كان البحر الأبيض المتوسط مهدًا للحضارات منذ ما قبل الميلاد وعُرف بأسماء كثيرة، أسماه الرومان «بحرنا»، وسماه الأتراك «البحر الأبيض»، وسماه اليهود «البحر العظيم»، وسماه الألمان «البحر الأبيض المتوسط».
إلى جانب المناخ الاستثنائي والجمال الطبيعي الذي يحظى به حوض البحر الأبيض المتوسط، فإن آلاف السنوات من الحضارة والثقافات المختلفة جعل للحياة حوله نكهة مميزة، وإن فصلهم البحر الواسع، فقد جمعت بين من يعيشون حوله ميزات وطباع مشتركة.
كان المؤرخ الفرنسي فرديناند بروديل يتساءل: «هل المتوسط فضاء جغرافي خاص (يتميز ببعض السمات المختلفة عن فضاءات جغرافية أخرى)؟ هل هو مجال لحراك تاريخي نوعي؟ هل له خصوصيات عرقية وإثنية مختلفة عن غيره من الفضاءات الأخرى؟ هل له ميزات فكرية ومعرفية وعلمية مختلفة؟ هل عاداته الاجتماعية وتقاليده وقيمه لها بعض التميز عن غيره من الفضاءات؟» وقد حاول الإجابة عن هذا السؤال في كتابه «البحر الأبيض المتوسط والعالم المتوسطيّ في عهد فيليب الثاني».
أقدم الحضارات ورمز الحكمة
كان البحر الأبيض المتوسط مهدًا للحضارات منذ ما قبل الميلاد وعُرف بأسماء كثيرة، أسماه الرومان «بحرنا»، وسماه الأتراك «البحر الأبيض»، وسماه اليهود «البحر العظيم»، وسماه الألمان «البحر الأبيض المتوسط»، وظل رمزًا للإبداع والبحث عن الحكمة ومعنى الحياة وحب البشر والطبيعة، ولطالما كان محيطه قادرًا على تشكيل شخصيات بارزة قدمت مساهمات ملحوظة في التطور التاريخي للفلسفة والفن والموسيقى والأدب والعلوم والتكنولوجيا.
شهد حوض البحر الأبيض المتوسط ميلاد حضارات كبيرة من بلاد ما بين النهرين ومصر وشبه جزيرة الأناضول ومقدونيا والمدن اليونانية وقرطاج وروما وبغداد والأندلس، من بيزنطة إلى الإمبراطورية العثمانية، ومن الإسكندرية إلى بولونيا قامت هذه الحضارات ببناء أساس متين للحضارات العالمية. فلا يمكننا تخيل تاريخ العالم دون الحضارات المصرية والهيلينية والرومانية والعثمانية.

مكتبة الإسكندرية القديمة – مصدر الصورة : الجزيرة
في حوض المتوسط أُسست مكتبة الإسكندرية القديمة في مصر، وكانت واحدة من أكبر وأهم المكتبات في العالم القديم، وكانت العصور الوسطى هي العصر الذهبي للمسلمين في المنطقة فشهدت اتساع رقعة الدولة الإسلامية؛ فامتدت لتشمل جزءًا من آسيا الصغرى وبلاد فارس وشمال أفريقيا وشبه الجزيرة الإيبيرية لعدة قرون، وكانت الأندلس والمغرب مراكز ثقافية بديلة لبغداد. وأسهم العديد من الفلاسفة بشكل كبير في تطور الفلسفة الإسلامية في المنطقة، بما في ذلك جابر بن حيان، والفارابي، والبيروني، وابن سينا، والغزالي، والبغدادي، وابن رشد، وابن خلدون.
وفي حوض البحر الأبيض المتوسط أيضًا نشأت أقدم جامعات العالم والتي تعد مؤشرًا قويًا على التطور الفكري في المنطقة، فقد خلق التراث التاريخي الغني لهذه المنطقة بيئة فكرية استثنائية عززها ظهور العديد من الفلاسفة والفنانين والموسيقيين والعلماء.
تأثّر لغوي
في كتابه «البحر الأبيض المتوسط.. بحر لغاتنا»، يؤكد لويس جان كالفي، عالم اللغات وصاحب العديد من الكتب حولها، أن إحدى الميزات الأساسية في حوض البحر الأبيض المتوسط هو أنه: «مجال مغلق وقليل التأثر تاريخيًا بالعوامل الخارجية».
ويؤكد المؤلف على سبل التواصل التي وجدها في اللغات التي شكّلت نوعًا من «الذاكرة المشتركة» واعتبرها مثالًا على التبادل والغزوات والتداخل. ومن خلال مختلف الأبجديات ودلالات الكلمات والكتابات يؤكد الكاتب تعدد مؤشرات «التفاعل اللغوي» على المستوى اللغوي والقواعد اللغوية، وحتى في وسائل التعبير في الحياة اليومية فهناك آثار للغة اليونانية في مرسيليا وللغة العربية في برشلونة، واللغة الفرنسية في الإسكندرية، والإيطالية في تونس، والتركية في كل مكان من حوض البحر الأبيض المتوسط تقريبًا.

