حراك كبير حول العالم تسبب به وسم «ME-TO» بعد أن بدأ في الولايات المتحدة الأمريكية، كان الوسم قد شهد تفاعلاً كبيرًا على موقع «تويتر» ثم سرعان ما انتقل إلى «فيس بوك» و«إنستجرام» لتشارك فيه نساء كثر حول العالم بقصصهنّ حول ما تعرّضنَ له من تحرُّش في محاولةٍ حقيقيةٍ لوضع حقيقة تعرُّض النساء في مختلف الأماكن حول العالم للتحرش، وإيجاد حلول لمواجهة هذه المشكلة عبر الجهود الفردية والمجتمعية والقانونية. الوسم بدأته الممثلة الأمريكية «أليسا ميلانو» عبر تغريدة كتبت فيها «إذا تعرضت أيضًا لتحرش أو اعتداء جنسي اكتبي: أنا أيضًا، كرد على هذه التغريدة».
الأمر المفاجئ في الوسم أنه سمح للعديد من النساء أن يتحدثن عن حوادث التحرش التي تعرضنَ لها منذ سنواتٍ طويلة تصل إلى عشرات السنين، كانت الضحية الكبرى الأولى لهذه المكاشفات هي المخرج السينمائي بهوليوود «هارفي وينشتاين» الذي واجه العديد من الاتهامات من ممثلات كثيرات أخبرن أنه قد تحرش بهنّ في فترات مختلفة من مسيرتهن الفنية. سرعان ما سقطت بعد ذلك شخصيات كبرى مثل الممثل الكوميدي الشهير «بيل كوسبي» وصانع الأفلام «رومان بولانسكي» إضافة إلى الرئيس الأمريكي «دونالد ترامب».
لماذا كل هذا الوقت للإبلاغ عن التعرض لاعتداء؟
كانت فكرة صمت النساء والفتيات لفترات طويلة قد تصل إلى عشرات السنين، قبل أن يعترفن بأنهن قد تعرضن للتحرش غريبة ومبهمة، إلى أن ظهر تفسير يمكن استيعابه عبر النقاشات التي تمت خلال الوسم. النظرية التي فسرت هذا السلوك هي فكرة أن المبلِّغة الأولى عن التحرش ستكون عرضة لأن تصبح ضحية مخاطر كثيرة يمكن أن تواجهها، خصوصًا عندما يكون المتحرش شخصًا ذا سلطة أو مشهورًا مثل ترامب أو هارفي وينشتاين، ربما تصل الأمور إلى مواجهة دعاوى تشهير في القضاء بسبب طبيعة حوادث التحرش التي تفتقر في معظم الأحيان إلى دليل مادي. الأمور يمكن أن تسوء أكثر إذا كانت هذه الضحية هي الوحيدة التي أبلغت عن تحرش واتهمت ذلك الشخص.
هذه المعضلة كانت بحاجة إلى حل ذكي ومناسب. التقط «إيان آيريس» الخبير الاقتصادي في جامعة ييل، هذا الخيط ليقدم حلًّا جديدًا لهذه المشكلة التي تجعل الإبلاغ عن التحرش أمرًا في غاية الصعوبة بالنسبة للضحية. فكرة إيان كانت تطبيقًا إلكترونيًا يقوم بتسجيل الاعتداءات الجنسية بشكل مشفَّر وسرّي، ولا يتم إعلان هذا الاعتداء إلا عندما تقوم على الأقل ضحية أخرى باتهام الشخص نفسه بالتحرش، فيقوم التطبيق برصد تطابق المعتدي الجنسي في البلاغين ويقوم بإعلان الأمر. يقول آيريس: «يتردد الناجون من التحرش في أن يكونوا أول من يتهم شخصًا معينًا بالاعتداء الجنسي، والدليل على ذلك حولنا دائمًا. لكنك عندما تعلمين أن هذا حدث لأناس آخرين، تكونين أكثر ثقة بأن ترفعي دعوى واتهامًا ضد الشخص المعتدي. كذلك هناك أسباب كافية لتصديق أن كثيرًا من المعتدين جنسيًا، يكررون اعتداءاتهم».
«كاليستو» .. الأمل الجديد لضحايا الاعتداءات الجنسية
بدأت فكرة آيريس في الخروج إلى العالم الحقيقي عام 2015، عندما ساهم في تطوير ذلك التطبيق المسمى «كاليستو»، الذي يستخدم للإبلاغ عن حالات التحرش الجنسي في نطاق الجامعات، ويتمنى أن تنتشر حول العالم لتكون سيف النساء والفتيات في إيقاف المعتدين مع حفظ أمانهنّ الشخصيّ من سطوة المعتدي. كاليستو يقوم بتحقيق اتصال بين من تعرّضن للاعتداء من الشخص نفسه، ويساعدهم لجمع دعاواهم معًا وإبلاغ الشرطة. كاليستو يستخدم حاليًا في بعض الجامعات الأمريكية ويعمل فريق المشروع على انتشاره سريعًا حول العالم.
