بعد شهور من انتهاج سياسة نقدية غير تقليدية في تركيا متمثلة في خفض سعر الفائدة بشكل متكرر، بدأ الرئيس التركي رجب طيب أردوغان بإطلاق إشارات قد تعني تحولًا كبيرًا في سياسات الاقتصاد التركي، وانتهاج خط آخر غير تقليدي، قد يواجه صعوبات جمة، ولكنه يحمل أيضًا – في حال القدرة على تحقيقه – إمكانات ضخمة للاقتصاد التركي.
أشار الرئيس التركي إلى أن سياسات تخفيض سعر الفائدة تأتي ضمن خطته لنموذج اقتصادي مختلف وجديد في تركيا، وأن تركيا لن تبيع نفسها لصندوق النقد الدولي، أو لأية مؤسسة أجنبية أخرى، فيما دعا الرئيسُ المستثمرين الأجانب إلى إقامة استثمارات طويلة الأجل، تضمن للاقتصاد التركي توسيع القاعدة الإنتاجية والخدمية، ونقل التكنولوجيا، وتوفير الوظائف، ودعم الاقتصاد التركي ككل، بخلاف ما اعتاد عليه كثير من المستثمرين الأجانب الذين طالما استفادوا من أسعار الفائدة المرتفعة في تركيا مقارنة بالدول المتقدمة لتحقيق أرباح سريعة على المدى القصير، مع ما يوفره ذلك من دعم لليرة التركية، وتوفير للمال الأجنبي للإقراض داخل تركيا.
في حال إنجاز هذا التحول في الاقتصاد التركي فإنه لن يحصل دون عقبات، لكن ما يجعله ممكنًا في نظر البعض هو أن تركيا راكمت مقومات في أعوامها الثمانية عشر الماضية تكفي للبناء عليها، ولكن التوجه لتدعيم الاقتصاد بعيدًا عن سطوة صندوق النقد لا يعتمد على القدرات المحلية فحسب، بل للعوامل الخارجية أثر كبير قد يعرقل مثل هذه التجارب.
التكامل مع الغرب.. الطريق السهلة للنمو
شهد الاقتصاد التركي في الثمانية عشرة عامًا الأخيرة هي مدة حكم حزب العدالة والتنمية نموًا اقتصاديًا كبيرًا؛ إذ تضاعف الناتج المحلي الإجمالي لتركيا 2.3 مرة خلال هذه المدة، وبنمو سنوي بمعدل 5.1%، مع احتساب الناتج المحلي الإجمالي لتركيا بأسعار السلع في عام 2015.
وكان سعر الفائدة المرتفع أحد أهم ركائز النمو في الاقتصاد التركي خلال الأعوام الثمانية عشر الماضية من حكم العدالة والتنمية، وهو ما يريد أردوغان اليوم الانقلاب عليه، في عملية التغيير الكبير الذي يسميها الرئيس التركي بـ«حرب تحرر اقتصادي» ويؤكد أن تركيا ستفوز فيها.
فقد كان سعر الفائدة في تركيا من أعلى أسعار الفائدة الحقيقية في العالم طوال فترة حكم العدالة والتنمية، رغم عمل حزب العدالة والتنمية على تخفيضها خلال بداية فترة حكمهم، فقد انخفض سعر الفائدة من 63% في عام 2002، حتى وصلت إلى 14% في منتصف عام 2006، دون أن تصبح منخفضة بالنسبة لغيرها من أسعار الفائدة في العالم، حتى بدأ البنك المركزي بضغط من أردوغان بتخفيضها ثلاث مرات خلال عام 2021، ليصبح سعر الفائدة الحقيقي سالبًا في تركيا في سبتمبر (أيلول) 2021، خصوصا مع كون معدل التضخم في تركيا مرتفعا جدًا، فكيف وصل الأمر إلى ما هو عليه الآن؟
بحسب بحث منشور من قبل جامعة برلين، لباحثَين تركيين، بعنوان «صناعة الأزمة الاقتصادية التركية 2018-2019» فإن الاقتصاد التركي مر بأربع مراحل حديثة: بدأت المرحلة الأولى مع تحرير الاقتصاد التركي بين عامي 1989-2001؛ والعام الأخير هو الذي شهد الأزمة المالية التركية، والتي ظهرت بالدرجة الأولى مع انهيار سعر صرف العملة الليرة التركية، والقطاع البنكي التركي، بالتزامن مع معدلات تضخم مرتفعة جدًا، وعلى إثر الأزمة نفذت الدولة التركية «إصلاحات اقتصادية» كبيرة استمرت بين عامي 2001-2008.
