما كبّرت عرفت كيف أستخدم الشتائم أيضًا»، هكذا تقول فوزية لـ«ساسة بوست».

تقطن فوزية أحد الأحياء الشعبية، تزوجت في سن صغيرة للغاية، ربما كان عمرها على حد ما تتذكر 12 عامًا، لم تكن تعلم شيئًا عن العلاقة الزوجية، لكن زوجها الرجل الخمسيني كان يعلم، وعرف كيف ينال حقوقه الشرعية من تلك الطفلة منذ الليلة الأولى.

وحينما خافت وتملصت قليلًا ضربها، كان الأمر أشبه باغتصاب شرعي بمأذون وبموافقة أبيها، فقد توفيت أمها وتركت القرار فيها للوالد وحده، أذاقها الزوج الخمسيني كل معاني العنف والقسوة والإهانة على لا شيء وكل شيء.

في البدء كان الثأر

كانت الإهانة توجع فوزية أكثر من الألم الجسدي الذي يُسببه ضربه لها، في كل لحظة كانت تتمنى أن تضربه وتُهينه هي الأخرى حتى تثأر لنفسها، لكنه توفي قبل أن تتمكن من فعل هذا معه، ظلت تخافه لآخر لحظة في عمره، لم تكن تتجاوز 22 عامًا حينما وافت الزوج المنية، قررت ألا تعود إلى بيت والدها، أن تظل وحدها في بيت الزوج المتوفي بلا أولاد من ورائه، وقررت أيضًا أن تخرج للشارع وتُجيد لغته جيدًا و«تقوي عظامها» على حد قولها، حتى لا يتمكن أحد من ضربها مرة أخرى، فكانت فوزية القرعة.

فوزية البلطجية التي ذاقت القوة بعد مرارة الضعف، أعادت مهارتها القديمة في الإيلام بالكلمات وطورتها كثيرًا لكي تتمكن من حماية نفسها، والحصول على «لقمة عيش» دون المزيد من الإهانة، ففي هذه المهنة هي التي تتمكن من إهانة الناس.

مشاهير البلطجيات

لم تحظ عصمت أو فوزية بشهرة إعلامية كتلك التي حظيت بها «سكسكة» و«مجانص»، فقد كتبت عنهما الكثير من الصحف المصرية والمواقع الإخبارية، فـ«سكسة» هي «سكسكة المفترية» كما يُسميها أنصارها، والتي تقول عن عملها: «نحن فقط نُؤدب الظالمين، أي أننا محكمة تُصدر حُكمها وتنفذه سريعًا بدلًا من مماطلة المحاكم العادية التي يتوه فيها المواطنون، فمثلًا قد يطلب منّا شخص تأديب جار له لا يراعي حرمة الجيرة، ويؤذي جاره باستمرار، أو الانتقام من زوج مفترٍ يتجنى على زوجته ويعذبها دون داع».

أما «مجانص الدهل» فقد دخلت السجن في قضية مشاجرة أفضت إلى موت، وهي تحترف مهنة البلطجة «من أجل الخير».

كثير من النساء «المسجلات خطر» يجري استخدامهن للعمل بلطجيات، بل ويحصلن على قدر كبير من الشهرة ويزداد عدد زبائنهن أيضًا، فبالإضافة إلى سكسكة ومجانص هناك أيضًا: «شر الطريق» و«نفتالين بلية» و«مهبولة الشوارع» و«نجلاء اللوكس» وغيرهن.

يبنون الفيلات ويسكنون «العشش».. الحياة القاسية لعمال البناء في مصر

وبينما تدعي «شر الطريق» أشهر البلطجيات النسائية أنها تمارس عملها من أجل الخير، وإعادة الحق إلي أصحابه تعترف نفتالين بلية أنها معقدة من الرجال لدرجة أنها تنفذ المطلوب منها دون مقابل، بعد أن شاهدت والدها يضرب أمها ويعذبها دون سبب، كما أن الرجال يعايرونها بوجهها «العكر».

أشهر البلطجيات في السينما

تعتبر فايزة عبد الجواد أشهر الكومبارس الذين أدوا دور البلطجيات في السينما المصرية، والتي اكتشفها الممثل رشدي أباظة أثناء تصوير فيلم «تمر حنة»، وكانت من بين سكان المنطقة الذين يشاهدون تصوير الفيلم، وقد استغل المخرجون ملامح فايزة لتجسيد شخصية المرأة القوية القاسية التي تترأس نساء السجن، أو تكون جزءًا من عصابة في بعض الأفلام.

الصورة لفايزة عبد الجواد في أحد البرامج الحوارية- المصدر

اشتهرت فايزة عبد الجواد بحمل الموس في تمثيلها لمشاهد الشجارات، وكانت تُخرجه دائمًا عند تجسيد الخلافات الشعبية، واشتهرت أيضًا بأنها صاحبة «أعظم روسية في السينما المصرية» أي أنها كانت تضرب برأسها أثناء الشجارات.

فاطمة كشري- المصدر

الوجه الثاني هو «فاطمة كشري»، وقد اكتسبت اسمها الفني من مهنة مارستها وزوجها؛ فكانا يملكان عربة لبيع الكشري في شارع أحمد حلمي، وقد دخلت إلى عالم التمثيل حين صادفت في طريق منزلها تصوير أحد الأعمال الفنية وأعجبتها الفكرة؛ مما دفعها إلى محاولة التواصل مع مكتب كومبارس لبدء مشوارها.

المصادر

عرض التعليقات
تحميل المزيد