سجل كاليستو في فتراته الأولى نجاحًا جيدًا، ذلك حيث أظهر التطبيق أن 15% من الاعتداءات قد وجدت تطابقًا للشخص المعتدي نفسه حتى الآن. تقول بيانات التطبيق كذلك أن مستخدميه يأخذون أقل من نصف الوقت اللازم لإبلاغ الشرطة وتقديم البلاغات، حوالي أربعة أشهر. هكذا يحقق التطبيق نجاحًا على مستويات مختلفة نفسيًّا وقانونيًّا بالنسبة لضحايا التحرش الجنسي.
يحاول «كاليستو» الخروج بحل للمشكلة منسوج من رؤية لها أساس علمي وآخر اجتماعي، وبين الأساسين ترابط ما. الأساس الأول وهو الحقيقة التي تحدث عنها آيريس، وهي أن معظم المعتدين جنسيًا يقومون بتكرار فعلتهم، هذه النتيجة توصلت إليها دراسة نُشرت في عام 2002 لـ «دافيد ليساك» الأستاذ في جامعة ماساتشوستس بمدينة بوسطن الأمريكية، والتي تناول فيها الشكل الأكثر تطرفًا من بين الاعتداءات الجنسية وهو الاغتصاب، حيث وجدت الدراسة أن ما نسبته بين 64% و96% من المغتصبين لا يتم الإبلاغ عنهم للسلطات القضائية والشرطية. الأساس الثاني للحل الذي يقدمه «كاليستو» هو المنظور الاجتماعي والقانوني لمواجهة الاعتداءات الجنسية ضد النساء، والذي يعتبره بعضهم غير منصف للضحايا، لاعتبارات مختلفة منها صعوبة الإجراءات المطلوبة لإقامة دعاوى ضد المعتدين.
الطريقة الآمنة للإيقاع بالمتحرش صاحب السلطة
تؤمن «جيسيكا لاد» المدير التنفيذي لشركة كاليستو، أن النساء الناجيات من حوادث الاعتداءات الجنسية يتوقن لمشاركة المواقف السيئة التي تعرضن لها، وأن التعامل الصحيح مع هذه القضية يكمن في توفير طريق آمنة لفعل ذلك، وإعطائهم كذلك أسبابًا جيدة لفعل ذلك. تقول جيسيكا: «تشارك القصص من هذا النوع لا يجب أن يتم في العلن كما حدث في حالة كوسبي. لا يجب أن تكون الناجيات بحاجة لإخبار العالم أجمع بما حدث لهن لكي يحصلن على العدالة، أو لاكتشاف ما إذا كن الوحيدات اللاتي تعرضن لهذه الأمور السيئة من الشخص نفسه. عندما يعلمن بأن الضحايا الأخريات، يكون عادة عاملاً رئيسًا في اتخاذهن قرار تقديم البلاغ للسلطات القانونية أو تجاهل هذا القرار».
كذلك، ترى جيسيكا أن كاليستو قد نجح في تلبية احتياج الضحايا لأن يمتلكن حق التحكم في المعلومات التي يدلين بها والخيارات التي يتخذنها. الطريقة التي ستحقق ذلك هي خلق نظام يستقبل البلاغات بكامل تفاصيلها والمواعيد التي تمت فيها بسرية تامة، حيث لا يستطيع مطورو النظام أو مديروه، أو حتى السلطات الشرطية الاطلاع عليه. سيكون قرار توجيه الاتهام للسلطات القضائية، أو فقط تسجيل الشكوى على النظام هو قرار الضحية بشكل حصري. كذلك سيكون لدى الضحايا الخيار في جعل التقارير الخاصة بهم تُقدم كدعاوى قضائية مباشرة بعد تقديم أي ضحية أخرى تقرير يفيد تعرضها للاعتداء من الشخص نفسه، هذا الخيار سيكون عاملاً مهمًا في تشارك الخبرات التي من شأنها أن تجعل تقديم الدعاوى القضائية أقل ضررًا.