وشهدت المرحلة الأولى معدلات اقتراض مرتفعة من طرف الحكومة التركية، وبمعدلات فائدة مرتفعة، استفاد منها القطاع البنكي الخاص كثيرًا، والذي عمل وسيطًا بين السوق العالمية والمحلية، ولكن إعادة هيكلة الاقتصاد التركي التي بتدأت بعد عام 2001، واستمرت في عهد العدالة والتنمية، جعلت من الضروري للقطاع المالي التركي التوجه إلى قطاعات أخرى للعمل معها، مثل إقراض المستهلكين العاديين والقطاع الخاص المحلي بدلًا عن الاستفادة من إقراض الحكومة، فقد اتسمت الإصلاحات الجديدة بخفض أسعار الفائدة، التي تجاوزت 60% في عام 2002، ولكنها استمرت بالانخفاض طوال المرحلة الثانية من الاقتصاد التركي، والتي استمرت حتى عام 2008.
وقد مكّن انخفاض أسعار الفائدة القطاع المالي (البنوك ومؤسسات التمويل) في تركيا من فتح باب جديد بديل عن الاستفادة من الدين الحكومي، وهو باب إقراض المستهلكين الأتراك وعموم القطاع المحلي في تركيا.
منطقة الأعمال والمال في مسلك في ساريير باسطنبول
في المرحلة الثانية بدأ الاقتصاد التركي مرحلة التعافي من آثار المرحلة السابقة، وامتازت بارتفاع دين الأفراد، وصعود حركة تدفق رؤوس الأموال لتركيا نتيجة للإصلاحات الاقتصادية التي تمثلت بمنع استدانة الحكومة من البنك المركزي، وتحقيق استقلاله عن السلطة التنفيذية بشكل عام، وتحديد مهام البنك المركزي بالسيطرة على التضخم باعتبارها مهمة أساسية عبر تبني نظام استهداف التضخم.
ونجح البنك المركزي بسبب هذا النظام في السيطرة على التضخم، وتحقيق مصداقية للاقتصاد التركي أمام الأسواق العالمية، وتزامن ذلك مع ارتفاع أسعار الفائدة نسبيًا في تركيا، وبدء تدفق رؤوس الأموال إلى البلاد، بالتزامن مع تحرير سعر صرف العملة في عام 2001، واستمرت المرحلة حتى 2008 عام الأزمة المالية العالمية.
وجرى تطبيق هذه الإصلاحات بتوجيه من صندوق النقد الدولي، وجهات أوروبية أخرى، وساهمت في المجمل في تعافي الاقتصاد التركي وتخفيض مستويات اقتراض الحكومة التركية، وتدفق رأس المال الأجنبي إلى تركيا بفعل جاذبية أسعار الفائدة الحقيقية المرتفعة مع توسيع القطاع البنكي التركي أعماله ليشمل قطاعات أكثر وأكثر من الناس والشركات، فيما تمكنت الدولة من الإنفاق على قطاعات الرعاية الاجتماعية دون الحاجة إلى الاقتراض بشكل كبير من الخارج أو الداخل بسبب تحسن وضع الاقتصاد المحلي.
بينما تسببت الإصلاحات في المقابل في زيادة استدانة القطاعات الخاصة في تركيا (أفرادًا ومؤسسات) مع تسامح الحكومة مع اقتراض الشركات التركية بشكل مباشر من الخارج بالعملة الأجنبية، واقتراض البنوك التركية بالعملة الأجنبية لإقراض القطاع المحلي النامي، وقد توسعت الشركات في الاقتراض من الخارج، ولكن بحسب دراسة جامعة برلين، فإن الاقتراض اقتصر تقريبًا على الشركات التي تستطيع توفير مصادر دخل بالعملة الأجنبية، مثل عملها في مجال الصادرات.
وقد بدأت المرحلة الثالثة مع الأزمة المالية العالمية 2007-2009، وحتى بداية الأزمة الاقتصادية الحالية في عام 2018 والتي أضرت بالاقتصاد التركي، وبسببها حققت تركيا نموًا سالبًا لأول مرة منذ استلام العدالة والتنمية للحكم؛ إذ تسببت الأزمة في انكماش الاقتصاد العالمي، وامتنع المستثمرون عن صرف أموالهم في الأسواق المالية العالمية بما في ذلك تركيا، واستمرت حتى بداية الأزمة الاقتصادية الحالية في عام 2018.
