«ما قد تفشل في تحقيقه بسياسة العقوبات حاول تحقيقه بالمزيد من العقوبات»، تبدو هذه هي القاعدة الذهبية التي تحدد ملامح السياسة الأمريكية ضد الخصوم في عهد بايدن، فالإدارة الأمريكية الجديدة يبدو أنها كشرت عن أنيابها، واتبعت سياسة التحدي ضد الخصوم، وفي مقدمتهم الدب الروسي الذي لا يكاد يمر يوم دون الحديث عن تهديد بعقوبات أمريكية ضده. 

العقوبات الغربية في مواجهة «الاستفزاز» الروسي

في مارس (آذار) 2014، وعلى إثر سلسلة من الاحتجاجات الشعبية التي انتهت بعزل الرئيس الأوكراني الموالي لروسيا فيكتور يانوكوفيتش، وتنصيب حكومة موالية للأوروبيين، قرر الرئيس الروسي فلاديمير بوتين رد الصفعة للأوروبيين، عبر تنظيم ما وصف في الصحافة الغربية بـ«أسلس عملية غزو في التاريخ الحديث»، والتي انتهت بسيطرة الروس على شبه جزيرة القرم التي تقع جنوبي الأراضي الأوكرانية، ويفصلها عن روسيا من الشرق مضيق كيرش.

بين فبراير (شباط) ومارس من العام 2014، انتقل الجنود الروس ومتطوعين من قوات الاحتياط الروسية فضلا عن متطوعين متحمسين، إلى القواعد العسكرية الروسية في القرم، والتي كان يسمح لروسيا بتملكها في المنطقة طبقًا للاتفاقيات الموقعة بين الجانبين، إذ كانت القرم كانت تتمتع بحكم ذاتي، ويشكل الروس أغلبية السكان فيها. ارتدى هؤلاء الجنود والمتطوعين الزي العسكري للجيش والشرطة الأوكرانية، أو بزات عسكرية لا تحمل أي شارات روسية، وبعضهم ارتدى ملابس مدنية، وفي هدوء تام تمت السيطرة على المعابر، والمباني الرئيسة، ومعسكرات الجيش الأوكراني.

أعقب ذلك إجراء استفتاء تمخض عن إعلان انفصال شبه جزيرة القرم عن أوكرانيا، وضمها إلى الاتحاد الروسي، كانت الخطوات الروسية سريعة ومفاجأة، بالإضافة إلى تصاعد هجمات الانفصاليين المدعومين من روسيا في شرق أوكرانيا، وفرضت أمرًا واقعًا لم يستطع الأمريكيون والأوروبيون مجاراته في الميدان، فلجأ الغرب إلى سلاح آخر على أمل كبح جماح موسكو، وهو سلاح العقوبات الاقتصادية.

 

منذ مارس 2014، قامت الولايات المتحدة الأمريكية والاتحاد الأوروبي، وبعض الدول الحليفة مثل كندا واستراليا، والمؤسسات والهيئات الدولية بفرض عقوبات ذات طابع اقتصادي على شخصيات وهيئات روسية، فيما اعتبر أكبر حزمة عقوبات غربية ضد موسكو منذ انتهاء الحرب الباردة بانهيار الاتحاد السوفيتي عام 1991. 

شملت العقوبات حظر منح التأشيرات، وحظر المعاملات المالية على عشرات المسؤولين ورجال الأعمال الروس، من بينهم مقربين من الرئيس فلاديمير بوتين، فضلًا عن حظر تصدير الأسلحة إلى موسكو، وإيقاف التعاون في الجوانب التقنية مع روسيا في التقنيات التي يمكن أن تستخدم لأغراض عسكرية، وقد أعلن الاتحاد الأوروبي أن الهدف الرئيس من العقوبات هو «إحداث تغيير في السياسة الروسية»، وأنه يبذل قصارى جهده «لتفادي تأثير تلك العقوبات على المدنيين أو الأنشطة المشروعة».