أسباب أخرى للرهان على «كاليستو»
كانت إحدى التحديات المهمة التي يجب على كاليستو مواجهتها هو إثبات فاعلية المبدأ الذي يتبناه التطبيق ويحاول نشره للمساهمة في الكشف عن الاعتداءات التي لا تخرج إلى العلن بسبب الخوف من العواقب الاجتماعية؛ فكرة «أنتِ لستِ وحدك» أثبت نجاحًا كبيرًا، وللمفارقة لم يكن كاليستو هو السبب في ذلك، لكن الفضيحة العالمية التي كان بطلها صانع الأفلام «هارفي وينشتاين» كانت المحرك الرئيس لإثبات فعالية هذه الفكرة. طبقًا لأكبر مؤسسة في الولايات المتحدة لمكافحة الاعتداءات الجنسية، فإن الخط الساخن الخاص بها لتلقي الشكاوى الخاصة بالاعتداءات الجنسية قد تلقى مكالمات أكثر من المعتاد بنسبة 21% بعد انتشار الادعاءات الخاصة بقضية هارفي وينيستون، وما أثارته من نقاشات على مواقع التواصل الاجتماعي.
هذه الزيادة الملحوظة في البلاغات المقدمة من ضحايا الاعتداءات الجنسية تضمن درجة مقبولة من نجاح فكرة كاليستو، حيث لم تكن قضية هارفي هي الوحيدة التي أدت إلى هذا الارتفاع الملحوظ في البلاغات التي تستقبلها مؤسسة مكافحة الجرائم الجنسية. تقول «جودي أومير» نائبة رئيس شبكة «RAINN» المختصة بمواجهة جرائم العنف الجنسي، أن هذا الارتفاع الكبير في الشكاوى التي تتلقاها الشبكة يحدث في كل مرة تثار فيها القضية بشكل مجتمعي بعد اتهام شخصية مهمة في المجال العام. من هنا يمكن لكاليستو توفير هذا المناخ الذي يسمح لجميع الضحايا في كل الأوقات بمشاركة مواقفهم وشكاواهم، بدلاً من انتظار مثل هذه القضايا الكبرى لتكون فرصتهم الوحيدة للحديث والشكوى.
تحديات تقاوم مستقبل «كاليستو»
لا تتوقف الاعتداءات الجنسية بالطبع على أماكن أو بيئات محددة، طبقًا لهذه الرؤية تخطط جيسيكا لتوسيع دائرة المهتمين بكاليستو لتكون أكبر ما يمكن. تستهدف جيسيكا كذلك مؤسسة القوات المسلحة الأمريكية لدفع التطبيق للعمل بين صفوف أفرادها. ترى جيسيكا أن كاليستو سيكون قادرًا على حل مشكلة الاعتداءات الجنسبة داخل الجيش الأمريكي، والتي وصلت إلى الحد الذي استدعى الأمم المتحدة للتدخل.
اقرأ أيضًا: حقائق جنسية صادمة عن الجيش الأمريكي «الأقوى في العالم»
هذه المؤشرات التي تنبئ بنجاح متوقع لكاليستو بالمساهمة في مكافحة هذه النوعية من الجرائم، التي لا يتلقى مرتكبوها في الغالب أي عقوبة، لا يجب أن تدفعنا لغض الطرف عن السلبيات الممكنة للتطبيق. كاليستو لن يكون مفيدًا بشكل كبير إذا قام شخص بالتحرش أو اغتصاب امرأة واحدة فقط. كذلك لن يكون النظام الخاص بالتطبيق منيعًا ضد الأشخاص الراغبين في الانتقام بتقديم بلاغات كاذبة لإيقاع أحدهم في المشاكل. فمن السهل أن تتفق مجموعة من فتيات الجامعة ضد زميل لهم لابتزازه بأي طريقة.
بحسب آيريس، فإن التطبيق مصمم ليساهم بشكل أكبر في مكافحة الجرائم التي تكون فيها الضحايا عاملات، حيث سيكون بشكل عام المنفعة المتحققة خلال التطبيق أكثر مما يمكن أن يحدثه من ضرر. ففي المواقف التي تكون فيها الضحية أقل سلطة من الجاني سيكون كاليستو وسيلة ناجعة للوقوف أمام المعتدي. يمكننا إدراك أهمية هذه النقطة عندما نقرأ التقرير الصادر عام 2016 عن منظمة «هيومن رايتس ووتش» الذي يشمل دراسة تثبت أن السيدات في أماكن العمل عرضة أن تنال انتقام 12 مرة أكثر من أن ترى المعتدي ينال عقابه بشكل عادل. إنها دراسة مزعجة إلى الدرجة التي تجعل من وجود كاليستو أمرًا حيويًا للغاية.
هذه الحقائق يجب أن تدفع كاليستو نحو مزيد من التطوير ووضع الحلول للمشاكل المقترحة في الوقت الحالي. ترى جيسيكا أن التطبيق ما يزال في مراحل التطوير، وأنه يمكن أن يحقق الكثير من النجاح في وضع حلول لهذه المعضلة بشرط الحصول على الكثير من الدعم بالوسائل الممكنة.