وبسبب الأزمة المالية العالمية بدأت البنوك المركزية الغربية الرئيسة في تخفيض سعر فائدتها، لتصبح مقاربة للصفر، واستمر ذلك حتى عام 2015، فكان سعر الفائدة التركي المرتفع مغريًا للمستثمرين لنقل أموالهم إلى تركيا؛ مما زاد من قوة العملة التركية، وسهّل الوصول إلى التمويل الأجنبي من قبل البنوك الشركات التركية؛ إذ توسعت الدولة أكثر في السماح للشركات بالاقتراض بالعملة الأجنبية، وأصبحت الكثير من الشركات غير المالية تقترض من الخارج بالعملة الأجنبية، حتى وإن لم يكن لها مصادر دخل بالعملة الأجنبية التي تقترض بها.
لماذا لا يمكن أن يستمر النمو عبر الاقتراض إلى الأبد؟
اعتمد الاقتصاد التركي بعد عام 2001، على عدة عوامل داخلية وخارجية تتلخص في الإصلاحات الاقتصادية والتمويل الأجنبي للقطاع الخاص، في ظل سعر فائدة مرتفع نسبيًا عن سعر الفائدة في الدول الغربية، وفي المرحلة الثانية (من 2001-2008) ظل البنك المركزي التركي يخفض سعر فائدته تدريجيًا، ولكن أسعار الفائدة بقيت مرتفعة مقارنة ببقية الاقتصادات المتقدمة، ووسع القطاع البنكي التركي من إقراضه للجهات الخاصة المحلية، وفي المرحلة الثالثة ساهمت إجراءات البنوك المركزية الغربية التي خفضت سعر فائدتها إلى الصفر في تمكين تركيا من تخفيض سعر فائدتها أكثر، مع بقائها جذابة للمستثمرين بالمقارنة بأسعار الفائدة في الاقتصادات الرئيسة.
ولكن ومع انحسار آثار الأزمة المالية العالمية، وبدء البنوك المركزية الغربية في رفع أسعار فائدتها، بدأت الفجوة تضيق بين سعر الفائدة التركي وسعر الفائدة في الدول الغربية الرئيسية، ولاستمرار النمط الاقتصادي الحالي كان على البنك المركزي التركي أن يتخذ خيارًا من اثنين:
أن يرفع سعر فائدته أكثر، مضخما بذلك عبء الدين على القطاعات المحلية، أو ألا يستجيب لرفع أسعار الفائدة في الغرب، ويخاطر ببدء تدفق رؤوس الأموال إلى الخارج؛ ما يعني انخفاض قدرة الشركات والبنوك التركية على الوصول إلى التمويل الأجنبي، وبدء بيعهم لليرة التركية، وبفعل زيادة عرض العملة التركية فإن سعرها سينخفض، كما هو مستمر حتى الآن منذ عام 2018، ولكون الاقتصاد التركي يستورد أكثر مما يصدر، فإن ذلك يعني أيضًا ارتفاع التضخم بسبب ارتفاع سعر المستوردات.
ولكن وبسبب اعتماد النمط الاقتصادي القديم على الخارج، وعلى ضرورة استمرار وضع تخفيض الفائدة الاستثنائي في البلدان الغربية، فإن انتهاء نجاح هذا النمط الاقتصادي أمر محتوم بصرف النظر عن الخيارات الاقتصادية للدولة التركية، لذا في الفترة الأخيرة اختار الرئيس التركي أردوغان الخيار الثاني، وبدأ بالضغط على البنك المركزي التركي لخفض سعر فائدته، رغم الضرر الكبير الذي ألحقته هذه السياسة بالاقتصاد المحلي، خصوصًا فيما يتعلق بمعدل التضخم المرتفع جدًا والذي بلغ 21%، وكذلك انخفاض قيمة العملة التركية، التي كان يساوي 7.44 ليرة منها دولارًا واحدًا، فأصبح 13.8 منها يساوي دولارًا واحدًا اليوم.