كما تم حظر التعاون مع عدد من الشركات الروسية العاملة في مجال الطاقة (من بينها شركة النفط الرئيسية في البلاد)، وحظر التعامل بالأوراق المالية لعدد من المصارف الروسية الأساسية، كما فرض الاتحاد الأوروبي حظرًا على استيراد البضائع التي يعود مصدرها إلى شبه جزيرة القرم أو الأراضي المتنازع عليها.

العقوبات الغربية ضد روسيا.. هل «تُسمن أو تغني من جوع»؟

لم ترفع روسيا الراية البيضاء، ولم يجثُ بوتين على ركبتيه طالبًا الصفح من الأمريكيين والأوروبيين بعد سلسلة العقوبات المذكورة، بل قررت موسكو مواصلة التحدي، ففرضت عقوبات مماثلة على شخصيات غربية، من بينها المتحدث باسم الكونجرس الأمريكي، والسيناتور جون ماكين، ومستشارين مقربين من الرئيس الأمريكي، كما مُنع مسؤولون أوروبيون وكنديون من زيارة موسكو، كما تم فرض حظر على استيراد المواد الغذائية والزراعية من الدول التي شاركت في العقوبات ضد روسيا، التي كانت تعد من أكبر المستوردين للأغذية والمنتجات الزراعية الأوروبية.

اليوم وبعد أكثر من سبع سنوات من العقوبات الغربية على روسيا، تنقسم آراء المحللين الغربيين بشأن مدى فعالية تلك الإستراتيجية في تحقيق الأهداف المرجوة منها. يدافع البعض عن تلك السياسة بأن الاقتصاد الروسي قد تعرض لضربات موجعة، إذ تشير تقديرات «صندوق النقد الدولي» إلى تباطؤ معدل نمو الاقتصاد الروسي نتيجة العقوبات بقيمة 0.2 % سنويًا بين عامي 2014 و2018، سيما مع تزامن تلك العقوبات مع انهيار أسعار النفط، الأمر الذي كبد الاقتصاد الروس خسائر فادحة، وتعرضت قيمة العملة الوطنية «الروبل الروسي» لانخفاض كبير.

 

كما يلفت هذا الفريق النظر إلى «التأثير النفسي» للعقوبات؛ إذ امتنع على أثرها كثير من المستثمرين الأجانب – والروس أحيانًا – عن ضخ المزيد من الأموال في الأسواق الروسية، أو عقد المزيد من الشراكات مع الجهات الحكومية، خوفًا من تأثرها بتلك العقوبات، أو قلقًا من مناخ الاستثمار غير الآمن في البلاد، وبالرغم من أن التاثير السلبي لتلك العقوبات على الاقتصاد الروسي كان «محدودًا»، ولم يؤد إلى انهيارات اقتصادية مدوية، فإن المؤيديون للعقوبات يجادلون بأن هدفها الرئيس كان التأثير على قطاعات بعينها في هيكل الاقتصاد الروسي، مثل التصنيع العسكري، والطاقة، والقطاع المصرفي، وهو ما تم بالفعل.

في المقابل يرى فريق آخر من المحللين أن سلاح العقوبات لم يكن سلاحًا فعالًا ضد الروس، فهذا السلاح قد فشل بعد كل تلك السنوات في تغيير السياسة الروسية تجاه أوكرانيا، أو تراجع موسكو عن ضم شبه جزيرة القرم، بل دفعت موسكو إلى إيجاد بدائلها الخاصة.

لا أدري كيف تؤثر تلك العقوبات على روسيا، لكن الأكيد أنها تؤثر بشدة على بلغاريا *رئيس الوزراء البلغاري بويكو بوريسوف معارضًا العقوبات الأوروبية على روسيا

بالإضافة إلى ذلك فإن فرض حظر على بعض التعاملات الاقتصادية والتجارية، فضلًا عن الخطوات الروسية «الانتقامية» المضادة، قد تسبب في خسائر اقتصادية للأوروبيين أنفسهم (تعرض قطاع الألبان في فنلندا مثلًا إلى خسائر كبرى، بعدما فقد حضوره في السوق الروسي الذي كان أحد أهم بوابات توزيعه)، ولذلك فإن خطورة العقوبات ضد موسكو لا تحظى بإجماع في البيت الأوروبي نفسه.