صقلية – مصدر الصورة
منذ القدم كان الاتصال بين مدن البحر الأبيض المتوسط أحد عوامل وحدة شعوبه على اختلاف الحضارات القائمة فيه، بين جنوة والبندقية وميلانو وبرشلونة والجزائر ونابولي والقسطنطينية والقاهرة، كانت شبكة المواصلات هذه هي التي تفسر هذا التقارب والتمازج والتاريخ المشترك، لقد نقلت السفن البضائع والسلع والمواشي والبشر، ومعها الموضات والتقنيات وحتى الأمراض والأوبئة، ومثلت الهجرة أحد الملامح العامة لمدن المتوسط.
قواسم مشتركة في الأدب أيضًا؛ إذ يشترك أدب شعوب البحر الأبيض المتوسط في تشكلاته الرمزية والدلالية، والمتأمل لآداب هذه الشعوب يجد قواسم مشتركة من الاهتمامات والصيغ الجمالية والفنية تعكس التلاقح الحضاري.
أكثر من 100 كلمة مشتركة بين العربية والتركية.. هل لفتت نظرك في «قيامة أرطغرل»؟
عادات صحية ودفء عائلي
بفضل مناخه الدافئ والجاف أمكن زراعة محاصيل متنوعة في حوض البحر الأبيض المتوسط أنتجت لسكانه مائدة غنية وصحية فضلاً عن المأكولات البحرية الطازجة. كان الفقر سمة لازمت بلاد البحر الأبيض المتوسط في الماضي، وبعضها في الحاضر، ولذلك كان للطعام احترامه، ويُعرف أهل المتوسط بحبهم للطعام، وهم يعتبرونه أحد أسباب السعادة، وبسبب النظام الغذائي الذي يعتمد في أغلبه على الخضروات والفواكه؛ فشعوب البحر الأبيض المتوسط لديهم نسبة أقل في معدلات البدانة والإصابة بأمراض القلب والسكري.

تتشابه مدن كثيرة في حوض المتوسط حتى لا يكاد المتأمل يفرق بين شوارعها – مصدر الصورة
ويحرص أهل المتوسط في معظمهم على أخذ قيلولة لساعتين في منتصف النهار، وهي عادة تحارب الإجهاد وتبعث الطاقة، وربما أحد أسباب الأخرى أن أهل المنطقة لا يأخذون كل الأمور على محمل الجد ويحاولون الاستمتاع بالحياة مهما أحاطهم من مشكلات وصراعات، وهناك دفء يشعر به الزائر للمنطقة، وكأنه نتاج ثقافة وتجارب آلاف السنين يحلق دائمًا في فضاء المنطقة، والحياة الاجتماعية والاهتمام بمشاركة العائلة أحد مكونات الثقافة المتوسطية.
لا يهتم سكان بلاد البحر الأبيض المتوسط كثيرًا بممارسة الرياضة، وما يعوض ذلك هو أن عاداتهم اليومية في الغالب مليئة بالحركة وصعود السلالم والمشي، كما النظام الغذائي لبلاد البحر الأبيض المتوسط أحد الأنظمة الأكثر صحية في العالم، وتعتمد غالبًا على الخضراوات والحبوب ومنتجات الألبان ولا تمنع اللحوم.
مزاج متقلب
يعتبر مناخ البحر الأبيض المتوسط والبنية الجغرافية البيئة المتوسطية أحد العوامل التي ساهمت في تكوين سيكولوجية الشعوب المتوسطية، تقلب المناخ بين التأثير الصحراوي للصيف الأفريقي والتأثير الأطلسي البارد الممطر يلقي بظلاله على مزاج قاطني حوض البحر الأبيض المتوسط.
كما أن قدم الحضارات التي قامت على أرضيه تجعل سكانه مرتبطين بالماضي دائمًا، «إنهم ليسوا شعوبًا شابة حديثة، إنها تامة النضج وهرِمة في بعض ملامحها»، كما يقول أندريه سيغفريد في كتابه (روح الشعوب)، وهذه الخبرة والاتصال بالماضي تجعلهم أميل لعدم منح الثقة للآخرين بسهولة.
الطهي
لا يتأثر مطبخ البحر الأبيض المتوسط بثقافة بعينها؛ فهو نتاج تبادل ثقافي كبير، لكن المشترك أن التربة الغنية والمناخ المعتدل أسهم في ازهار الإنتاج الزراعي، ولأن البحر الأبيض المتوسط كان في قلب قارات العالم القديم فقد كان مركزًا تجاريًا رئيسًا، وقد أدى التبادل التجاري للسلع إلى انتشار واسع لمكونات معينة في جميع أنحاء مطابخ هؤلاء السكان على اختلافهم، وهكذا أصبحت بعض العناصر الأساسية لمطبخ البحر الأبيض المتوسط تحظى بشعبية في جميع أنحاء المنطقة. العنصر الأكثر استخدامًا وشهرة في مطابخ البحر الأبيض المتوسط هو زيت الزيتون.