يراهن الرئيس التركي على أن معدلات التضخم ستنخفض مع الوقت، وأن سعر الفائدة المنخفض سيخفف من أعباء الديون الحالية على الاقتصاد التركي، وسيرفع النشاط الاقتصادي في البلاد، ويحفز الكثيرين على استثمار أموالهم بدلًا عن إيداعها في البنوك، ويحفز النشاط الاقتصادي عن طريق تخفيض كلفة الاقتراض، الذي سيعني طلبًا أكثر على السلع محليًا، واستثمارات أكثر ممولة بدين أرخص، مع إشارات على تغيير شامل للنمط الاقتصادي في تركيا.
البحث عن جزيرة في محيط النيوليبرالية العالمية
في عام 2003 عند استلام حزب العدالة والتنمية للحكم في تركيا كانت صادرات تركيا أكثر بقليل من 100 مليار دولار، لتتضاعف 2.2 مرة، وتصبح في عام 2020 بقيمة 226 مليار دولار، أما مستوردات تركيا فقد بلغت في عام 2003 نحو 111 مليار دولار، وتضاعفت بنفس المقدار تقريبًا، لتصبح 249 مليار دولار في عام 2020.
وتعتبر تركيا إحدى نماذج نجاح النمو المدفوع بالتصدير إلى الخارج، رغم كونها ما تزال تستورد أكثر مما تنتج، وتعاني من ميزان تجاري سالب؛ مما يعني ضرورة مراكمة دين بالعملة الأجنبية لتمويل المستوردات التي تفيض عن صادرات البلد، كذلك فإن القطاعات التصديرية التركية تعتمد على استيراد مواد أولية ووسيطة لإتمام المنتجات التي تُصدّرها لاحقًا.
وفي هذا الإطار لا يمكن أن تُخفض تركيا من كمية استيرادها من الكثير من أنواع المواد الأولية (مثل الحديد) والوسيطة وذلك لعدم توافرها في تركيا، ولكن ذلك لا يعني أن نسبة ما تكونه المستوردات من إجمالي صادرات تركيا لا يمكن أن يقل مع الزمن، ويحتاج ذلك إلى تطور الصناعات التركية ورفع جودتها وقيمتها، وزيادة اعتمادها على التكنولوجيا المتقدمة؛ ما يعني ارتفاع القيمة المضافة لهذه الصادرات، وارتفاع قيمتها وكثافتها بالمجمل يعني انخفاض نسبة ما تكونه المستوردات منها.
وتعد الصادرات إحدى ركائز الاقتصاد التركي وتتوجه بالدرجة الأولى إلى الدول الغربية ذاتها، وتحديدًا دول الاتحاد الأوروبي، فتصدر تركيا إلى دول الاتحاد الأوروبي والولايات المتحدة الأمريكية أكثر من 40% من صادراتها، ولكن وعلى فرض أن كل صادرات تركيا تذهب إلى الاتحاد الأوروبي وحده؛ دون احتساب الولايات المتحدة الأمريكية، فإن القيمة الكلية لصادرات تركيا لن تتجاوز 10% من مستوردات الاتحاد، وبالتالي فإن الدول الأوروبية تستطيع استبدال الصادرات التركية بغيرها من المصادر بسهولة، ورغم أن ذلك قد يعني زيادة التكلفة، فإن أثر هذه الزيادة لا يقارن بشكل من الأشكال مع أثر توقف الدول الأوروبية عن الاستيراد على تركيا.
أيضًا لكون الصادرات التركية فيها درجة من الاعتماد على المستوردات، فإن الاقتصاد التركي معتمد أيضًا على الدول التي يستورد منها، وعلى رأس هذه الدول ألمانيا، تليها الصين وروسيا، ثم الولايات المتحدة الأمريكية وإيطاليا، وتحتل بقية الدول الأوروبية حصة كبيرة من سوق التصدير إلى تركيا.
ويعني ذلك أن النمو الذي تحقق في تركيا كان شكلًا من أشكال الاعتمادية على الغرب، عبر معدلات الفائدة المنخفضة والسوق الجاذبة لرؤوس الأموال المضاربة، والتي تهتم بالأجل القصير، وهي رؤوس أموال غربية بالدرجة الأولى، وكذلك التصدير للأسواق الغربية، وبالتالي لعبت تركيا دورًا مكملًا للاقتصادات الغربية، فهي من ناحية سوق لاستثمار الأموال الفائضة عن طريق سعر فائدة مرتفع، ومن ناحية أخرى تحولت إلى موطن لإنتاج مواد رخيصة نسبيًا يجري تصديرها لدول أوروبا بدلًا عن إنتاجها في أوروبا بتكلفة أغلى.