إدارة بايدن تعلن حزمة جديدة من العقوبات

لم يكد الرئيس الأمريكي جو بايدن يستقر في البيت الأبيض، حتى كشر عن أنيابه ضد الدب الروسي، إذ سرعان ما أطلق سهام تصريحاته ضد نظيره الروسي فلاديمير بوتين واصفًا إياه بـ«القاتل»، ومهددًا بأن روسيا ستدفع ثمن أفعالها ضد الولايات المتحدة، ليرد بوتين ساخرًا من كبر سن الرئيس الأمريكي (78 عامًا) واعتلال صحته، في مواجهة كلامية بدا جليًا أنها سترسم معالم العلاقة بين البلدين في ظل الإدارة الأمريكية الجديدة.

وفي مارس الماضي، استهلت إدارة بايدن عقوباتها على روسيا بإعلانها فرض عقوبات على شخصيات وكيانات روسية، قالت إنها متورطة في عملية تسميم المعارض الروسي البارز اليكسي نافالني، وتبعها الاتحاد الأوروبي بخطوات عقابية مماثلة، ويتهم الغرب أجهزة الأمن الروسية بالمسؤولية عن محاولة تسميم نافالني – الذي يقبع في السجون الروسية حاليًا بعدما اختار العودة إلى روسيا إثر تماثله للشفاء في ألمانيا – باستخدام أسلحة كيميائية محظورة.

 

لكن «الضربة» الأمريكية الأكبر ضد موسكو جاءت قبل ساعات، بعدما قررت إدارة بايدن فرض حزمة عقوبات جديدة، شملت طرد 10 دبلوماسيين روس تتهمهم بالتورط في أنشطة استخباراتية، فضلًا عن عقوبات ضد 38 من الشخصيات والكيانات والشركات الروسية التي تتهمها واشنطن بالتدخل في الانتخابات الأمريكية الأخيرة أو بالمشاركة في عمليات قرصنة إلكترونية، وتشمل هذه الحزمة من العقوبات حظر التداول في السندات، والأسهم الصادرة عن البنك المركزي الروسي وصندوق الثروة الوطني، وهي الخطوة التي تعد تصعيدًا نوعيًا من شأنه أن يوجه ضربة قوية إلى قطاعات الاقتصاد الروسي المختلفة.

وتأتي تلك الخطوة بعدما اتهم مسؤولون في المخابرات الأمريكية أجهزة الأمن الروسية بالمسؤولية عن عمليات قرصنة الكترونية جرت في العام الماضي وصفت بـ«أكبر وأخطر هجوم إلكتروني في العالم»، وسميت بـ«سولاروندوز»، وقد تمت العملية للهجوم على 18 ألف شبكة كمبيوتر حكومية وخاصة في الولايات المتحدة، منها وزارة الخزانة، ووزارة العدل، ووزارة الخارجية، كما تتهم الولايات المتحدة المخابرات الروسية بأنها حاولت التأثير في الانتخابات الأمريكية الأخيرة لصالح المرشح الخاسر والرئيس السابق دونالد ترامب.

وفي حين أعرب الاتحاد الأوروبي وحلف الناتو عن تضامنه مع الخطوة الأمريكية، قالت موسكو: إن الأمريكيين «سيدفعون ثمن تدهور العلاقات»، وأكدت المتحدثة باسم وزارة الخارجية الروسية ماريا زاخاروفا أن «الولايات المتحدة ليست مستعدة لتحمل الواقع الموضوعي لعالم متعدد الأقطاب يستبعد الهيمنة الأمريكية».

دولي

منذ سنتين
«فورين بوليسي»: هل تخطط روسيا لغزو أوكرانيا؟

المصادر

تحميل المزيد