ربما لم يثُر جدلٌ عالمي على هذا المستوى حول كتاب أكاديمي في الاقتصاد منذ وقت طويل مثلما حدث مع كتاب «رأس المال في القرن الواحد والعشرين» للاقتصادي الفرنسي «توماس بيكيتي»؛ ما دفع بعض المحللين الاقتصاديين إلى القول إن تأثير الكتاب في الدوائر السياسية والأكاديمية سيشبه تأثير الكتاب المؤسس للفكر الشيوعي الماركسي الذي يشير إليه «بيكيتي» في عنوان كتابه: «رأس المال» لكارل ماركس.
ويقول «بيكيتي» ردًا على الاتهامات التي طالته من المفكرين والكتّاب اليمينيين في أوروبا والولايات المتحدة الأمريكية بأنه «ماركسي»، يقول: «ماركس؟ في الواقع، لم تتسنى لي قراءته.»
لكن الهجوم عليه لم يتوقف، وجاء تناول كتابه الذي صدرت نسخته الإنجليزية في مارس 2014 في أكثر من 650 صفحة، واحتل سريعًا قائمة الكتب الأعلى مبيعًا في أوروبا وأمريكا على غير عادة كتب الاقتصاد الأكاديمية، جاء – في معظمه – مهاجمًا لشخص الكاتب متهمًا إياه باعتناق الماركسية، والمخاطرة بـ «تهديد النظام الرأسمالي العالمي»، دون نقد أفكار الكتاب والبيانات الواردة فيه، وما استنتجه الكاتب منها.
قد يبدو غريبًا أن يثير كتاب يتناول بشكل أساسي قضية عدم المساواة في توزيع الثروة، وسؤاله الأساسي هو «هل سيزيد الفقراء فقرًا والأثرياء ثراءً؟» هذا القدر من النجاح والجدل في دول «العالم الأول» في الغرب دون أن يكون له صدى في العالم الإسلامي والعربي الذي يمر بموجات متتابعة من الثورة على أنظمة حاكمة استمرت لعقود في السيطرة على منابع الثروة والتحكم في مصادر الدخل القومي والثروات الطبيعية لبلادها، كما يلاحظ الكاتب ياسر علوي في مقاله «أخطر كتاب في العالم» المنشور على «بوابة الشروق» مطلع مايو الجاري.
واكتسب الكتاب أهميته من تحليل إحصاءات توزيع الثروة وعدم المساواة في 26 دولة حول العالم، وعبر ثلاثة قرون كاملة؛ ليصل في النهاية إلى استنتاج رئيسي يضرب الوعود الأساسية للنظرية الاقتصادية الرأسمالية: « ستتركز الثروة أكثر فأكثر بين يد القلة على حساب الكثرة، وستتسع فجوة توزيع الثروة بين الأغنياء والفقراء في كل الأحوال.» وتفسير أساسي يرتكز على أن معدل ربحية رأس المال سيزيد دائمًا وبلا سقف عن معدل نمو الإنتاج، وأن ثروات العالم ستتركز في المستقبل القريب في يد مجموعة ممن ورثوا الثروة ولم يكسبوها بعمل أو اجتهاد.
كيف يصل الكاتب إلى هذا الاستنتاج؟
يُقدم الكتاب تحليلًا مكثفًا وشائقًا لقضية عدم المساواة وتطورها من القرن الثامن عشر حتى الآن، ليثبت بطريقة إحصائية بالغة الوضوح والاتساق كيف أن السوق الحر – حتى في دول الرفاه الأوروبية – لن يصل في النهاية إلى تضييق المسافات بين الأغنياء والفقراء، ولن يحقق حلم الثراء للمليارات من الفقراء ومحدودي الدخل حول العالم دون تدخل من البشر؛ مما سيعيد معدلات عدم المساواة في الدخل حول العالم إلى سقفها الجنوني في القرن التاسع عشر.
يمكنك الإطلاع على مجموعة الإحصاءات والبيانات التي يقدمها الكتاب منهنا، وهذا مثال قدمه الكاتب لتحليل عدم المساواة في الدخل في الولايات المتحدة الأمريكية خلال القرن الماضي.
وقضى «بيكيتي» العقد الأخير من حياته في دراسة قضية عدم المساواة، ليصل مع فريقه إلى استنتاجات غيّرت مسار الجدل في قضية توزيع الثروة من تقسيم العالم إلى 20% يحوزون الثروة و80% هم بقية سكان العالم، إلى تقليل هذه النسبة إلى 10% ثم 2% ثم 1% في النهاية.
أين العالم العربي؟
قضية كتلك التي يثيرها الكتاب تجعل من طرح سؤال التنمية والثروة في العالم العربي شديد الإلحاح الآن في ظل خطط تنمية واستثمار يجب أن يواجهها سؤال أكبر من «هل ستنجح؟» وهو: «إذا نجحت، فكيف ستتوزع أرباحها؟ على الأغنياء أم على الشعوب بقطاعاتها المختلفة؟»
لم يتطرق «بيكيتي» في كتابه إلى الشرق الأوسط وأفريقيا بشكل تفصيلي، لكن دراسة جديدة قدمها الكاتب بالاشتراك مع الباحث «فاكوندو ألفاريدو» لمنتدى البحوث الاقتصادية (الدراسة كاملةَ منهنا) تصل إلى نتيجة تفيد باتساع الهوة بين الأغنياء والفقراء وزيادة معدلات تركيز الثروة في يد القلة في الشرق الأوسط أكثر من أي مكان آخر في العالم.
تقول الدراسة: «تعود نسبة 55% من إجمال الدخل في الشرق الأوسط إلى أعلى 10% من متلقي الدخل حاليًا، ﻣﻘﺎﺑل 48% في أمريكا، و 36% في أوروبا الغربية و54% في جنوب أفريقيا. وفي ظل افتراضات معقولة، يمكن التكهن أن أعلى 1% من متلقي الدخل في الشرق الأوسط يستأثرون بـ 25% من إجمالي الدخل.»
ويستمر الجدل حول الكتاب وكاتبه كونه يحرّك المياه الراكدة في الدراسات الاقتصادية بواسطة بيانات وإحصاءات لم تتوفر بهذا التركيز والتحليل من قبل؛ فهل يكون لبلاد العرب نصيب فيه؟
تحديث: تصدر ترجمة الكتاب إلى اللغة العربية من «دار التنوير»، بترجمة وائل جمال وسلمى حسين (يونيو 2015).