تعتبر حمية البحر الأبيض المتوسط من أكثر الأنظمة الصحية – مصدر الصورة
ورغم اختلاف استخدام الأعشاب، إلا أن تقاليد الطهي المتوسطي تستخدم بشكل عام: الريحان، والأوريغانو، والزعتر، وإكليل الجبل، والبردق، والشبت، والنعناع، والثوم، والطرخون، والشمر، والكزبرة، والزعفران.
إذا كنت من محبي الطعام.. 6 تطبيقات مذهلة ستضع اللمسة السحرية على وجباتك
المنازل والعمارة
في عمارة أغلب المدن في حوض المتوسط يعدّ اللون الأبيض هو الملك في واجهات المنازل والجدران الداخلية، وتركز أغلب التصميمات على السماح لضوء الشمس بالدخول لأكبر مساحة ممكنة في المنزل، وتشترك العمارة في مواد البناء، ويمكن لمنزل في جزيرة سانتوريني اليونانية أن يشبه المنازل في بعض المواقع الإسبانية، مثل: موخاكار، أو منازل سيدي بو سعيد في تونس.
وتتشابه الشوارع في تصميمها الذي يستفيد الاستفادة القصوى من المساحة المتاحة ويسعي في الوقت نفسه إلى حماية المارين من الطقس القاسي (الشمس والرياح والعواصف وغيرها) .
ليس هناك خصوصية.. إنها ساحة للصراع
غير أن هناك من يرى أن خصوصية الثقافة المتوسطية مجرد وهم فهناك امتدادات في جغرافية القارات التي توجد بها بلدانه. وهي ملاحظة ذكرها الكاتب اليوغسلافي بريدراك ماتفجيفتْش في كتابه «تراتيل متوسطية»؛ إذ أكد أن شعوب البحر الأبيض المتوسط ظلت عاجزة عن أن تكون متوسطية عبر مختلف حقب التاريخ بسبب التحولات الكبرى التي عرفها هذا الفضاء دائمًا.
لكن المؤلف يعود ليقول: «ليس لحوض المتوسط نشيد ولا علم ولا عملة مشتركة، بينما تنتمي شعوبه إلى ثلاث قارات. وهي شعوب تتفاعل في ما بينها وتحتك كل منها بالأخرى وتتبادل في ما بينها نظرات التعالي أو الإعجاب، لكنها غالبًا تتناحر في ما بينها أكثر مما تتمازج».
ويشير المؤلف إلى أن أصول أغلب شعوب حوض البحر الأبيض المتوسط إما لاتينية للهنود الأوروبيين الذين قدموا من الشمال، أو يونانية، أو عربية، والأتراك من الشرق والعرب من الجنوب. ويعبر عنها أيضًا بـعوالم بيزنطية ولاتينية وإسلامية.
لذا يقول المؤرخ الفرنسي فرديناند بروديل: إنه لا يمكن تعميم حالات التمازج، إلا في المدن التجارية والحدودية، فقد احتفظت المدن الأخرى بخصوصيتها، ويوضح أن هناك ثلاث حضارات أو شخصيات عاشت في حوض المتوسط لقرون وقرون، ولم تنقطع رغم تغيرات الزمن، الأولى هي الحضارة الغربية أو الرومانية التي يعتبرها الكاتب الأشد مقاومة بين حضارات المتوسط، والحضارة العربية الإسلامية، ويشبه الكاتب الحضارتين «بالهر والفأر» على الدوام، ويقول: «إنهما عدوان متكاملان؛ الأول ابتكر الصليبية وعاشها، والثاني ابتكر الجهاد وعاشه»، أما الحضارة الثالثة فهي الحضارة اليونانية.
كان حوض المتوسط ملاصقًا من جهة الشرق لأرض مهبط ما يعرف بالرسالات السماوية، وقامت حوله أقدم الحضارات الإنسانية؛ البابلية والآشورية والمصرية والإغريقية، ثم الفارسية والرومانية فالإسلامية، وأخيرًا الحضارة الغربية التي تقود العالم اليوم، وهكذا ظل المتوسط قرونًا طويلة مركز العالم بموقعه الذي يتوسط قارات العالم القديم، وكان البحر الوحيد تقريبًا المزدهر تجاريًا واستراتيجيًا، خاصة في القرون البعيدة حين كانت وسائل النقل البحري ضعيفة ومحدودة.
ولأهمية مضائقه: جبل طارق، والبوسفور، والدردنيل، فقد ظلت ساحة لصراع الأمم في سعيها للسيطرة على العالم، وهكذا كان البحر ممرًا حيوية للجيوش وللهجرات عبر العالم، وهو ما يُفسر التنوع العرقي واللغوي والديني والثقافي والحضاري الهائل لحوض المتوسط، ولهذا اعتبره بعض المؤرخين وعلماء الاجتماع «مركز العالم».