وبالتالي حققت تركيا مكاسب جمة ضمن ما تسمح به النيوليبرالية لدولة مثلها بأن تصل اقتصاديًا، لكن على الرغم من أن البلاد استفادت من هذه الاعتمادية في السابق، فإن استمرارها لم يكن ممكنا، كما أن ميل ميزان القوى لصالح الغرب جعل الرئيس التركي يفكر في نمط اقتصادي آخر لا تملك الدول الغربية كل أوراق التأثير على أنقرة فيه بينما لا تمتلك تركيا أسلحة بنفس الأهمية مقابل الغرب.
ولكن الاتجاه الذي تتجه إليه البلاد حاليًا لا يعني الانغلاق على الداخل، أو قطع العلاقات مع الخارج (الاتحاد الأوروبي والولايات المتحدة الأمريكية بالتحديد) بل تغيير النمط الاقتصادي؛ بحيث تتعمق القاعدة الصناعية للاقتصاد، ويزيد اعتماد الاقتصاد المحلي على نفسه، مع مزاوجة ذلك مع نوع مختلف من الاستثمار الأجنبي طويل المدى.
وتنبئ إشارات الرئيس التركي عما يعتبره مؤيدي خطته «حرب التحرر الاقتصادي التركي»، ودعوة المستثمرين الأجانب إلى الاستثمار طويل الأجل في تركيا، بعد تحقيق البلد لمعدلات نمو مرتفعة خلال السنوات السابقة، وتحديدًا معدلات النمو التي يتوقع تسجيلها في عام 2021، ويتوقع أردوغان ألا تقل عن 10% خلال العام الحالي، دون احتساب أثر التضخم أو نقصان العملة، لكن إذا جرى احتساب الناتج المحلي الإجمالي لتركيا بالسعر الحالي للدولار الأمريكي، فإن معدلات النمو المتوقعة ستكون أقل بكثير.
ويرغب الرئيس التركي في التخلي عن الاستثمار قصير الأجل، المرتبط بسعر الفائدة العالي، وبالتالي رؤوس الأموال المضاربة التي من السهل أن تخرج من البلد عند اختلاف الظروف، في وقت يسعى فيه لاستقطاب استثمارات طويلة الأجل، تستثمر بشكل مباشر في القاعدة التصنيعية لتركيا – على سبيل المثال، أو في غيرها من القطاعات المنتجة والخدمية؛ مما يرفع من معدلات النمو والتوظيف، ويقلل من مخاطر تذبذب هذه الأموال.
وتشير تدخلات البنك المركزي التركي في الأسابيع الأخيرة في سعر الصرف، واستخدامه لاحتياطياته من العملة الأجنبية لمحاولة الحفاظ على سعر العملة ورفعها، إلى إمكانية تخلي تركيا عن نظام سعر الصرف المعوم بالكامل، والاتجاه نحو سعر صرف معوم مُدار، بحيث يمكن للبنك المركزي أن يحدد سعر العملة في السوق، طالما أن ذلك لا ينتج هزات عنيفة قد تفضي إلى صدمة اقتصادية كبيرة، وهو نظام سعر صرف استخدمته تركيا بين عامي 1994-1999.
وحتى اللحظة لم تعلن القيادة التركية خطتها بشكل كامل بشأن تغيير نمط الاقتصاد التركي، ولكن المؤشرات توحي بإمكانية التوجه إلى الداخل أكثر، والاعتماد على إمكانيات الاقتصاد التركي المحلية، والتركيز على مؤشرات النمو والتوظيف، والرهان على انخفاض معدلات التضخم لاحقًا؛ دون توضيح آلية محددة للعمل على تخفيضه، خصوصًا أن جزءًا كبيرًا من التضخم الحالي مرتبط بانخفاض سعر العملة الذي يعني ارتفاع أسعار المستوردات.
وفي هذا السياق يرغب الرئيس التركي في جذب نوع آخر من الاستثمار الأجنبي، يشبه ما تجتذبه الصين من استثمارات تدعم القاعدة الصناعية فيها، وقد تحتاج تركيا مع هذا التوجه إلى تطبيق سياسات مُقيّدة لحركة رؤوس الأموال؛ وخصوصا الخارجة من تركيا، وهي سياسات تبنتها ماليزيا عقب أزمة 1997، إذ حدت من خروج رؤوس الأموال من البلد، دون أن تعبأ بتوجيهات صندوق النقد.
حدود الجنوج.. تركيا في صراع المركز والأطراف
لا تكتفي بعض نظريات التنمية الاقتصادية بدراسة المؤشرات الاقتصادية التقليدية فحسب، بل تتجاوز ذلك إلى دراسة علاقات السلطة والقوة بين دول العالم، بينما ترى النظريات التي تتبنى مبدأ السوق الحر ألا قيود على التنمية في دولةٍ ما، وأنّ عدم حصول التنمية في أي بلد يرجع إلى عوامل داخلية ثقافية أو اقتصادية، وأن التنمية في دول العالم الثالث مسألة وقت وتبن للنموذج الاقتصادي الليبرالي وحسن إدارة له، وأنه في حال فعل ذلك فإن البلد ستصبح متقدمة لا محالة.
على جانب آخر ترى مدارس اقتصادية وسياسية أخرى مثل نظرية التبعية أن الدول المتطورة لا مصلحة لها في السماح بالتنمية في دول «الأطراف» أو «الجنوب» أو «العالم الثالث»، وأن دول العالم الأول سبب مهم في منع تحقق التنمية في البلدان النامية، وإعادة إنتاج حالة التخلف فيها بشكل مستمر.
وبهذا المنطق فإن من الضروري جدا للدول النامية إن أرادت الخروج من حالة التخلف، أن تسمح لها دول المركز بذلك، وقد نجحت في ذلك كثير من الدول التي سمح لها المركز بالتطور والتنمية ضمن نطاق مصالحه؛ مثل الدول الآسيوية التي أصبحت «مصنع العالم» ضمن الحدود التي رسمها لها الغرب، والتي استغلتها بلد مثل الصين في فترة ما، حتى خرجت عن هذه الحدود فبدأت الحرب التجارية والاقتصادية.
وهناك مسار آخر لإدارة الدول النامية علاقاتها مع الغرب يتمثل بالتصادم مع المركز، وفرض التطور رغما عنه، لكن أغلب الدول التي اعتمدت الصدام الكامل مع الغرب لم تنجح في تحقيق أهداف التنمية الاقتصادية، إلا بحدود ما يسميه المفكر المصري الاقتصادي سمير أمين «التنمية الرثة».
ورث حزب العدالة والتنمية في تركيا اقتصادًا يعيش في حالة أزمة متكررة كان آخرها أزمة مطلع الألفية الحالية، ورغم ذلك تمكن الحزب من تحقيق إنجازات اقتصادية، وقطع الاقتصاد التركي أشواطًا كبيرة بالمقارنة مع دول ناشئة أخرى؛ فعلى سبيل المثال كان حجم الصادرات التركية والمصرية متساويًا في مطلع الثمانينات، بحدود 7 مليارات دولار، ولكن الصادرات التركية في عام 2003 كانت تساوي أربعة أضعاف الصادرات المصرية في نفس العام، إذ بلغت الصادرات التركية 72 مليار دولار، بينما بلغت صادرات مصر 17.5 مليار دولار.
ويقول سمير أمين عن دور تركيا سابقًا في السياسة والاقتصاد العالميين، إن تركيا لم تكن في يوم من الأيام متصادمة مع المركز الغربي، بل كان لها دول مهم في السياسة الغربية؛ وخصوصًا في استراتيجية الحرب الباردة مع الاتحاد السوفييتي، ما أعطاها دورًا في الاقتصاد العالمي سمح بدرجة أعلى من التطور والتنمية مقارنة بما شهدته دول أخرى، مثل مصر، ويرى أمين أن هذا الدور لم يتغير بشكل جذري حتى عام 2015، إذ لا تزال تركيا عضوًا في حلف الناتو، ومرشحة لدخول الاتحاد الأوروبي؛ وإن انخفضت حظوظها كثيرًا عما سبق.
لكن التغييرات الأخيرة في الاقتصاد التركي، قد تفضي إلى احتمالية خروج تركيا عن دورها التاريخي في الاقتصاد والسياسة، وبدء مسار صدام أكثر حدة مع المركز الغربي، والولايات المتحدة خصوصا، ودورًا أكبر للدولة التركية في الاقتصاد، في انقلابٍ على إرث التحرير الاقتصادي السابق، لتحقيق أهداف التنمية التي لا يمكن تحقيقها دون دور كبير للدولة.
علامات
اقتصاد, الاقتصاد التركي, الصادرات, تركيا, تنمية اقتصادية, حرب اقتصادية, سعر الفائدة, سمير أمين, نمو اقتصادي